عماد ياسين-بوابة إفريقيا-

الجزائر بدت الأقرب إلى الثورة قبل 3سنوات وأصبحت الآن الأبعد من ذلك..لماذا؟ وماذا حدث؟

قبل ثلاث سنوات بدت الجزائر بعد الثورة التونسية الأقرب على الإطلاق لقلب النظام والثورة على نظام مدني عسكري كثيراً ما وصف بالعاجز عن الإصلاح الاقتصادي، وتسيير موارد البلاد، وفرض الشفافية في بلد يصنف في المرتبة الرابعة والتسعين عالمياً من خلال  مؤشرات الفساد بين مئة وسبعة وسبعين بلداً.

بلدان مثل المغرب أو الأردن نجحت في ربط الاحتجاجات بالحكومات وإبقاءأنظمة الحكم بعيداً عن الغضب الشعبي، لكن لم تنجح في المقابل أي جمهورية "استبدادية"في الحفاظ على نظامها وقمع الثورة الشعبية ووقف زحف العاصفة ما عدا الجزائر، على الرغم من أن الاحتجاجات هناك سبقت الربيع العربي،ومافتئت الصحف الجزائرية تهاجم رئيساً ترى فيه فاقداً للصلاحيات ويسيّر حكومات غير قادرة على تغيير واقع الجزائريين.

لماذا بقيت الجزائر رغم ذلك بعيدةمن عين الإعصار؟

الجزائر..كوبا المغرب العربي

ظلت الجزائر منذ استقلالها بلداً غير معرف عند العالم، عكس الجارتين تونس والمغرب اللذين نجحا في إعطاء صورة حديثة جديدة عنهما من خلال فتح البلدين للسياحة،خصوصاً الأوروبية.

الكثير في العالم لايعلم أن الجزائر هي البلد الأكبر مساحة  في القارة الإفريقية بعدما قسم السودان، مساحة الجزائر تقارب مساحة كامل أوروبا الشرقية، رغم أن أغلب مساحتها مناطق صحراوية شاسعة.

لا يعلم الكثيرون أن الجزائر هي ثاني أكبر بلد عربي من حيث الكثافة السكانية بعد مصر، وأنها تحتل المرتبة الرابعة عالمياً من حيث احتياطات الغاز الطبيعي، وأنها ثاني أغنى بلد عربي بعد السعودية، والثامن عالمياً.

الجزائرمثلما المغرب وتونس، هي مستعمرة فرنسية سابقة،لكن عكس البلدين سيرت فرنسا الجزائر على مدار مئة وثلاثين عاماً على أنها امتداد لفرنسا من وراء البحار، لم تعتقد باريس يوماً أنها ستفقد الجزائر رغم منحها الاستقلال للمغرب وتونس، أملاً في الحفاظ على مستعمرتها التاريخية وموردها الأساسي من النفط ومشتقاته.

في الفاتح نوفمبر أربعة وخمسين تسعمئة وألف، أطلقت في جبال الأوراس الشرقية في الجزائر أول رصاصة مدوية، معلنة بداية ثورة التحرير الجزائرية التي دامت سبع سنوات، وانتهت باستقلال تاريخي وبطولي، وبثورة تحولت لملهمة للشعوب المستعمرة.

بعد الثورة عكس فيلم "معركة الجزائر"لجيل بونتيكورفو دم الجزائريين الثائرالذي ترك إرثاً كبيراً من عدم الخضوع والانكسارفي شخصية الجزائريين،وتحولت الجزائر لقبلة للثوار، وباتت كوبا المغرب العربي.

الجزائر السباقة للديمقراطية في العالم العربي.

في الخامس أكتوبر ثمانية وثمانين تسعمئة وألف، خرج الجزائريون في أكبر احتجاجات عرفتهاالبلاد، رافضين الواقع الاجتماعي و الاقتصادي المزري الذي كانوا يعيشونه، تظاهرات مست كامل التراب الجزائري من شرقه لغربه، ومن شماله إلى جنوبه،انتهت بدستور جديد سنه الرئيس المستقيل بعدها الشاذلي بن جديد عن طريق استفتاء تغيرت فيه البلاد جذرياً، ودخلت مرحلة من الديمقراطية والتعددية الحزبية والإعلامية لم يعشها العالم العربي إلا بعد مرور عشرين عاماً،في بلد عاش لسنوات طويلة تحت لواء حزب جبهة التحرير الوطني الحزب الواحد وبجريدة واحدة اسمها "الشعب" ناطقة بالعربية،وأخرى باللغة الفرنسية اسمها "المجاهد".

