طوابير من الناس أمام المخابز في طرابلس أصبح مشهداً مألوفاً، كما أن حجم وسعر الرغيف لم يعد يشغل المواطن الذي لاهم له سوى الحصول على الخبز بحد ذاته.

كل هذا حدث بسبب النقص الحاد في مادة الدقيق في العاصمة وعدد من المدن المجاورة لها، بعد أن قلصت الحكومة من مخصصات الدقيق المدعوم للأفران إلى النصف، ما أدى إلى توقف عدد كبير منها عن العمل.

لادقيق ولا عمال

يقول (أ. ق) صاحب مخبز يقع وسط طرابلس إنه يعمل بنصف دوام كحال معظم الأفران في العاصمة، وأن الكمية التي يعجنها مخبزه يومياً من الدقيق لا تتعدى خمسة قناطير، فيما يصل احتياج المستهلكين بمنطقته إلى ضعف هذه الكمية في اليوم.

فمخازن السلع التموينية سمحت لأصحاب المخابز بسحب نصف الكمية الشهرية المخصصة لهم من الدقيق المدعوم وهي 150 قنطار فقط عوضاً عن 300 قنطار.

هذا النقص في الدقيق صاحبه "ارتفاعٌ في أسعار بقية لوازم إنتاج الخبز، من خميرة وملح وزيت ونفط وعمالة، يوضح (أ. ق)، مؤكدا أن هامش الربح الذي يحصل عليه لا يتعدى أربعة دنانير للقنطار الواحد.

ويتابع صاحب المخبز: "لم يعد هناك من يعمل معي سوى شابين ليبيين من الطوارق نازحين في طرابلس، اشترطا علي رفع أجرهما إلى الضعف بعد مغادرة العمالة المصرية التي باتت مهددة، وطلب الحكومة التونسية من رعاياها الرحيل عن ليبيا حرصاً على حياتهم بسبب الأوضاع الأمنية في البلاد".

(و. غ) مالك فرن آخر بطرابلس وجد حلاً لنقص العمالة، إذ يقوم بخبز الخبز بعد تجهيز العجينة بمساعدة عدد من شباب المنطقة الذين يغادرون المخبز فور حصولهم على احتياجهم من الخبز.

وعلى هذه الحالة يؤكد أن ما يتحصل عليه من أرباح نهاية الشهر لا يتجاوز 300 دينار بعد دفع قيمة إيجار المبنى الذي يستعمله، مشيرا إلى أنه وعدد من المخابز الأخرى لم يحصلوا حتى نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي على مخصصهاتهم الشهرية من الدقيق عن الشهر الذي سبقه.

تلاعب وغش

هذه الظروف والخسائر دفعت بالكثير من الخبازين إلى الغش بطريقتين، إما من خلال التصرف في كميات الدقيق المخصصة لهم وبيعها في السوق السوداء بأسعار وصلت إلى 45 دينار للقنطار الواحد الذي يحصلون عليه مقابل 3 دنانير، أو التلاعب بوزن وسعر الرغيف المحدد من قبل الدولة.

يقول جمال الشيباني مدير صندوق موازنة الأسعار، وهي الجهة المسؤولة عن تأمين الدقيق المدعوم للمخازن في حديثه لـ"مراسلون" إن ديون الصندوق المتراكمة للشركات والمصانع والمضارب والمطاحن التي توفر كافة السلع الغذائية للسوق الليبي بلغت حتى نهاية العام 2014 أكثر من 3 مليار دينار ليبي، منها ملياري دينار (حوالي 1.8 مليار دولار أمريكي) ديون تتعلق بمادة الدقيق، وهي في تزايد مستمر، الأمر الذي بات يرهق كاهل المترددين على الصندوق وجعلهم غير قادرين على توفير السلع الغذائية وعلى رأسها مادة الدقيق.

ويطالب الشيباني مصرف ليبيا المركزي بتسديد هذه الديون محذرا من أن الإهمال والتراخي في دفعها سيؤدي إلى كارثة مؤكدة تتمثل في عدم توفر رغيف الخبز للمواطن في كل المدن الليبية.

