غموض كبير يسيطر على الشارع الليبي حول طبيعة المعارك في العاصمة طرابلس، وأهدافها الحقيقية وحول الأطراف المشاركة فيها. وإن بدا واضحًا -للجميع- أنّ المستهدف من هذه المعارك هي المليشيات المسيطرة على العاصمة طرابلس خاصة "كتيبة ثوّار طرابلس" بقيادة هيثم التاجوري، و"الدّعم المركزي بأبوسليم" بقيادة غنيوة الككلي، وقوّة الرّدع التي تسيطر على قاعدة معيتيقة الجوية والسجن التابع لها، فإنّ الأطراف المهاجمة يلفها الغموض حول من يقف وراءها وما هو هدفها الحقيقي من إعلانها للحرب، وماهي تحالفاتها وما يقف وراء هذا الهجوم في هذا الوقت بالذّات ؟ 


** المجلس الرئاسي وفشل الترتيبات الأمنية: 

يبدو جليا أن عدم تطبيق المجلس الرئاسي لملحق الترتيبات الأمنية حسب ما نصّ عليه اتفاق الصخيرات الذي جاء بالمجلس الى السلطة في ليبيا، واكتفائه بضم مجموعة من المليشيات المسيطرة على طرابلس وانضمامها الى وزارة داخلية الحكومة التي شكّلها، قد خلق حالة من عدم التوازن في العاصمة ذاتها وفي المشهد الليبي عموما وعمّق الأزمة في ارتباطها بالوضع الهش أصلا للاتفاق السياسي.

تبدو العاصمة قبل الحرب الأخيرة، في حالة هدوء منذر بالعاصفة، تحالف لمليشيات منتشرة في طرابلس، طردت مجموعة أخرى من المليشيات التابعة لحكومة الانقاذ الوطني المنحلة ومعظمها كتائب تابعة للإسلاميين (خاصة الجماعة الليبية المقاتلة) وأخرى جهوية داعمة لتلك الحكومة (مليشيات من مدينة مصراتة)، لتسيطر على معظم المناطق وسط العاصمة.

وأهم الكتائب الداعمة لحكومة الوفاق التي تعتمد عليها لبسط نفوذها في العاصمة هي :

1- كتيبة ثوار طرابلس، الكتيبة الأقوى في المدينة، والتي تسيطر على عين زارة حتى سوق الجمعة وغرب طرابلس في القرجي وحي الأندلس حتى قرقارش

2- الدعم المركزي أبوسليم التي تسيطر على حي أبو سليم الكبير.

3- الكتيبة 301 الحلبوص (من مصراتة) المنضوية تحت داخلية الوفاق والتي تسيطر في الجنوب الشرقي للعصامة حتى السواني.

4- قوّة الرّدع الخاصة: وتتمركز أساسا في مطار معيتيقة المطار الوحيد في العاصمة بعد حرق مطار طرابلس الدولي جنوب العاصمة خلال عمليّة فجر ليبيا في العام 2014، ومعيتيقة عبارة عن مطار وقاعدة عسكريّة وسجن يحتوي على عدد كبير من المتطرفين والارهابيين المنتمين الى تنظيم داعش، ممن تم القبض عليهم خلال عملية البنيان المرصوص في سرت أو في العاصمة طرابلس.

5- النواصي: وتسيطر في سوق الجمعة شرق معيتيقة، واحدة من الكتائب القوية في العاصمة وتتبع لوزارة الدّاخلية في حكومة الوفاق ويشمل نشاطها مقاومة الجريمة أساسا.

هذه المليشيات تتقاسم النفوذ في العاصمة طرابلس وتنضوي تحت شرعية حكومة الوفاق، ويتهمها الكثيرون بالاستفادة من هذا الوضع من خلال استئثارها بالاعتمادات المالية وسيطرتها على المصارف وحتى المصرف المركزي وسيطرتها المطلقة على قرارات المجلس الرئاسي الذي تحوّل (في نظرهم) الى رهينة بيد هذه المليشيات.

وتقابل هذا التحالف مجموعة أخرى من المليشيات الموجودة داخل طرابلس وضواحيها، حيث تسيطر كتيبة الرحبة التي يقودها البشير البقرة في تاجوراء شرق العاصمة ومناطق قريبة جدا من مطار معيتيقة من جهة الشرق، وهذه الكتيبة المقربة من المفتي السابق الصادق الغرياني و"سرايا الدفاع عن بنغازي المتطرفة" تحاول دائما الهجوم على المطار وخاصة السجن التابع له حيث يقيم عشرات المساجين المعتقلين والمنتمين لجماعات اسلامية متطرفة.
 أما جنوبا وفي منطقة قصر بن غشير فيسيطر اللواء السابع من مدينة ترهونة والمعروف بالكانيات نسبة لقادته من عائلة الكاني.


** اللواء السابع ...غموض مطلق:

في غفلة من هذا التوازن الهش، أطلق اللواء السابع (الكانيات) عملية عسكرية أسماها بـ"عملية تطهير طرابلس" ممن أسماهم بـ"دواعش المال" في إشارة الى المليشيات المسيطرة على العاصمة والمستفيدة من نظره من الاعتمادات المالية الكبيرة التي توفرها لها حكومة الوفاق وسيطرتها على المرافق الحياتية المهمة في العاصمة والمصارف والأسواق والشركات الاستثمارية.

هذا اللواء التابع لمدينة ترهونة، يسيطر  جنوب العاصمة (الى الجنوب شرق)، وكان تابعا للحرس الرئاسي الذي شكّله فائز السراج قبل أن يصدر بيان بعدم تبعية اللواء، ويعتمد على تسليح وعتاد كبير، ويضم في صفوفه الكثير من الضباط والجنود النظاميين من عهد النظام السابق وترسانة عسكريّة كبيرة ومهمة.

