صعدت العلاقات بين الجارتين روسيا والصين منذ  تفكك الاتحاد السوفييتي وتأسيس الاتحاد الروسي في عام 1991، الى تعاون استراتيجي كبير، ولعل عوامل كثيرة تعزز وشائج الترابط بينهما، على رأسها العداء للغرب ومشروعه الامبريالي، وثمة حدود جغرافية طويلة بينهما  تصل إلى 4209 كم، تشكل عمقا استراتيجيا يدعم ترابطا اقتصاديا محوريا، فالصين باقتصادها الضخم المتعطش للموارد الخام والطاقة، تغذيه روسيا الغنية جدا بالطاقة والمواد الخام، وهكذا تكامل كان مفيدا لروسيا على مدى العقود الثلاث الماضية، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة الامريكية  كقطب وحيد دوليا، بدا التقارب بين الصين وروسيا يتأسس في هدوء، ففي عام 1992، أعلن البلدان أنهما يسعيان إلى شراكة بناءة، ثم أعلنا عام 1996، بانهما في  شراكة إستراتيجية، ثم وفي عام 2001، وقعا معاهدة  صداقة وتعاون، وفي عام 2013 قام الرئيس الصينى شي جين بزيارة تاريخية إلى موسكو ليعلن مع الرئيس فلاديمير بوتن أن البلدين تربطهما علاقة خاصة ،وشراكة وثيقة عسكريا، واقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا، و يتقاسمان ذات الموقف ويدعم كل منهما الآخر في العديد من القضايا العالمية ، وهو ما يطرح هذه الأيام سؤالا عن دور الصين ووقوفها إلى جانب حليفتها روسيا التي تواجه هجمة  إعلامية غربية  ضخمة و حصارا يسعى لعزلها اقتصاديا وثقافيا وتقنيا وحتى على وسائل التواصل الاجتماعي .فأين هو الدور الصيني ؟

ان الاجابة على هذا السؤال المهم تحملنا بالضرورة الى فهم استراتيجية الصين في هذه المرحلة الحساسة ،على طرفي العلاقة من جانب السياسية والاقتصادية مع الغرب ، ومن جانب دعم روسيا كحليف استراتيجي .

قبل انطلاق العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لقاءا مع نظيره الصيني شي جين، على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية  ببكين ، وارسل الرجلان تحذيرا صريحا للنيتو من التوجه شرقا ، وكان الكرملين قبل ايام من الزيارة اتهم الغرب بالتحضير لغزو أوكرانيا ، ولم يكن التحذير فقط على طاولة الاجتماع التاريخي  ، بل دعم  بتوقيع  15 اتفاقية  في مجالات  أهمها التجارة والاستثمار  ومكافحة الاحتكار والأقمار الصناعية والرقمنة بل وتعززت الاتفاقيات برفع الحظر الذي فرضته الصين في وقت سابق على واردات القمح والشعير الروسية  بسبب مخاوف  من وجود افة في المحاصيل ، ولاحقا اعلنت ادارة الجمارك الروسية  بعد ساعات من دخول الجيش الروسي الى أوكرانيا عن تطبيق الاتفاق وعودة الصادرات الروسية من القمح الى الصين

 وبعد أسابيع قليلة من هذا التوطيد للعلاقات ، بدأت روسيا عملياتها في أوكرانيا ، وبدأ الغرب حربه بطريقة العزل والتضييق من خلال عقوبات ضخمة  تستهدف الاقتصاد الروسي ، ما دفع مراقبي العلاقات بين البلدين الى انتظار الخطوات الصينية  لدعم حليفتها ، غير أن الصين وحتى الآن تتعامل مع الموقف بدعم حليفتها عبر الموقف السياسي واعلاميا .

