بعد أن باحت صناديق الاقتراع بما لديها، بدأت قراءات المحللين تأخذ صبغة أكثر جدية بعد أن كانت تقوم أساسا على تخمينات واحتمالات. حزب نداء تونس الذي جاء في صدارة الترتيب سيكون مكلفا بتشكيل حكومة غير ان عدد المقاعد التي أحرزها لن تمكنه من ذلك الا عبر شبكة من التحالفات مع مكونات معظمها يتعارض مع النداء في الخلفيات الأيديولوجية أو البرامجية، كما أن صيغ الاتفاق بين هذه القوى السياسية ستفضي الى فرضيات متعددة. هنا قراءة في المشهد السياسي الذي يتشكل على خلفية ما طرحته صناديق الاقتراع يوم 26 اكتوبر 2014..

بعيدا عن القراءة التبسيطية القائمة على الترتيب، فإن كلا من حركة نداء تونس وحركة النهضة هما أبرز من استفاد من نتائج الصندوق. وفي مقابل ذلك هناك قوى سياسية عرفت أنها قد تجاوزتها الأحداث فلم تحرز إلا القليل من المقاعد مثل أحزاب الجمهوري والمؤتمر والتكتل والتحالف الديمقراطي. هذه الأحزاب التي تصنف كأحزاب وسطية وكأن تأخرها يعلن عن ضرورة الدخول في مراجعات معمقة. إن الحياة البرلمانية قد وقعت فيما عاشت على وقعه تونس منذ مدة وهو الاستقطاب الثنائي.
برلمان جديد
إلى حد كبير يمكن أن نرى أن انتخابات 2014 مثلت فرصة لكي تتجدد دماء السلطة التشريعية. فعلى مستوى الأسماء أتت الصناديق بعدة وجوه كان لها حضورها الاعلامي أو الحزبي القوي دون أن تكون لها مناصب رسمية.
سنجد في البرلمان القادم محمد الناصر، سعيد العايدي، لزهر العكرمي، ، منصف السلامي، خالد شوكات من نداء تونس. عبد الفتاح مورو، علي العريض، نور الدين البحيري، عبد اللطيف المكي ، العجمي الوريمي عن حركة النهضة. محسن حسن وعلي لخوة عن الاتحاد الوطني الحر. زياد لخضر، أحمد الصديق، الجيلاني الهمامي، مباركة براهمي عن الجبهة الشعبية. ياسين ابراهيم عن آفاق تونس، زهير المغزاوي وسالم لبيض عن حركة الشعب، عماد الدائمي عن المؤتمر، وعدنان الحاجي كمستقل.
إن هذه الأسماء تشير إلى أن مجلس النواب القادم سيكون أكثر نضجا بكثير من المجلس الوطني التأسيسي. ولكن من زاوية أخرى يمكننا أن نستنتج أن الصيغ التوافقية التي ازدحم بها المجلس السابق لن تكون بنفس الحضور ونفس السهولة لأن مساحات المناورات ستكون أضيق، فغياب تلك الأحزاب الوسطية مثل الجمهوري والتكتل والتحالف الديمقراطي سيجعل عملية الاستقطاب التي كانت خارج مؤسسات الدولة قد أصبحت جزءا من اللعبة الرسمية.
هناك أطراف جديدة تعوّض هذه القوى التي أخرجتها الصناديق من مواقعها على رأسها حزب "الاتحاد الوطني الحر"، وكذلك "الجبهة الشعبية" و"آفاق تونس" سيكون دورها مهما للغاية في لعبة التحالفات التي ستفضي إلى أهم مؤسسات السيادة وهي الحكومة.
جدل تشكيل الحكومة
لازال الحزب المكلف دستوريا ببعث حكومة جديدة لم يفصح عن نواياه بطريقة رسمية، الأمين العام للحزب الطيب البكوش، وأبرز المرشحين للمنصب على الورق أكد في إحدى تصريحاته على أن رئيس الحكومة سيكون من النداء، لكن القضية تتعدى ذلك. فالوصول لحكومة مستقرة يقتضي نصابا برلمانيا لا بدّ لنداء تونس من تحقيقه، وفي سبيل ذلك سيكون عليه تقديم تنازلات في شكل مقاعد حكومية.