هذه العمليّة فجّرت من حولها العديد من التساؤلات، فبغص النّظر عن غموض الهدف الحقيقي من هذا الهجوم وهذه الحرب المعلنة، كان السؤال الأبرز والأهم هو حول تبعيّة هذا اللواء.

تضاربت التحليلات والتصريحات، بين من يعتبره تابعًا للجماعة الليبية المقاتلة وهو ليس أكثر من واجهة يختفون وراءها للعودة الى العاصمة، وبين من يعتبرهم مجموعة من العسكريين التابعين للنظام السابق، وآخرين يعتبرون أنّهم موالون لخليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي، طرح يدعمونه بالإنتماء القبلي لهذا الأخير.

هذا الغموض عمّقه دخول صلاح بادي على خط المواجهات من أجل ما أسماه هو الآخر "تطهير العاصمة"، وصلاح بادي هو أحد وجوه عملية فجر ليبيا الشهيرة في العام 2014، وأحد الإسلاميين المتطرفين من مدينة مصراتة ، معروف بعدائه للمجلس الرئاسي ولمجلس النواب وللجيش الليبي وقائده خليفة حفتر وبموقفه الرافض للاتفاق السياسي، وهو الذي أشرف على دفن العقيد الليبي الراحل معمّر القذّافي في قبر مجهول الى اليوم.

ومازاد الغموض تعقيدا هو تحفّظ اللواء السابع عن كشف هوية قادته الفعليين وإسم آمره، حيث رفض الناطق الرسمي بإسم اللواء سعد الهمالي في أكثر من تصريح ومداخلة صحفية الافصاح عن هوية آمر اللواء مكتفيا بالتأكيد المبلهم على أن غرفة عمليات اللواء السابع يقودها 25 ضابطا من الجيش الليبي، بحسب تعبيره، نافيا في كل مرة أي علاقة لهم بصلاح بادي وعمليته العسكرية.


** من المستفيد من هذه الحرب ؟ 


يبدو الجواب عن هذا السؤال عبثيا، في ظل غياب المعطيات الدقيقة، وفي ظل غموض الأهداف الحقيقية من الحرب، غير أنّ الواضح هو خروج اللواء السابع كقوة جديدة على المشهد قد يزيد من حالة الانقسام وتشويش حالة التوازن الهش التي كانت عليها العاصمة طرابلس، حيث تذهب بعض القراءات الى أنّ هدفه هو الدخول في لعبة المحاصصات السياسية والمالية وأنّه عمليا لا يمكنه الذّهاب إلى أكثر من ذلك.

قراءة أخرى تذهب إلى أنّ هذه الحرب تقف وراءها الجماعة الليبية المقاتلة، وأنها تهدف من خلال دفع اللواء السابع نحو الهجوم على الطرابلس الى التسلل من الخلف والعودة الى العاصمة التي طردها منها التحالف مذكور للمليشيات المنضوة تحت حكومة الوفاق، وهو ما ينفيه اللواء وأكّد نفيه في عديد التصريحات.

أحمد قذّاف الدّم، ابن عم زعيم العقيد الرّاحل معمّر القذّافي، أعلن صراحة أنّهم (أي جزء من أنصار النظام السابق) يدعمون اللواء السابع، في ظل قراءة تؤكّد فعلا أنّ هذا اللواء يضم في صفوفه نخبا عسكريا مهمة من النظام القديم، وأنّ هذه الحرب قد تكون محاولة لدخول اللعبة السياسية وفرض أوراقهم في طاولة الحوار والمحاصصة والعودة الى الحياة السياسية في البلاد من بوابة العاصمة، وه ما نفاه أيضًا في بيان واضح اللواء السابع.

بينما، وأكثر من ذلك، تذهب قراءة أخرى إلى أنّه يوجد وراء هذا الهجوم تحالف بين بعض مكونات النظام السابق من خلال ضباطه المنضوين تحت اللواء السابع، وبين هذه الجماعة الليبية المقاتلة تفعيلا لمخرجات اتفاق داكار الموقع بين الطرفين منذ أشهر.

قراءة أخرى تقول أنّ خليفة حفتر ليس بعيدًا عن الموضوع، نعمان بن عثمان رئيس معهد كواليوم للابحاث بلندن والذي كان مقربا لفترة طويلة من القيادة العامة للجيش الليبي، إتهم المشير خليفة حفتر بتسليح ودعم اللواء السابع . في ظل تأكيدات أخرى على أنّ اللواء 22 ترهونة، والذي دخل المعارك لدعم اللواء السابع يتبع رسميا للجيش الليبي وفق ما أكّده عضو مجلس النواب المستقيل محمد العباني.

كل هذه القراءات لا تزيد إلاّ في غموض المشهد، وتعمّق العجز عن فهم الهدف الفعلي ومن المستفيد من هذه الحرب، ومن يقف وراءها ومن يقف وراء اللواء السابع رأس الحربة الأوّل في هذه المعركة .

ومع ذلك تبدو أكثر القراءات وضوحا هي تلك التي تذهب الى رؤية هذه الحرب في سياقها الكبير، وهو الاتفاق على اجراء انتخابات في البلاد قبل نهاية العام تفعيلا لإتفاق باريس الذي جمع مختلف الفرقاء الليبيين برعاية الرئيس الفرنسي، وهو الاتفاق الذي عارضته إيطاليا علنا، وهناك من يذهب -في هذا الإطار- وبشكل معلن إلى القول بأن هذه الحرب هي اعلان مسلّح لإرادة عند البعض بوأد كل محاولة لإجراء هذه الانتاخابات والسعي إلى تأجيلها بقوة الرصاص ولو بفتح جبهات عسكرية وحربية في العاصمة طرابلس.