من الطبيعيّ أن تملأ تونس الدنيا، وتشغل الناس، اليوم، قيادة ونظاماً سياسياً، دولة وشعباً، السياسيون في العالم يعرفون ذلك، ولا يجهلون أسبابه ولا ينكرونها، وكذلك المؤرّخون ورجال السياسة والاقتصاديون.

فتونس تقف على مفترق طرق بين أوروبا وشمال أفريقيا، وبين غرب البحر الأبيض المتوسط وشرقه من جهة أخرى، وتحتل موقعا يسمح لها بمراقبة ما يجري من أحداث في جارتها ليبيا التي تمور بالاضطرابات، كما أنها في وضع جيد يمكَّنها من تقييم الديناميكية "الشائكة" بين الإسلام السياسي والديمقراطية. ومن بين الملفات الأكثر اشتعالا على الساحة السياسيّة، يبرز بشكل جليّ ملف الدبلوماسية التونسية الذي يعيش بين المدّ والجزر.

ولتسليط الضوء على الدبلوماسية التونسية والسياسة الخارجية لتونس... كان لـ "بوابة أفريقيا الإخبارية" حديث مع الأكاديمي والدبلوماسي السّابق الدكتور سعيد بحيرة.


ـ هل تقلبات الحكومات التونسية أفقد الدولة ثباتها وتواصلها في سياستها الخارجية؟

لا أعتقد أن الدولة التونسية فقدت ثباتها و تواصلها في سياستها الخارجية، بل يتعلق الأمر بتذبذب ظرفي ارتبط بخاصة بمرحلة حكم الترويكا التي قادتها حركة النهضة و حزبي المنصف المرزوقي و مصطفى بن جعفر، و التي حاولت إحداث تغيير عميق في تقاليد الديبلوماسية التونسية بإقحامها في محاور و تحالفات جديدة، إضافة إلى جرها نحو ساحات الصراع الإقليمي... لكن ذلك لم يدم سوى فترة وجيزة، كما لقي رفضاً صريحاً من الطبقة السياسية الوطنية، و بعد الإنتخابات الأولى و صعود حزب نداء تونس إلى صدارة الحكم تم تصحيح المسار و استرجعت السياسة الخارجية التونسية ثوابتها و مرجعياتها و خياراتها...


ـ هل تغيرت السياسة الخارجية لتونس بعد ثورة 14 يناير؟

التغيير شمل بالضرورة الوضع التونسي و الوضع الجهوي و حتى الدولي، لكن المبادئ الأساسية ظلت قائمة و حاضرة... و تم تصحيح بعض الخيارات المتسرعة التي أفرزتها الأحداث، وهذا شيء عادي... و لتونس تقاليد عريقة في العلاقات الدولية مبنية على التوازن وعدم الانخراط في المحاور و التمسك بالشرعية الدولية، والانتصار لحركات التحرر الوطني والارتباط بدوائر انتمائها الجيوبوليتيكي المغاربي و العربي و الإفريقي و المتوسطي. 


ـ الرئيس قيس سعيد أكد أكثر من مرة أنه يضمن الحقوق والحريات في تونس...

هل هذا يكفى لطمأنة الدول الغربية والعربية من هذه التحولات؟

الطمأنة الأساسية يجب أن تكون للتونسيين، وهذا حصل بدرجة عالية رغم تحفظات عدة أطراف و رغم إجراءات أولية تحفظية تم تجاوزها، أما العالم العربي فإنه هو يعاني أصلا من مسألة الحريات... و تونس قطعت أشواطا كبيرة بالمقارنة معها، و تبقى الحاجة للطمأنة فعلية تجاه العالم الغربي الذي ترتبط معه تونس بالتزامات و تعهدات، كما يعتبر الغربيون أنفسهم شركاء تونس في بناء الديمقراطية الجديدة و قد قدموا لها الدعم الكبير ماديا و لوجستيا... ومن هذا المنطلق يحسون بالريبة تجاه ما يجري في تونس... و قد رأينا الهواتف الرئاسية تشتغل والزيارات تتعدد و البيانات تكاد لا تنقطع. هنا يوجد تخوف من مخرجات المرحلة الاستثنائية... ولا بد أن يكون ذلك في إطار علاقات التعاون و الصداقة و الشراكة لا في إطار التدخل المفضوح لإملاء توجهات معينة... و قد أثارت بعض الضغوطات رد فعل سيادي و هذا من شأنه تعقيد الأمور و تعميق سوء التفاهم. و يبقى الموقف الداخلي هو المحدد في كل تغيير.


