امرأة وحيدة قررت خوض غمار السباق الرئاسي التونسي ضمن 26 متنافسا من الذكور، وذلك رغم ترشح امرأتين معها، إحداهما لم يتمّ قبولها، فيما سحبت الثانية ترشحها قبل إعلان النتائج. إنها كلثوم كنو، القاضية التونسية التي تحظى بدعم الكثير من الرجال في بلدها تونس، ظفرت أيضا بدعم رجل دين ما فتئ يدعو الله من أجل أن "تأخذ إمرأة بزمام الأمور في البلاد".

الجمعة 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، كان يومها الأوّل على الأرض، وأوّل مواعيدها لملاقاة الناس وجها لوجها.. قبل ذلك، اقتصرت اجتماعاتها الشعبية على الفضاءات المغلقة، والتي غالبا ما يحتكم فيها سير الأمور إلى بعض البروتوكولات الخاصة. أما عند النزول إلى الشارع، فللمشهد إحداثيات مختلفة تماما.

في سوق شعبي بمحافظة أريانة، الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية (شمال)، كان الاستقبال محتشما في البداية، غير أنه سرعان ما التفّ حول مرشّحة الرئاسة حشد من الناس، منهم من دفعه فضوله لاكتشاف تفاصيل المرأة التي قد تطرق أبواب القصر الرئاسي بقرطاج، ومنهم من يتطلّع إلى سماع ما تقوله حول برنامجها الانتخابي، والبعض الآخر جاء يشكو فاقة أو حاجة أو غيره.. الكثير من الرجال التفوا حول السيدة كنّو، غير أنّ المشهد اللافت كان بتوقيع رجل دين، دعا الله من أجل أن "تمسك امرأة بمقاليد الرئاسة في البلاد، وأن تقودها، أخيرا، نحو مرفأ آمن".

رجل في الأربعين من عمره، بملامح هادئة، وقبعة بيضاء صغيرة تغطي شعرا رمادي اللون. كان يرتدي قميصا يرتفع عن كاحله ببعض السنتميترات، وذقنه الطويلة لم تكن تعطي انطباعا بأنّ مظهر ذلك الرجل الذي يوحي ببعض التشدّد، على الأقلّ مقارنة مع المظهر الذي اعتاده التونسيون، سيكون أوّل من يهرع لملاقاة المرشّحة، حال وصولها إلى السوق الأسبوعية بمنطقة "شطرانة 2" التابعة لمحافظة أريانة التونسية.

بصوت عال وبكلمات واثقة ونبرة مشحونة بحماس استثنائي، قال، مكتفيا بتقديم نفسه كـ"مواطن تونسي"، "الرجال هم من قادوا البلاد لمدة 23 عاما، إلا أنّ أوضاع المفقّرين لم تتحسّن أبدا.. شخصيا، لم أنتخب أبدا طوال حياتي، لكنني اليوم سأنتخب السيدة كنو.. سأنتخبها.. ومن أعماق قلبي، أطلب من العلي العظيم، وأدعوه بكتابه الكريم (القرآن) أن تمسك هذه المرأة بزمام الحكم في البلاد، وأن تقودها نحو مرفأ آمن".

وبتأثّر بالغ، ردّت كلثوم كنو قائلة "آمين.. أدعو الله أن يساعدني على تحقيق هذا الهدف".

في الساعة السابعة صباحا من اليوم نفسه، انطلقت رحلة كنو من منزلها الكائن بمنطقة "مونت فلوري" بالعاصمة التونسية، مرفوقة بفريق صحفي من الأناضول. اتّجهت مرشّحة الرئاسة نحو مكتبها، حيث اجتمعت بمعاونيها، لمناقشة بعض التفاصيل والترتيبات المتعلّقة ببرنامج زياراتها الميدانية، قبل التوجّه نحو السوق الأسبوعية بمحافظة أريانة.

كان الموكب يتألّف من أكثر من عشرة سيارات، ضمت على متنها أكثر من 30 شخصا، ارتدوا أقمصة صفراء اللون، كتب عليها شعارات من قبيل "انتخبوا كنو، رقم 3 على القائمة الانتخابية"، أو "اخدموا تونس، وستردّ لكم الجميل".

ولدى وصولها إلى الوجهة المطلوبة، لم تجد المرشّحة صعوبة في التواصل مع روّاد المكان.. فبكلمات بسيطة، ولهجة دافئة ونظرات تعرف جيدا طريقها نحو الهدف، اختلطت كنوا بالناس، وتحدّثت إليهم، حاثة إياهم على المشاركة في هذا الحدث الهام، وانتخاب من يرونه الأجدر برئاسة البلاد.

وأضافت بنبرة واثقة "أيقظوا أطفالكم وجميع أفراد عائلتكم، أسكبوا الماء عليهم إذا ما تطلّب الأمر ذلك، ورافقوهم للتصويت.. إنها بلادكم، وأنتم أصحاب القرار فيها.. لا تدعوا أحدا يقرّر بدلا عنكم.. صوّتوا بضميركم وبوعيكم، ولا تدعوا أحدا يؤثّر عليكم سواء بالمال أو بالهدايا".