فتح الدستور الجديد المجال لتشكيل عشرات الأحزاب السياسية الجديدة، من بينها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، برئاسة عباسي مدني ونائبه علي بلحاج، الحزب الذي يصفه المختص الأمريكي جون بول انتيليس *لصحيفة جريدة شمال إفريقيا للدراسات التابعة لمجلة السياسات الخارجية الأمريكية * بأنه "حزب معتدل يشبه النهضة في تونس، أو الإخوان المسلمين في مصر"، حاز على أغلبية أصوات الجزائريين في المجالس المحلية في أول تجربة تعددية، واكتسح بعدها الانتخابات البرلمانية في جولة أولى، أخرجت بعدها مباشرة السلطات الدبابات إلى الشوارع وأعلنت توقيف المسار الانتخابي عام واحد وتسعين بعدما تخوف الجيش وقياداته العلمانية من سيطرة إسلامية على النظام الجزائري.

العشرية السوداء

أجهضت بداية التجربة الديمقراطية في الجزائر، حينما ألقت السلطات القبض على العشرات من قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ، على رأسهم عباسي مدني رئيس الجبهة ونائبه علي بلحاج، بتهمة التآمر على البلاد والدعوة للعصيان المدني.

قيادات أخرى من الجبهة الإسلامية عادت لصفوف النظام، وقيادات ومناضلون آخرون رفعوا السلاح وصعدوا للجبال،ودخلت البلاد في أعنف عشرية على الإطلاق في تاريخها، انتهت بأكثر من مئتي ألف قتيل، وبشرخ اجتماعي كبير،وصدمة لم يعشها الجزائريون من قبل.

العشرية السوداء عززت الشك من جديد في روح البلد الثورية، بعدما لمت ثورة التحريرلحمة الجزائريين نحو هدف واحد.

عام تسعة وتسعين انتخب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للبلاد، وبدأت أولى الخطوات لإنهاء الأزمة الأمنية السياسية الخطيرة التي استمرت عشر سنوات كاملة،كان قد مهد لها الرئيس السابق اليامين زروال وقيادات الجيش التي حاورت الإسلاميين التابعين لمختلف الألوية لتسليم أسلحتهم، ومن ذاك النزول إلى الحياة في أوساط الشعب.

نزل أكثر من خمسة عشر ألف مسلح من الجبال، أغلبهم من الجيش الإسلامي للإنقاذالتابع للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وبدأت حقبة جديدة سمحت لبوتفليقة بخوض ولاية جديدة عام ألفين وأربعة مدعوماً بلمسته في عودة السلم للبلاد، خاصة عندما بدأ الإسلاميون يمارسون حياتهم بصفة عادية داخل المجتمع بعد تخوفات من انتقامات كان يمكن أن تحدث بين النازلين من الجبال وعائلات ضحايا الإرهاب .

فتح بوتفليقة بعدها الباب أمام الإسلاميين لارتداء القميص واللحى في حرية كاملة بعدما باتت ممنوعة على مدار سنوات، وظهر بوتفليقة في سنوات حكمه الأولى رجلاً ديكتاتورياً ببذلة ديمقراطية حديثة،أغلق البلاد إعلامياً، وقمع خصومه السياسيين، وأفرزت سياسته برلماناً فارغ الصلاحيات لم يسائل الحكومة يوماً في أبسط القضايا،ودخلت البلاد في فترة حكم تكاد تكون فردانية.

عام ألفين وأحد عشر ومع انتشار لهيب الربيع العربي، خرج الجزائريون في كامل البلاد في احتجاجات عارمة على انتشار البطالة وفشل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، حيث وصلت البطالة إلى مايقارب18 بالمئة في أرقام رسمية،أما أرقام غير رسمية فتتحدث عن 28 بالمئة.

