رحل رئيس الوزراء الليبي الأسبق عبد الرحيم الكيب بعد مسيرة أكاديمية وسياسية طويلة. وكانت أهم مراحل تجربة الكيب السياسية عند استلامه للحكومة الانتقالية في ليبيا بعد سقوط نظام العقيد الراحل معمّر القذّافي. حينها كان دخّان الحرائق من بقايا قصف طائرات الناتو لا تزال تتصاعد من الأنقاض في سماء البلد المنهك الخارج لتوه من حرب أهلية. والمدن قد تحولت إلى ركام، ومؤسسات الدّولة جميعها قد تحللت وسط الفوضى الأمنية والاجتماعية التي خلفتها عشر شهور من الحرب. في تلك المرحلة الانتقالية وفي زمن الانفلات والفوضى، الذي لم ينته إلى اليوم، تسلّم عبد الرّحيم كيب رئاسة الوزراء في بلد أصبح بلا دولة.

كانت مهمّة الكيب -نظريا على الأقل- هي إعادة بناء المؤسسات الحيوية والسيادية وترميم أركان الدّولة الليبية التي حطمتها "ثورة" كان هو أحد الفاعلين فيها. كانت ليبيا في تلك اللحظة بالذات بعد سقوط مقتل العقيد الليبي الراحل معمر القذافي وسقوط نظامه، وسقوط الدّولة معهما، تحتاج إلى إعادة بناء المؤسسات وترميم الوضع الاجتماعي والاقتصادي والدخول إلى مشاريع مصالحة حقيقية يمكن أن يبنى عليها مشروع وطني جامع يخرج بليبيا من دائرة الثارات والانتقام والفعل وردّة الفعل ودورة الدّم والعنف الأبديّة. 

ويختلف الليبيون حول تقييم آداء الكيب في تلك المرحلة من تاريخ ليبيا المعاصر، فمنهم من يشيد بالرجل داخل نسق سرديات "الثورة" التي كان هو نفسه أحد عناصرها، ومنهم من ينتقد تلك المرحلة داخل موجة تفكير أخرى تبدو أكثر عقلانيّة وهو تتحدّث عن الدّولة والمواطنة والقانون والمؤسسات والمصالحة والعدالة والمستقبل.

وبين الاثنين يبدو أن الكيب، كان قد اختار فعلا في تلك اللحظة المفصلية من تاريخ ليبيا، خطاب "الثورة" المنتشي والمزهو بالنّصر، على خطاب الدّولة التجميعي المتعالي على العواطف الانفعالية واختار اللحظة القصيرة على الرؤية البعيدة في مشروع بناء وطن جامع يتسع للجميع وبالجميع.

ظلّ عبد الرحيم الكيب منذ العام 2011 وحتى وفاته، محلّ جدل دائم في ليبيا وتقييمات متضادة. وانتعش هذا الجدل وعاد الى الواجهة بعد وفاته بداية الأسبوع الجاري. اختلف الليبيون حول الرّجل بعد وفاته كما فعلوا خلال حياته.

وتختلف منطلقات التقييم لمسيرة الرّجل الذي كان بغض النّظر عن مواقف الجميع، أحد أهم المؤثرين في الوضع الليبي الحالي باعتباره كان أوّل من قاد البلاد في مرحلة تحديد الخيارات في فترة انتقالية مصيرية. ومن المنطقي أن الوضع الليبي الراهن وواقع البلد اليوم ليس إلاّ نتيجة لعدّة أسباب منها أساسا مرحلة عبد الرحيم الكيب.

وقد نعى رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج، رئيس الوزراء الراحل. وقال  السراج، في بيان صحافي: "لقد فقدَ الوطن أحد أبنائه الأوفياء المخلصين، وخسرت بلادنا بغيابه مثالاً في تحمل المسؤولية والالتزام بمصلحة الوطن وقضاياه".

كما أعربت بعثة الأمم المتحدة عن عزائها ومواساتها للشعب الليبي ولأسرة عبد الرحيم الكيب، في تغريدة على صفحتها بتويتر. كما تقدّم وزير الداخلية فتحي باشاغا بالتعازي والمواساة لأسرة الكيب، داعيا له بواسع الرحمة والمغفرة. كما نعى وزير الخارجية في حكومة الوفاق محمد سيالة عبد الرحيم الكيب قائلا إن رحيله أفقد ليبيا "شخصية وطنية بامتياز"، حيث "عمل وتحمل المسؤولية بكل تفانٍ، وقدم جهده ووقته لبناء هذا الوطن، والعمل على استقراره والدفاع عن قضاياه".

وقد تتالت بيانات التأبين والنعي عقب إعلان وفاة عبد الرحيم الكيب، وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي الليبية التغريدات التي تشيد بمواقفه السياسية أغلبها من شخصيات سياسية كانوا يتقاسمون معه نفس المواقف ومنها موقفه من عملية تحرير العاصمة طرابلس.


** رحيل الكيب يفتح ذاكرة الليبيين على ملفات قديمة: 


الأكاديمي والكاتب الصحفي الليبي مصطفى الفيتوري كتب تغريدة تحت عنوان "رحم الله الكيب" قال فيها أنّه "أحد روؤساءنا الأجانب (ربما؟) وأن لم يكن فهو تولى مسئولية الدولة بطريقة غير قانونية لأنه يحمل جواز سفر أجنبي وهذا ممنوع قانونيا في ليبيا وذلك القانون لايزال ساري المفعول" وفق تعبيره.