كانت عملية التنقّل في تلك السوق الشعبية أمرا صعبا للغاية، فجميع الممرات الرابطة بين الأروقة التي يعرض فيها التجار بضائعهم، كانت غارقة في الطين والوحل.. رغم ذلك، لم يكن روّاد السوق، ممّن ألفوا الوضع، ليتذمّروا من أمر يدخل في خانة "العادي" مقارنة بتكلفة المعيشة التي أصبحت لا تطاق. كنّو، أكّدت، في صورة انتخابها رئيسة للجمهورية التونسية، أنّها ستعمل على تخفيض الأسعار.

رجل آخر، في الأربعين من عمره أيضا، أصرّ على التحدّث إلى السيدة كنو، وقال، دون ذكر اسمه "أعيش في وضع بائس، وهذا ما يدفعني للهجرة خلسة إلى إيطاليا، وأترك زوجتي وأبنائي لمصيرهم المجهول.. تونس لم تقدّم لي شيئا، إلى درجة بتّ معها أتطلّع إلى التخلّي عن الجنسية (التونسية)".

"لا تتحدّث هكذا أبدا"، ردّت كنو، وهي تربت بيدها اليمنى على كتف الكهل. "تونس بلدك، وعليك أن تقول –بدلا عما قلته- بأنّك لن أستسلم، وستزلزل السماء والأرض، وستقوم بثورة جديدة إن لزم الأمر، وأنّك لن تترك بلدك".

كلمات أخرى كان لها بالغ التأثير في مرشحة الرئاسة وفي جميع الحاضرين.. سيدة مسنّة من أصول ليبية، اخترقت الحشود، لتصل إلى كنو، مصرّة على توجيه الحديث إليها مباشرة، حيث قالت دون ذكر اسمها "أنا تونسية، فلقد نشأت وترعرت في هذا البلد.. اليوم أنا وحيدة، وسأموت في حالة بؤس لا مثيل لها.. تونس لا تمنح أيّ اهتمام لأمثالي من الناس، ممّن غادروا بلدانهم الأصلية واستقروا هنا.. أتمنى، في صورة انتخابك (رئيسة لتونس) أن تفكرّي بهؤلاء الأشخاص الذين قدموا إلى هذه البلاد وأحبوها أكثر من أي شيئ آخر في الوجود".

العديد من الرجال المتواجدين بالسوق أعربوا عن دعمهم للمرشحة، مؤكّدين أنهم لا يمتلكون أي تحفّظات حيال فكرة أن تتولى امرأة منصب الرئيس.

"محسن" شاب في الثلاثين من عمره، قال "عندما كنت صغيرا، كانت أمي هي من يدير المنزل، والآن، أنا أعيش وضعا مستقرا، بفضل جهود زوجتي.. ولذلك، فإنّ النساء قادرات –برأيي- على إدارة البلاد بشكل أفضل من الرجال".

وإثر مغادرته للسوق الأسبوعية بضواحي العاصمة التونسية، توجّه موكب كنو نحو جسر بنزرت، وهي منطقة مهمّشة تقع في الشمال التونسي، تغرق في الوحل والمياه التي يتم صرفها من خلال الأنابيب.. مشهد محبط لمكان تتلخّص فيه دائرة الضوء الوحيدة في شارع رئيسي صغير، يعدّ الزاوية الوحيدة التي تمكّنت من الإفلات من الوحل.

وبمجرّد نزولها إلى إحدى المقاهي الموجودة على جانبي الطريق، تعرّف العديد من سكان المنطقة على المرشّحة، وتدافعوا من أجل الحديث معها، بل إنّ البعض دعاها إلى زيارة الشوارع الفرعية، لاكتشاف مظاهر الفقر التي تطبق على سكانها، مؤكّدين أنّ لا أحد يمتلك شهادة ملكية للمنزل الذي يقيم فيه.

وأوضحت كنو، في معرض حديثها عن الجزئية الأخيرة، أنّ "الملكية العقارية تشكّل إحدى بنود برنامجها الانتخابي، والذي يعنى بـ "التسريع بحل الإشكالات العقارية الهامة، والتي تشكّل عقبة رئيسية أمام التنمية الاقتصادية والاستثمار".

وتابعت "بصفتي قاضية، سبق وأن تعرّضت لهذا النوع من الملفات، وأدرك تماما أنّ حلها مرتبط بتوفر الإرادة السياسية، لتشكيل لجنة تتكون من خبراء ورجال قانون".

نهاية اليوم اختارت مرشحة الرئاسة التونسية قضاءها في بلدة "سبّالة بنت عمار"، بالشمال الغربي للبلاد، المكان الذي قضت فيه صباها، والذي تحمل له في أعماقها ذكرى لم تتمكن السنوات الطويلة التي قضتها في صخب العاصمة من محوها.. هناك التقت كنو الكثير من المسنّين الذي تعرّفوا عليها حال ملاقاتها، وتبادلوا معها طرائف حول ذكريات طفولتها وصباها.. شقيقها مرشد كنو كان هناك أيضا، وقال بفخر "شقيقتي محبوبة من الجميع، والكثير يدعمونها، ولا تراودني أدنى شكوك حيال حظوظها".