ـ هل يعزى ردود المجتمع الدولي الفاترة إزاء تطورات الأحداث في تونس إلى اقتراب نهاية الإسلام السياسي؟

أظن أن الإسلام السياسي انتهى في تونس و هذا ما يقوله المنتسبون إلى حركة النهضة... وهم لا يعتبرونها جزءا من الإسلام السياسي بل يرون أنها حزب له مرجعية مدنية... و قد سعت حركة النهضة إلى الفصل بين الدعوي و السياسي وساهمت في صياغة دستور 2014 الذي يكرس المرجعية المدنية وينبني على مبادئ الجمهورية... كما بينت الأحداث أن التونسيين لا يقبلون الخلط الخطير بين الدين و السياسة... ومن جهة أخرى نحن نعايش نكوصا حقيقيا للإسلام السياسي في المنطقة بعد طفرة عابرة تظل بعض جوانبها غامضة... ولا شك في أن المجتمع الدولي يدرك هذه المتغيرات بل هو شريك فيها... و حتى أنصار الإخوان المسلمين بالأمس عدلوا مواقفهم و دخلوا في مراجعات كبيرة و يكفي التأمل في ما يجري في شرقي المتوسط و في ليبيا وفي المغرب... كما أن الإدارة الأمريكية الجديدة تبدو أكثر حذرا من حكمها زمن أوباما... أظن أن الإسلام السياسي فقد زخم العشرية الماضية و ليس أمامه سوى النقد الذاتي والانخراط نهائيا في الوطنية. 


ـ هل ترون أن الربيع العربي انتهى بالفعل في تونس وفي المنطقة العربية؟

الربيع العربي أصبح ذكرى بعيدة، بل ذكرى مشبوهة لا تزال ملابساتها غامضة... و ستحتفظ الذاكرة الجماعية بأنها كانت لحظة نهوض وكبوة في نفس الوقت. 


ـ ما حقيقة اتهام السياسية الخارجية لتونس بالفوضى وعدم الوضوح في عهد الرئيس قيس سعيد؟

الرئيس قيس سعيد لا يزال في مرحلة البحث عن استقرار الأوضاع الداخلية، ولم يفصح بالكامل عن توجهاته السياسية الخارجية... و هو يقوم بعملية تصحيح مسار البناء الديمقراطي كما يقول... و تعتبر المواقف التي شهدتها السياسة الخارجية خلال فترة حكمه من قبيل التجربة و الخطأ،  و لا يمكن اعتبارها خيارات نهائية... يجب إنتظار نهاية المرحلة الاستثنائية لنرى بوضوح.


ـ كيف ترون مايقال من قبل أطراف تونسية عن دور إماراتي في ما تشهده تونس؟

منذ 2011 أصبحت بلدان الخليج طرفا نشيطا في المتغيرات الإقليمية، و هي تمارس تحركات تتجاوز حجمها و لا تتناسب مع رصيدها من الخبرة و التجربة، وهو ما قد يعرضها مستقبلا إلى ردود فعل خطيرة... فالمسألة لا ترتبط بنخوة الفعل الآني الذي تتيحه الظرفية الدولية و الإمكانيات المالية، بل هي لعبة تحتمل عديد المخاطر على المدى الطويل... وفي هذا السياق تطمح دولة الإمارات العربية إلى أن يكون لها دور في المنطقة العربية و منها تونس... ويبقى الأمر مقبولا إذا لم يتجاوز المواقف و الانحياز لبعض الخيارات... ويبقى التونسيون ذوي حساسية سلبية تجاه أي تدخل أجنبي حتى وإن كان عربيا. 