وتخوض روسيا الحرب على جبهتين ، جبهة النار على الحدود الاوكرانية  وفيها تواجه كييف المنفردة عسكريا، وجبهة اخرى مع الغرب سلاحها العقوبات وهدفها اضعاف موسكو وشل قدراتها على الصمود ، وهنا تعي الصين أن انخراطها في الاشتراك في حرب روسيا العسكرية يقودها لامحالة للعقوبات  الاقتصادية، وهو ما لا تريده بكين ،ولن يخدم موقف محور الحليفين عمليا ، أما على جانب الحرب الاقتصادي فامر يحتاج الى معرفة حجم المصالح الاقتصادية للصين مع روسيا ومع الغرب .

  فما حجم تعاون الصين بين روسيا والغرب  ؟

في عام 2020 وبرغم الإجراءات الاحترازية لمواجهة  كورونا وصل حجم التبادل التجاري بين الحليفين الصين وروسيا الى 94.5 مليار دولار ، ثم و بمعدل قياسي  ارتفع العام الماضي  2021  إلى 147 مليار دولار  اي بنسبة  زيادة 36%  ، واعلن الزعيمان الروسي والصيني مطلع العام الحالي عن طموح بلديهما لزيادة حجم التجارة  الى 250 مليار دولار بحلول العام 2025 ، وتتنوع السلع التجارية بين البلدين ويشكل قطاع الطاقة ثلث  التجارة  فروسيا هي ثاني أكبر مورد للصين بعد السعودية   إذ يبلغ حجم واردات الصين  من النفط الروسي 16%  ومن الغاز %5  

كما تعتبر الصين اكبر مستهلك للفحم  الروسي بحجم 15% من صادراته الروسية ، واخر الصفقات المبرمة بين البلدين مطلع هذا العام على الفحم بلغت عشرين مليار دولار ، وبالمقابل تستورد روسيا من الصين نحو70%من حاجتها لأشباه الموصلات الداخلة في الصناعات الالكترونية من مكونات السيارات واجهزة الكمبيوتر  والهواتف النقالة ، وحيث تعمل اكبر الشركات الصينية في مجال  التقنية بما يقدر 60% من السوق الروسي منها عملاق صناعة الإلكترونيات الصيني  "OPPO " ، وتحرص الصين على تنمية هذه العلاقات إلا انها في الوقت ذاته  ترتبط بعلاقات اقتصادية متميزة مع أوروبا ،   وازاء هذا الوضع الحساس والمعقد ما الذي يمكن تقدمه الصين لمؤازرة حليفتها روسيا ؟

لعل أكثر العقوبات ايلاما للاقتصاد الروسي، هو حذف سبع بنوك روسية من جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك سويفت ، وظهر تكهن عقب ذلك بان تلجأ روسيا والصين الى استخدام نظام "سيبس" الصيني المدعوم من بنك الصين الشعبي (PBOC) ، ولكن لماذا طرح هذا الافتراض ؟

الاجابة انه وبعدما فرضت عام 2019، عقوبات على ايران تقضي بمنع المصارف الايرانية من استخدام نظام  "سويفت" ربطت طهران نظام المقاصة المالية المحلي (SEPAM) الخاص بها بنظام روسيا لتحويل الرسائل المالية  "إس بي إف إس" ، ما جعل البلدين  يجريان معاملات عابرة للحدود.

 غير أن المشاكل التى تواجه روسيا مع استخدام نظام سيبس الصيني اهما انه صغير للغاية كنظام مدفوعات يضم 75 مصرفا فقط  ،معظمها صينية  ، وتتم العمليات خلاله  باليوان الصيني ، وبحجمه لا يكون بديلا لنظام سويفت الذي يضم أحد عشر ألف مؤسسة مالية منها 300 مؤسسة مالية روسية ، عدا أن اليوان الصيني هو عملة نظام سيبس والتي تشكل فقط 3% من مدفوعات التجارة الدولية ، مقارنة بالدولار الذي يسيطر على التبادل التجاري بين روسيا والصين .