ارتفاع أسعار المواد ذات الاستهلاك الواسع صب الزيت على النار، حيث تضاعفت أسعار الزيت والسكر،وشعر الجزائريون أنفسهم بعيدين عن سلطتهم الحاكمة، مثلهم مثل التونسيين والمصريين تماماً، الفرق الوحيد أنهم كانوا يعبرون عن انشغالاتهم في حرية أكبر ومن دون تضييق، عكس بلدان الربيع العربي، إضرابات يومية واحتجاجات متواصلة في كامل أنحاء البلاد،سمحت بها دوماً السلطات لتكون متنفساً للشارع، لكن دائماً بحدود معينة.الاحتجاجات انتهت بخمسة قتلى ومئات الجرحى.

خطوة واحدة فقط فصلت الجزائر عن الربيع العربي

مع الثورة في تونس وفي مصر خصوصاً، بدأت السلطات الجزائرية تتخوف فعلاً من وصول النار إلى البيت الجزائري، سارع بوتفليقة فيها لمواجهة الوضع بتلبية مطالب المحتجين الظاهرة بدعم الزيت والسكر والمواد ذات الاستهلاك الواسع، رغم أن الدعم يكلف الدولة الجزائرية لغاية الآن أكثر من 300 مليون يورو سنوياً.

تعاطى الرئيس بوتفليقة مع الأوضاع بذكاء كبير لكن بقوة أيضاً، أمر الأمن بعدم إطلاق أية رصاصة على المتظاهرين أو المحتجين، رفع بعدها حالة الطوارئ التي عاشتها الجزائر منذ اثنين وتسعين تسعمئة وألف، وفتح المجال لاعتماد أحزاب سياسية جديدة، ورفع رواتب القطاع العمومي بحوالي 34 بالمئة، مع وعود بإصلاحات سياسية واقتصادية جديدة، وظهرت الجزائر من خلال تحركاتها أنها تنمتي لفئة مختلفة عن تونس ومصر وليبيا، فئة تقترب من الواقع الخليجي من حيث الثراء المادي، مما سمح للسلطات بشراء السلم الاجتماعي لفترة جديدة،ويعتبره البعض على غرار الوزير السابق للإعلام عبد العزيز رحابي"كراء للسلم الاجتماعي فقط"، لكن بالفعل تمكنت السلطات من تهدئة الجبهة الاجتماعية عوض ما كان منطقياً بالنسبة للبعض، وهو التحاق البلد بموجة الربيع العربي.

شبح العشرية السوداء يطارد الجزائريين

في الجزائر، لم تكن ذكريات الحرب الأهلية وما عاشه الجزائريون بعيدة عن الذاكرة مع بداية الربيع العربي،فرغبة جزء من الجزائريين في التحول إلى حكم إسلامي تحولت إلى حرب على الإرهاب وموت ودمار وخسائر تجاوزت الستين مليار دولار.

بقايا الجبهة الإسلامية للإنقاذ تحولت في الجزائر إلى قيادات تحت لواء القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وباتت تهدد الدولة الجزائرية وحتى دول جوارها.

قناعة النظام الجزائري بأن وضع البلاد مختلف عما تعيشه تونس وليبيا ومصر جعلته يتخذ مواقف أكثر صرامة من الحركات التي صنعت الربيع في هذه البدان، فالجزائر كانت آخر بلد على الإطلاق يعترف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي، ولم يتعامل مع السلطات التونسية مباشرة بعد الثورة إلا بعد اتضاح الرؤية، أي بعد بروز المواقف الأمريكية والفرنسية والجهوية .

أما في سوريا، فلا تزال مواقف الجزائر لغاية الآن متقدمة عن بلدان أخرى مثلما وصفها الرئيس السوري بشار الأسد، الذي لطالما أعطى المقاربة عما تعيشه دمشق بما عاشته الجزائر سنوات الإرهاب وصعود العنف والتطرف.

لكن اليوم، وعلى مقربة من الرئاسيات المقبلة في إبريل عام ألفين وأربعة عشر، لايزال مراقبون يعتبرون أن رغبة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خوض غمار ولاية جديدة بوضعه الصحي الحالي قد تعيد الأوضاع إلى نقطة الصفر، وتجعل البلد أقرب مما هو أبعد إلى غموض في المشهد الداخلي، وربما قد تكون الجزائر أقرب إلى الربيع العربي ولو متأخرة أكثر من أي وقت مضى.