ـ كيف ترون الموقف الإقليمي والدولي بشكل عام مما تشهده تونس؟

أظن أنه موقف انتظار و ترقب... وهذا مفهوم في غياب بديل ما قبل 25 يوليو/ تموز 2021.


ـ تأجيل القمة الفرنكوفونية إلى العام القادم هل هي انتكاسة للدبلوماسية التونسية؟

هناك عوامل عديدة وراء التأجيل... ولا يرقى الأمر إلى انتكاسة تتحملها الديبلوماسية التونسية لوحدها... هي أداة تنفيذ خيارات وتوجهات ونحتاج إلى معرفة عديد المعطيات لإصدار حكم موضوعي... الأيام المقبلة كفيلة بتوضيح ملابسات الحدث. 


ـ أين انتصرت الدبلوماسية التونسية في عهد الرئيس قيس سعيد وأين فشلت؟

أظن أن النجاح في مواجهة وباء الكورونا يحسب في جانب كبير منه للديبلوماسية بقيادة قيس سعيد... فقد نجح في مدة وجيزة في حشد الدعم الدولي لتونس، لتحصل على اللقاحات الضرورية، و إضافة إلى ذلك بعث الرئيس برسائل واضحة لإعلان عدم ارتباط البلاد بمحاور معلومة، كما نجح في الحفاظ على ثقة الشركاء الغربيين رغم انشغالهم بما بعد المرحلة الاستثنائية... وعموما ننتظر خارطة طريق مستقبلية لنكتشف الخيارات الملزمة. 


ـ التدخل الفرنسي في الشأن الداخلي التونسي هل يعتبر مقبولا في الأعراف الدبلوماسية؟

ليس هناك تدخل فرنسي في الشأن التونسي. هناك تأثير وسعي لتوجيه الأمور، وهذا موجود في العلاقات الدولية عموما و يسمونه "السوفت باور " والعلاقات مع فرنسا لها شفرتها في الديبلوماسية الثنائية ولكن التوظيف يكسبها صبغات متنوعة. 


ـ بعد تعيين حكومة جديدة ما الذي تحتاجه الديبلوماسية التونسية في الوقت الراهن؟

أظن أن الحكومة الحالية تعمل في ظرف استثنائي، وهي تحتاج إلى مساندة فعالة للديبلوماسية من أجل طمأنة الشركاء وعالم الاستثمار و مواصلة دعم السير نحو بناء الديمقراطية الجديدة. 


ـ هل ترون ضرورة بعث استراتيجية دبلوماسية جديدة لتصحيح المسار الدبلوماسي التونسي؟

لا مفر من ذلك. فلكل مرحلة مقتضيات و شروط و الأمر لا يتعلق بتصحيح مسار بقدرما يتعلق بتحيين الرؤية و الحفاظ على الأسس. 


ـ هل التوصل إلى حل للأزمة التونسية شرط أساسي للتعامل بشكل أفضل مع الوضع "الصعب" في ليبيا؟

التونسيون يعرفون الليبيين أكثر من أي كان، وقد تشاركوا في الأزمات و المحن و تقاسموا نشوة الانتصارات و طفرات التفاؤل، و لذلك فإنه لا خوف من ظرفيات التأزم السائرة نحو الحل، و لا مناص من تحسين التعامل و لا سيما بعد انخفاض منسوب التدخلات و التأثيرات الخارجية. 


-كيف ترون مستقبل الديبلوماسية التونسية...؟

تستعد تونس لتدشين مقر الأكاديمية الديبلوماسية الجديدة التي ستدعم التكوين و الأداء لدى الديبلوماسيين وهي ترمز إلى المستقبل و التجديد. و يكفي هذا المؤشر للتفاؤل و المثابرة.


الدكتور سعيد بحيرة في سطور:

ـ دكتوراة في التاريخ المعاصر. جامعة تونس.

ـ مكلف بمهمة بديوان وزير الشؤون الخارجية.

ـ مستشار خاص لدى الأمين العام للاتحاد من أجل المتوسط ببرشلونة.

ـ أمين عام وزارة الشؤون الخارجية.

ـ مستشار بسفارة تونس في المغرب.