كثيرة هي الصعوبات التي سيجدها حزب نداء تونس في سبيل ذلك. بالنسبة للتحالف مع حركة النهضة ستقف حياله تصريحات الباجي قائد السبسي قبل أيام من الانتخابات والذي أكد بأنه لن يتحالف مع النهضة في حال الفوز، وحتى لو لم يقل ذلك ينبغي تخطي العديد من الحزازيات التي خلفتها السنين الفارطة حين كانت النهضة جزءا من السلطة بينما كان النداء في صفوف المعارضة... دون أن ننسى الاختلافات الايديولوجية التي تكاد تكون متناقضة.
الحزب الموالي في احتمالات التحالف بحكم الكتلة النيابية هو حزب الاتحاد الوطني الحر والذي دخل خصومة كبرى خلال الحملة الانتخابية مع نداء تونس.. بعد ذلك نجد تحالفا محتملا مع الجبهة الشعبية ستقف أمامه الاختلافات البرامجية المتناقضة.. ودون المرور من شروط هذه الكتل لن يكون ممكنا للنداء تشكيل حكومة مريحة.
إذن في المحصلة، يبدو أن انتصار النداء سوف يصطدم قريبا بصعوبات جمة من هنا يطرح سيناريو بقوة تشكيل حكومة وحدة وطنية تتشكل من 4 أحزاب. إنه طرح سيشير لو حدث إلى أن انتصار النداء لم يكن سوى انتصارا شكليا وأن القرار سيبقى معلقا على إرادات أخرى.
عروض نداء تونس
إن نداء تونس هو أول من يعلم أن هذا الانتصار لا بد له من دعم قد يأتيه من صناديق الرئاسية. الباجي قائد السبسي لا شك وأنه قد خبر خلال الأيام القليلة الفارطة نوايا الشركاء المحتملين من الاستفادة من وضعياتهم الجديدة، خاصة "الاتحاد الوطني الحر" و"الجبهة الشعبية"، ولذلك فهو سيحاول أن يلعب نفس الورقة "التصويت النافع" في الرئاسية، ولو تحقق هذا السيناريو فإن نداء تونس سيجد نفسه في موقع مريح لفرض شروط لا يمكنه فرضها بالمعطيات الحالية.
ورقة أخرى بين يدي نداء تونس يمكنه أن يلاقي بها في لعبة الرئاسة، وذلك باستعمال الصلاحيات الدستورية في تشكيل حكومة. وقتها سيكون لكل تنازل في الرئاسية ثمن مدفوع على الحساب في شكل كرسي حكومي، وقد يكون انسحاب عبد الرحيم الزواري مندرجا في هذا الإطار.
إن أكثر ما يهدد الباجي قائد السبسي هم المنافسون الذين سوف يأكلون من نفس الطبق الانتخابي أي أبناء العائلة الدستورية الموسّعة، والذي من المفترض أن نفس نقاط القوة التي يعوّل عليها النداء يمكنهم هم أيضا التعويل عليها. من هنا من المحتمل أن يعرض الباجي قائد السبسي عددا من المناصب الحساسة على كل من منذر الزنايدي، عبد الرحيم الزواري، كمال مرجان، مصطفى كمال النابلي. بناء على التموقعات الحكومية التي شغلها هؤلاء في الحكم، هل يمكن أن نرى حكومة يترأسها منذر الزنادي، عبد الرحيم الزواري وزير داخلية، كمال مرجان وزير خارجية ومصطفى كمال النابلي وزير مالية.
هذا السيناريو لو تحقق فإنه سوف يعطي الباجي قائد السبسي حظوظا وافرة في الانتخابات الرئاسية. ولكن حين يتحقق ذلك كيف سيكون حزب نداء تونس بالمقارنة مع بقية المشهد السياسي.
ورقة إغرائية أخرى يمكن أن يعرضها حزب نداء تونس في سياق ترسيخ أقدامه في السلطة، وهي التفريط عن طواعية في منصب رئاسة مجلس النواب للنهضة، ولو ذهبنا في هذا التمشي من المرجح أن يكون عبد الفتاح مورو هو الأقرب لهذا المنصب.
إن الوصول لتحقيق مثل هذا السيناريو سيعني أن حزب نداء تونس قد وجد سبيلا يمكنه مما تطمع فيه أي قوة سياسية بأن تأخذ المواقع الرئيسية للسلطة بينما تخلص من العبء الأكبر وهو الحكومة. وبذلك هل سيتمكن من تحقيق سلس لبرنامجه المفترض وخاصة مشروعه المجتمعي؟