كان التحشيد الإعلامي الدّولي ضخمًا لذلك "النّجم" السياسي الصاعد في العقد الأوّل من الألفيّة الثالثة، وهو يفتح كلّ الملفات الليبية العالقة والحارقة دفعة واحدة ويواجه الجدران العالية لدولة عتيقة، متصلّبة وصلبة. كان صورة مغايرة تماما للوجه المرسوم لبلاده في أدبيات السياسة الغربية كأحد ركائز "ما وراء محور الشر" Beyond the Axis of Evil بالتوصيف الأمريكي وتقسيماته للعالم.

ذلك "النّجم" السياسي (بالمعنى الإعلامي) المتشبع بالقيم الغربيّة والانفتاح، الذي يتكلم إنجليزية فخمة ومتقنة، طافحا بالأفكار الإصلاحية المشحونة بجرعة ليبرالية عالية، هو الابن الأول للعقيد معمر القذّافي من زوجته الثانية صفية فركاش. 

كان السيف الإسلام القذّافي يبرز وسط ذلك الزّخم الإعلامي الكبير، كقائد منتظر ليبيا، تلك الدّولة النفطيّة الثريّة، بموقعها الجغرافي المتميز وثرائها الإثني والثقافي الكبير ومناخها الطبيعي المعتدل وتنوعها الجغرافي والطبيعي، وكانت الصحافة العالميّة تحتفي بمشروعه الكبير "ليبيا الغد" وبمؤسسته الدّولية الخيريّة التي فتح عبرها العديد من الملفات الدّوليّة والمحليّة وبدأ من خلالها في تصفية التركة الليبية الثقيلة في الساحة الدّوليّة، فتزايد احتفاء العالم به مع كلّ خطوة يتقدّمها على سلّم الإصلاح في بلدٍ لم يكن الغرب، على كل حال، ينظر إليه بارتياح.

تزامن صعود القذّافي الابن مع مرحلة انفتاح جزئي بدأه القذافي الأب اتجاه الغرب، وفي فترة بدأت فيها ليبيا بالعودة إلى الساحة الدّولية بعد سنوات طويلة ومرهقة من الحصار الاقتصادي الثقيل، غير أنّ دخول سيف الإسلام على الخط كان نقلة كبيرة (وخاصة سريعة)، في اتجاه تصفية كل الملفات العالقة ونفض الغبار على الدفاتر القديمة، ففتح كلّ شيء دفعة واحدة

ملف لوكوربي والممرضات البلغاريات والمعارضة السياسية الداخليّة والملف النووي الثقيل، فتحها كلها بالتوازي، وشكّل فرق عمل كبيرة وفرض شخصيات جديدة، أغلبها من المعارضة، في الحكومة والمؤتمرات الشعبيّة، في ما كان يشبه الحرب الشرسة ضد الحرس القديم ومؤسسات الدّولة البيروقراطيّة، كما أشبع خطابه بمفردات الإصلاح وحقوق الإنسان وحرية التعبير، حريصا على رسم صورة خاصة له في الإعلام الدولي ودوائر القرار السياسي الغربي مختلفة بشكل جذري عن الصورة التقليديّة لليبيا المواجهة ودعم المنظمات الثورية الانفصالية وصوت الاشتراكية القديم.

كان يبحث عن رسم مشروع متكامل، أو هكذا كان يريد أن يقول، بين السياسي (قائما على الانفتاح) والاقتصادي (قائما على قيم السوق وتحرير المبادرة ورفع يد الدولة عن الاقتصاد) والاجتماعي (مشاريع تنموية وسكنية كبيرة) والحقوقي (حرية الصحافة وحقوق الإنسان)، وبدأ الاشتغال على مشروع دستور جديد بتصورات أخرى لطبيعة وشكل النظام السياسي في البلاد، وكانت مؤشرات تظهر بشكل تدريجي، وبدأ يترسّخ كورقة قويّة محليا ودوليا كزعيم قادم ليبيا .."ليبيا الغد"

مفاوضات في الفلبين لإطلاق سراح مختطفين عند جماعة أبي سياف ومراجعات مع الإسلاميين الجهاديين العائدين من بؤر الحرب والقابعين في السجون، وحوارات مع معارضين، وحتى أرشيفات حرب تشاد المنسية، ونشاط على كل الجبهات داخليا وخارجيًا، هكذا كان القذافي الابن يشتغل على عدّة جبهات مرّة واحدة، ومع ذلك فقد كان محتاجا لمؤسسات إعلامية يقود بها معركته ضد الحرس القديم ويمهد بها لمشروعه الجديد، فظهرت مجموعة من الوسائل الإعلامية (قنوات وصحف ومواقع) بروح جديدة تقطع مع السائد الإعلامي الليبي المحلي التقليدي جدا حدّ الملل والرتابة.

هكذا، إذا، كان سيف الإسلام القذّافي "نجما" صاعدًا في ساحة السياسة الدّوليّة. ومن المؤكّد،فعلا، أنه قد أتقن سياسته الاتصاليّة ورسم صورة خاصةٍ له في مجامع النخب الغربيّة، بل وحتى على النقيض منها تماما عند النخب الدّينيّة العربيّة التي هرولت مسرعة لدعم مشروع المراجعات مع الجماعات الجهادية في ليبيا وتبنته ودافعت عليه وشاركت فيه بكل حماسة، وقد يبدو الآن وبعد سنوات حماسها مفهوما كما يُفهم تماما -الآن- حماس قناة الجزيرة (القطرية) مثلا في تغطيتها لملف المراجعات بشكل خاص، وهو شيء لم يكن قابلا للفهم في تلك السنوات البعيدة.