وفي معرض تقييمه لمنجزات الكيب قال الفيتوري أنّه كان "رئيس وزراء بلا قرار في يده. وهذا بشهادته حين أعترف أمام المؤتمر الوطني أن هناك قوى "عليا" تحركه كما تملي عليه ما يجب! وهذة الصراحة وفي ذلك الوقت المبكر من عمر "الثورة" كانت حقيقة لا يجهلها الا من أصابه عمى البصيرة قبل البصرربما المرحوم لم يكن يعتقد بوجودها!" وفق نص التدوينة.

وتابع الفيتوري في تغريدته أنّ "أهم ما في زمنه أيضا أن الدولة قادت حملة عسكرية لغزو مدينة ليبية بعد أن شرعنت للغزو بقرار صدر عن الجهاز التشريعي وتولت تنفيذه حكومة الكيب ووزير دفاعه وبقية "قادتها" في إشارة للقرار رقم 7 والهجوم على مدينة بني وليد.

بدورها الدكتورة فاطمة حمروش كتبت يوم  وفاة عبد الرّحمان الكيب قائلة " لا اعتراض على مشيئة الله، والبقاء والدوام لله، ولكن موت المجرمين قبل عقاب الدنيا، رحمة لا يستحقونها. هذا الكلام يفهمه فقط من يعرف جيدًا حجم وفداحة الضرر الذي تسبب فيه هؤلاء للوطن وأهله" 

لتضيف بعد ذلك بيوم تدوبنة أخرى قالت فيها "أود أن أوضح بأن المقصود من المنشور ليس شخصاً واحداً بعينه، بل أن المعنيين كُثر". 

ومنذ يومين يتداول الليبيون تدوينات قديمة للدكتورة الحمروش التي كانت وزيرة للصحّة في عهد الكيب. كانت قد كشفت فيها عن ملفات وصفتها بالفساد في تسيرر أعمال الحكومة.

وكانت حمروش قد نشرت وثائق تثبت تقديم حكومة الكيب لأموال طائلة لدولة موريتانيا مقابل تسليك رئيس المخابرات الليبية الأسبق عبد الله السنوسي. وكتبت حمروش قائلة وقتها: "بصفتي كنت شاهدا أيضا على تلك المرحلة، سواء السنوسي (موريتانيا) أو البغدادي (تونس)، الإثنتين كانتا محاولات بائسة ويائسة من الكيب ليظهر بانتصارات شخصية زائفة في نهاية فترة حكومته التي وقفت عاجزة أمام تردده وتلكؤه في اتخاذ أي قرار أو المصادقة على ما تقرره الوزارات، وجبنه اللامحدود والمخجل أمام المليشيات التي كانت تسيطر عليه سيطرة كاملة"، بحسب تعبيرها.

وفي المقابل تداول نشطاء تغريدة أخرى للدكتورة الحمروش حول الاتهامات الموجهة إلى الكيب حول قضيّة الفساد في شراء أثاث مكتبي بقيمة 5 مليار، حيث قالت الدكتورة حمروش أنّ " رغم خلافي مع السيد عبدالرحيم الكيب وما تسببه لي من مظالم انحدرت إلى تعريض حياتي للخطر، الا أني أشهد بأن ما قاله رئيس المؤتمر الوطني العام، د محمد المقريف بخصوص صرف السيد عبدالرحيم الكيب لخمس مليارات على أثاث، لم يكن صحيحا"، مضيفة بالقول: "لقد كانت عملية محسوبة، لتصفية حسابات قديمة منذ زمن الجبهة الوطنية وانقساماتها الماضية والترسبات الناتجة عنها".

كما تداول النشطاء تدوينة أخرى نشرت فيها الدكتورة الحمروش قوائم أمراء الميليشيات الذين استلموا مكافآت على قتالهم في 2011 من حكومة الرحيم الكيب. وقالت حمروش في تدوينتها: " من الاعراف الدولية أن أول ما يتم القيام به بعد أن ينتهي النزاع المسلح في أي دولة يحدث بها تغيير في النظام هو برنامج فك التشكيلات المسلحة وجمع السلاح من قبل الحكومة الأنتقالية برعاية الامم المتحدة. هذه كانت المهمة الأساسية والمركزية لحكومة السيد عبد الرحيم الكيب. ولكن للأسف لقد قامت حكومة السيد عبد الرحيم الكيب بتنفيذ برامج معاكسة بالكامل، أي أنها قامت بمنح مكافات مالية وشرعنة أعداد كبيرة من المليشيات بعد شهر 10 من 2011حيث زاد عدد المنتسبين للمليشيات من 10 الآف قبل 20, 8, 2011 إلى الكثر من 250 ألف مع شهر 7, 2012."

متابعة بالقول: " لتمويل هذه المليشيات قامت حكومة السيد عبد الرحيم الكيب بزيادة بند المرتبات من 9 مليار دينار في 2011 إلى 18 مليار دينار. رغم أن المجتمع الدولي عرض على حكومة السيد عبد الرحيم الكيب كل ما تحتاجه من مساعدات استشارية ومادية بما فيها المساعدات على برنامج المصالحة وفك التشكيلات المسلحة ودمجها في مؤسسات الدولة وجمع السلاح، لقد رفضت تلك الحكومة كل هذه المساعدات" على حدّ قولها.