قرية “أولاد بن شهرة” الواقعة في محافظة تيسمسيلت –غرب الجزائر-، تزخر بإرث تاريخي ضخم، مرصّع ببطولات الأمير عبد القادر الجزائري، قائد المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي من عام 1832 إلى عام 1847 والذي يصفه المؤرخون بمؤسس الدولة الجزائرية، صحبة جُنده الذين قاتلوا ببسالة في ساحات الحرب، حيث تحتفظ إلى حدّ الساعة إحدى العائلات برسائل سرية كان يبعث بها الأمير إلى قادة جيشه.

عائلة “صحراوي” التي تنحدر من قرية “أولاد بن شهرة” بمحافظة تيسمسيلت الواقعة على بعد 240 كلم غرب الجزائر العاصمة، ما تزال تحتفظ بأوان كان يتناول فيها الأمير عبد القادر الطعام، والأكثر من ذلك تلك الرسالة المؤثرة، التي حرّكت مشاعر كراهية الجزائريين ضد الاستعمار الذي سلب الأرض، وحاول طمس معالم الهوية العربية الإسلامية للجزائر.ويشعر أهالي “أولاد بن شهرة” بالفخر، لأنّ قائد المقاومة الجزائرية خصّهم دون سواهم، برسالة تحمل توقيعه، فحواها حث أهالي “أولاد بن شهرة” على رفع لواء الجهاد وتعزيز صفوفه بالجند، لما رأى وسمع عنهم من تشبث بالأصالة وتمسك بالقيم الإسلامية. هذه الخصال تقول عائلة صحراوي: “جعلت الأمير يعين أحد أبناء الأهالي وهو الفارس المجاهد الشيخ الصحراوي بن شهرة المدعو الناصر بن شهرة، وهو الاسم الجهادي الذي عرف به، نائبا له مكلفا بقيادة الجند”.

وكان الناصر بن شهرة صاحب شخصية قوية حسب رواية أحفاده الذين تناقلوا مناقبه عن آبائهم، “حافظا لكتاب الله، شجاعته وتدينه جعلاه يظفر بثقة الأمير عبد القادر، فاعتبره مستودعا لأسراره، كان يرتحل رفقته أينما حلّ، وشهد معه كل الصراعات مع المستعمر، مقاتلا ببسالة جحافل الجيوش الفرنسية”، كما شارك في معارك طاحنة ضد القوات الفرنسية التي كان يقودها آنذاك الجنرال “جوزيف” الذي قضى 20 سنة في الحروب بالجزائر، كمعركة “المقطع” بمحافظة وهران -غرب الجزائر- التي كانت الملهمة في عدة قصائد من الشعر الملحون، أين مُني العدو بهزيمة نكراء.أما “النجع” فكانت كلمة تتكرر في رسائل الأمير السّرية التي كان يبعث بها إلى الفارس والقائد “الناصر بن شهرة” وهي مفردة تعني تحديد المكان الذي يعسكر فيه جنود المقاومة بدقة، وقد كتبت تلك الرسائل بلغة عربية راقية، تحمل معاني الحرص الشديد على تقوية الصف بأولئك الشباب المتطلعين للحرية: “..نريد معلومات عن نجعكم وخيامكم ووضعية الأمن فيها..”، وهذه بعض من العبارات التي بدت حروفها واضحة في رسالة الأمير التي تآكلت بفعل الزمن والعوامل المناخية.

وقائد المقاومة ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة؛ الأمير عبد القادر كما يصفه المؤرخون، كان يلتمس في كل مرة من “الناصر بن شهرة” تزويده بكل كبيرة وصغيرة عن حالة الجند وعددهم وعدتهم التي كانت جلها من هبات سكان “أولاد بن شهرة” الذين لم يكتفوا بتوفير المأكل والمشرب وتأمين المرقد، بل وهبوا أبناءهم وجيادهم لتعزيز صف الأمير بالمقاتلين، لما كان يحظى به من مكانة مرموقة عندهم، حتى تحركات العدو كانت ترصد عن طريق السكان الذين كانوا يزودون القائد “الناصر بن شهرة” بكل المعلومات وبدوره يقوم بإبلاغ الأمير عبد القادر عنها لأخذ الاحتياطات اللازمة أثناء عمليات التنقل. وبعض الروايات التي تتداولها عائلة صحراوي تقول إن القائد الناصر بن شهرة، كان “مميزا في كل شيء حتى في عدته الحربية، حيث عرف بحمله لقرن من الحجم الكبير لحيوان أفريقي جلب من أحد بلدان القارة السمراء، كان يضع فيه الذخيرة الحربية المتمثلة أساسا في البارود، ناهيك عن بدلته الحربية وجواده الأصيل الذي جاب به ساحات المعارك مقاتلا ببسالة قوات الاستعمار، وحتى ماله وذهبه وضعه تحت خدمة الأمير عبد القادر لكي لا تتعثر المقاومة”.

وحسب روايتهم “كان يحوز ما مقداره 5 كلغ من المعدن النفيس وهو مقدار يلحق صاحبه بمصاف الأثرياء آنذاك، بالإضافة إلى المواشي والحقول الشاسعة، التي لم يبخل بخيراتها على الجنود المرابطين في المنطقة، والذين قدموا من منطقة معسكر غرب الجزائر (المكان الذي ولد فيه الأمير عبد القادر سنة 1808 وتوفي سنة 1883 بدمشق، وبويع فيها كقائد للمقاومة ضد الفرنسيين عام 1832”. وحسب ما كشفت عنه عائلة “صحراوي” فإن جند الأمير “وصل عددهم 500 فارس، احتضنوا بحفاوة من قبل سكان المنطقة آنذاك”.وتواصلت فصول المقاومة مع انطلاق شرارة حرب التحرير التي بزغت في أول نوفمبرعام 1954، وحسب المؤرخين فقد ضربت كالعادة منطقة “أولاد بن شهرة” أروع الأمثلة في التضحيات، فقدمت قوافل الشهداء الذين ساروا على خطى الأجداد، فرووا بدمائهم الزكية أرض الجزائر التي تخلّصت بفضل تضحياتهم من أغلال الاستعمار.وأمام هذا الزخم التاريخي، صرّح الأستاذ الطيب قايد وهو باحث في تاريخ المنطقة، أن “قرية أولاد بن شهرة تحتاج إلى اهتمام من قبل المؤرخين، كي يوثقوا بطولات أهلها، الذين يشكلون بحق جزءا من كفاح الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي”.

 (*)نقلا عن صحيفة "العرب الدولية "