ووسط كل هذا كان العالم يرى سيف الإسلام كوجه مشرق لليبيا، شاب يافع ومتحمس للإصلاح، متشبع بالقيم الغربية متحصل على الدكتوراه من بريطانيا، ومثيرا لإعجاب النخب الغربية، والنخب العربية (الدّينية والتنويرية على حد السواء)، معتدلا في أفكاره يجمع حوله طيفا متنوعا من الشخصيات والتيارات (المتناقضة أحيانا)، رغم المواجهة الداخلية القوية مع العسكر التقليدي وبيروقراطية الدّولة الصلبة.

في العام 2011 ومع بداية موجات "الربيع العربي" إقليميا ثمّ مع أحداث "17 فبراير" في ليبيا وتحوّل تلك الأحداث إلى حرب أهليّة طاحنة، تغيّر كل شيء، ذلك الشاب الحامل للواء التغيير والذي ينظر إليه الغرب بإعجاب والذي راكم داخليا شعبية كبيرة مرفودة بطيقات سميكة من الثقة شعبيا ونخبويا، صار مطلوبا لمحكمة الجنايات الدّوليّة بتهم ارتكاب "مجازر حرب"، وعند انتهاء الحرب وجد نفسه أسيرا ومحكوما عليه بالإعدام في بلد لم تبق فيه مؤسسات قائمة أو دولة بأبسط المفاهيم المدرسيّة للدّولة.

تلك المشاريع التي وقّعت عقودها بمئات الملايين من الدولارات وبعضها كان على وشك الانتهاء، بكل بساطةٍ دمّرتها الحرب، تلك النخب السياسيّة التي أعادها إلى البلاد، أو تلك التي أدخلها إلى أروقة السياسة والحكم وزرعها في مفاصل الدّولة التنفيذيّة والتشريعيّة، اختارت كلّها الاصطفاف في الصف المقابل وخوض الحرب ضدّه، ذلك التحشيد الإعلامي الغربي والاحتفاء النخبوي الواسع به تحوّل إلى حفلات مفتوحة من التشنيع والشيطنة، وبدا في تلك الليلة الباردة من خريف العام 2011 وهو يتحدّثُ إلى معتقليه في قرية الزنتان الجبليّة رجلاً مغدورًا، لكنه مكابُر، يعتصر الحكمة ليلقيها على سجّانيه، كان كلامه رؤيويا كشيخ بدويٍ حكيم، كان يحدّثهم، وهو العائد من واد هم صاعدوه، عن التوازنات القبلية والجهوية والايديولوجية في ليبيا وعن عصارة تجربته وعن مرارة الخيانة، ليقفوا بعد سنوات طويلة على كلّ ما قالهُ مفصلاً وحرفيا تماما !

لم يظهر سيف الإسلام القذّافي بعدها كثيرًا، مرات قليلة في محاكمات متلفزة، وظهور يتيم في تقرير لقناة محلية لم يقل فيه شيئًا، مرّت على ليبيا بعدها سنوات أربع من حروب الميليشيات حول كعكة المال والسلطة والمنافذ والمعابر والمطارات وتجارة الهجرة والعبيد والسلاح والتهريب والصفقات والاعتمادات والديمقراطيّة المتلفزة فوق واقع شعب بائس وجائع ومهجّر وخائف، ثمّ جاء الانقسام مع حرب فجر ليبيا وعمليّة الكرامة في العام 2014، وانقسمت البلاد إلى شقّين، وهضم كل شقٍّ بعضًا من أطراف "الكتلة الخضراء" وخفت قليلا التمترس القديم حول خندقي "الفاتح" و"فبراير" وصار المشهد أكثر بانوراميّة وظهرت شخصيات جديدة على ساحة وكتل أخرى وتوزعت من جديد مراكز القوّة في البلاد.

وسط هذه الانقسامات والخلطة الجديدة للأوراق وتغيّرات الوعي السياسي، وتحولات المشهد وتداخل الحسابات وضرورات الواقع وضغوطات التوازن السياسي والاجتماعي، حصل سيف الإسلام القذّافي على عفو عام، ضمن قانون العفو الذي أقرّه البرلمان الليبي المتتخب في مدينة طبرق، وأعلن بعد ذلك عن إطلاق سراحه رسميا من محبسه في مدينة الزنتان غرب البلاد، ليطلق مشروعه السياسي "الجبهة الشعبية لتحرير ليبيا" ثمّ يعلن بعد ذلك بشكل متذبذب ترشّحه للرئاسة (الانتخابات المنتظرة في 2019)، وبدأ من مقر إقامته المجهول بترتيب علاقات خارجيّة بحثا عن دعم دولي لعودته السياسيّة خاصة بالتواصل مع روسيا، ولكن أيضًا العمل محليا مستفيدا من العديد العوامل التي تلعب لصالحه، كورقة القبائل والحنين الشعبي لزمن القذافي وصورته هو الشخصية كشخص جامع ووسطي وإصلاحي وذو شعبية كبيرة قدّرها سبر آراء أخير (ولو بشكل يبدو مبالغا فيه) تناقلته وسائل الإعلام العالمية، بأكثر من 90% من نوايا التصويت.

هكذا يبدو سيف الإسلام القذّافي، كشجرة يبّستها محن الحرب وسنوات الاعتقال الطويلة، وجففتها التجارب القاسية والمحن العائلية والشخصيّة الثقيلة، ولكن مع ذلك تبدو الجذور خضراء وطريّة، في تربة تهيّئها السياقات الحاليّة والمناخات الدّوليّة الجديدة لتعود -ربّما- للحياة من جديد، هذه الجذور الخضراء الحيّة مرتبطة بتاريخ شخصي مميز، ومدعومة بواقع ليبي يغذّي الحنين الشعبي لزمن القذّافي القديم.. فهل تزهر هذه الأغصان اليابسة من جديد؟