نفي وتكذيب

إلا أن المتحدث باسم مصرف ليبيا المركزي عصام العول صرح لـ"مراسلون" بأن المصرف تواصل مع المسؤولين بصندوق موازنة الأسعار، ونفى في هذا الصدد قيام المصرف بعرقلة تسييل الأموال المخصصة للصندوق بشأن سلعة الدقيق المدعوم من الدولة، بل وأكد بأن المصرف المركزي قام بعد اجتماعات مع الصندوق بتحويل المبلغ المطلوب بشأن توفير الدقيق وضمان عدم نقصان هذه السلعة والمتاجرة بِهَا.

وهو ما نفاه مدير صندوق موازنة الأسعار جمال الشيباني، الذي قال إن الصندوق "لازال ينتظر الإفراج عن المبلغ الذي تمت الموافقة على منحه والذي يقدر بـ 200 مليون دينار، تمثل جزءاً من التزاماتنا عن سنة 2013، بل إن هذا المبلغ لازال قيد التحقق من قبل ديوان المحاسبة"، وتابع مستنكراً "المصرف المركزي يقول مالا يفعل".

الشيباني الذى بدا مستغربا تصريحات المصرف المركزي أكد أنه على استعداد للجلوس مع محافظ المصرف لتوضيح حجم المشكلة التي يعانيها الصندوق، محذراً من أن استمرار المشكلة سيؤدي لإيقاف 25 مصنعاً للدقيق عن العمل بسبب نقص المادة الخام – القمح – ناهيك عن توقف جزء أخر من المصانع بسبب الديون المتراكمة على الصندوق.

اتهامات بالفساد

حديث الشيباني كان يشوبه التخوف من الاستمرار في تجاهل التزامات الصندوق المتراكمة، والذي جاء نتيجة لأسباب متعددة قال إن أهمها اتهام الصندوق بالفساد، إلا أنه دفع التهمة الموجهة إليهم بالتلاعب بأسعار الدقيق والقمح عند التعاقد، منوهاً إلى أن تحديد قيم الشراء تتم من خلال مكتب التسعيرة بوزارة الاقتصاد وليس من صندوق موازنة الأسعار.

الصندوق بحسب الشيباني يعاني من مشاكل عدة في الجانب المالي، ليس وحده المسؤول عنها، فمثلاً "يعمل الصندوق من خلال تعاقداته على استيراد احتياجات ليبيا من القمح والدقيق لثمانية مليون وتسعمائة ألف مواطن (هذا العدد يفوق عدد سكان ليبيا)، هذا هو الرقم المحال إلينا من الجمعيات الاستهلاكية التي توفر المواد التموينية للمواطن، لا بد من إيجاد طريقة مثلى للتأكد من بيانات هذه الجمعيات، كنا قد اقترحنا تفعيل الرقم الوطني لهذا الغرض ولكن دون جدوى".

مالية بحتة

يقول مدير عام شركة المطاحن والأعلاف جمال جويلي إن إشكالية الدقيق مالية بحتة، علاجها هو إيجاد حلول جذرية من قبل مصرف ليبيا المركزي لدفع الديون المتراكمة، "وإلا فلا شيء سيوقف تلاعب أصحاب المخابز بمخصصاتهم وبيعها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، أو رفع سعر الرغيف للمواطن في غياب رجال الحرس البلدي".

ولم ينفِ الرائد محمد الشطي رئيس وحدة جهاز الحرس البلدي في منطقة أبو سليم وجود تلاعب بالأوزان والأسعار داخل بعض الافران في المنطقة، مؤكداً أنهم يعملون على متابعة المخابز والعاملين عليها، "لكن انتشار السلاح وقلة الإمكانيات يربكان عملنا الذي نقوم به بإمكانياتنا المحدودة، نحن نحيل المخالفين للنيابة العامة وتصل المخالفات أحيانا حد قفل المخبز نهائياً" يقول الشطي.

نتائج صعبة تضاف إلى كل الواقع الصعب في ليبيا ستحدث مؤكداً مالم تتدخل الجهات المسؤولة لتضع حداً لمعاناة الخبازين، الذين يصارعون لتستمر أفرانهم في توفير قوت الليبيين اليومي، بعد أن صار هاجس توفير المادة الخام المتمثلة في الدقيق هماً يؤرقهم.

-مراسلون