بل إن القطاع المصرفي الصيني في هذا الصدد كان براغماتيا في تعامله مع روسيا خوفا من أن تطاله العقوبات الدولية ، فمثلا أخذ  المصرف الآسيوي لاستثمارات البنية التحتية "AIIB" والذي يعتبر منافسا لصندوق النقد الدولي، ومقره بكين، قرارا بتعليق الأعمال المرتبطة بروسيا وبيلاروس ، كما قام مصرف  أوف تشاينا وهو اكبر المصارف التجارية الصينية بفرض قيود على تمويل شراء المواد الأولية من روسيا خوفا من انتهاك العقوبات  وعلى رأس تلك المواد الفحم ، ولان الحكومة الصينية تعي الدوافع وراء قرارات المصارف في البلاد ، فمن غير الوارد اطلاقا ان تجبر اي مصرف لاتخاذ إجراءات مختلفة تجاه العقوبات المفروضة على روسيا ، اذ للصين حساباتها حتى لاتقع تحت العقوبات ،وتخسر علاقاتها التجارية والاقتصادية مع اوروبا وهي علاقات تمثل حجر زاوية في استراتيجيات الصين ، والتي يبلغ حجم تجارتها مع أوروبا نحو 18% مقارنة مع روسيا المقدر بــ 2.5 %  ، فحجم التبادل التجاري الروسي الصيني  147 مليار دولار بينما يقابله  بالاتحاد الاوروبي  828 مليار دولار ومع امريكا  756 مليار دولار

فهل يعني ذلك أن موقف الصين  صعب ولا يمكنها من الوقوف مع حليفتها روسيا ؟ وقد تشابكت المصالح الاستراتيجية بين البلدين ووقعت الاتفاقيات وكان الهدف مشتركا  ؟

في الواقع إن المتبصر في تعامل الصين مع الحرب الروسية الاوكرانية، يدرك الحكمة الصينية في التعامل ببعد نظر ، و لنتوقف عند  كلمة الرئيس الصيني في الاجتماع الذي عقد في أعقاب اندلاع المواجهة الروسية الأوكرانية ، وجمعه مع إيمانويل ماكرون الفرنسي  والمستشار الالماني أولاف شولتس ، حيث قال  "إن العقوبات الغربية  سترفع  أسعار السلع  و ستؤثر على التمويل العالمي والطاقة  والنقل  واستقرار سلاسل التوريد ، و ستضعف الاقتصاد العالمي  الخارج من وباء كورونا  وانه ذلك لن يكون في مصلحة اي طرف على الاطلاق " ، وهذه الرسالة الصينية  البليغة موجه لحث اوروبا للنظر في المصالح المشتركة  فخام برنت وصل 139 دولار  وأسعار الغاز في آسيا  85 دولار  لكل مليون وحدة حرارية بريطانية ، وهو خطاب ايضا يشير الى المصالح بين الصين واوربا وأوروبا .

وجدير ايضا ان نعرف أن الصين ترتبط مع أوكرانيا بمصالح اقتصادية ، إذ تستثمر في  اوكرانيا في مجال البنية التحتية  ضمن مبادرة الحزام والطريق او طريق الحرير وهو المشروع التاريخي الاستراتيجي الصيني ، ولاهمية هذا المشروع الذي يعبر دولة اوكرانيا و لحجم علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا ن تعلن الصين دعما اعلاميا وسياسيا لصالح روسيا وهي تدرك  أن اوروبا لا تستطيع تعويض خام النفط الروسي بسرعة ، اي أنه لا مجال متاح لحضره من السوق ، وبذلك تستفيد روسيا من اشتعال الأسعار ويجعل كفتها أرجح في الحرب برغم العقوبات الاقتصادية . 

وحتى تنتهي الحرب فان الصين تواصل بناء قوتها والبقاء على موقف سياسي داعم لحليفتها  روسيا  كما يبقى مشروع طريق الحرير الذي يعبر اليوم  أوكرانيا في نموه ، وكأن الصين تمهد هذا الطريق وتراه يمر معبدا في جغرافيا اقتصادية وسياسية جديدة تتشكل .