لئن كان من الواضح أنّ انتخابات الرئاسة التونسية ستشهد جولة ثانية، فإنّ الأحداث التي من المنتظر أن تميّز شهر ديسمبر/ كانون الأوّل الجاري بعيدة كلّ البعد عن ذلك الوضوح، بل إنّ الإجماع شبه حاصل في تونس على وجود ضبابية تغلّف التوقّعات المستقبلية القريبة للمشهد السياسي المقبل، في خضمّ التحضير للجولة الثانية للرئاسية التونسية.. وهذه الضبابية نابعة بالأساس من جملة من المعطيات المهتزّة وغير الثابتة بشأن جملة الأحداث التي سيتمّ بمقتضاها تحديد موعد الجولة الثانية للانتخابات، بمعنى هل ستجرى في 14 أو 21 أو 28 من الشهر الجاري؟ ثمّ هناك المعطيات أو الأحداث التي ستوجّه اختيار الرئيس المقبل للجمهورية التونسية، وأخيرا تلك التي ستحدّد عمل مؤسسات الدولة، وبالتالي مستقبل هذه الديمقراطية الوليدة.

المعلوم أنّ الدستور التونسي الجديد تبنّى نظاما سياسيا مختلطا أو برلمانيا- رئاسيا، ما يعني أنّ السلطة ستكون مقسّمة بين التشريعية والتنفيذية، وأنّ لكلّ مؤسسة من مؤسّسات الدولة الثلاث (البرلمان والحكومة والرئاسة) أهمّيتها، غير أنّ العلاقة بين هذه المؤسسات تتّسم بترابط على مستوى طرق تعيين المسؤولين والصلاحيات الممنوحة لكلّ واحد منهم.

ديسمبر/ كانون الأول يحمل في طياته أحداثا متنوّعة لتونس.. فخلال هذا الشهر، سيتمّ تشكيل البرلمان المنتخب في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.. وليس ذلك فحسب، وإنما قد يشهد الشهر ذاته تشكيل الحكومة من طرف حزب الأغلبية في مجلس ممثّلي الشعب (البرلمان)، في وقت لم يباشر فيه الرئيس، أحد أضلاع مثلّث السلطة، بعد مهامه، بل، ما يزال مجهولا، حيث لم يعرف بعد من سيكون سيّد قصر قرطاج التالي..

فالأجندة الانتخابية كشفت عن عطل في استخدام النصوص، وخصوصا تلك المتعلقة منها بالأحكام الدستورية، حتى أنّ الكثيرين من المراقبين للشأن التونسي يجزمون بأنّ النصوص القانونية العليا لن تمكّن من رأب الصدع الذي لحق بالأجندة الانتخابية إلا في جزء منها، وهذا يعني في عمقه وفي ظاهره تصاعد وتيرة المشاحنات والمناورات السياسية والقانونية على امتداد الشهر الجاري، والذي ستحمل أيامه المتبقّية انتظارات التونسيين حيال نتائج الجولة الثانية للرئاسية التونسية وتبعاتها.

فتيل المعركة القانونية والسايسية في تونس حمل توقيع الرئيس التونسي الحالي المنصف المرزوقي، وهو أيضا مرشّح مستقلّ للرئاسة التونسية، تمكّن من العبور إلى الدور الثاني ليواجه صاحب المرتبة الأولى في الجولة الأولى الباجي قايد السبسي مرشّح "نداء تونس"، الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية التي جرت بتونس أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي (86 مقعدا في البرلمان من جملة 217).. المرزوقي كان دعى السبسي إلى تشكيل الحكومة التونسية المقبلة، وهو ما أثّر بشكل سلبي على الحملة الانتخابية لمنافسه في خضم السباق الرئاسي. دعوة كان لابدّ وأن تثير حفيظة الرباعي الراعي للحوار الوطني المتمخّض عن الأزمة السياسية التي هزت تونس في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، والمتشكّل من نقابة العمال: الاتحاد العام التونسي للشغل، والأعراف: الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، إلى جانب الهيئة الوطنية للمحامين، حيث بادر بالتدخّل ليعلن أنّ الرئيس المنتخب هو من سيقوم بتكليف حزب الأغلبية البرلمانية بتشكيل الحكومة المقبلة.

وبعد هذه المناورة السياسية، خير المرزوقي المرور نحو تكتيك آخر، فبما أنه لم يتبقّ في السباق الرئاسي غيره والسبسي، فقد بادر إلى دعوة الأخيرة إالى مناظرة تلفزيونية.. تحدّي بدا سافرا، غير أنّ مرشح حزب "نداء تونس" رفض تلبية دعوة خصمه، وهو ما دفع بمنسوب الجدل إلى أقصاه، بل لم يخمد حدّ الساعة.

ومع فشل المناورة الأولى، وتعليق الثانية، توجّه المرزوقي نحو منحى مختلف هذه المرة، وذلك عبر تقديمه طعونا في نتائج الجولة الرئاسية الأولى، ليترك موعد الدورة الثانية معلّقا، بما أن الأخير مرتبط بالحيز الزمني الذي ستتطلّبه عملية النظر في جملة الطعون المقدّمة.

وفي الأثناء، دعا مصطفى بن جعفر المرشّح الرئاسي الذي لقى خسارة في الجولة الأولى من الرئاسية التونسية، شبيهة بتلك التي نالت من حزبه "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" في الانتخابات التشريعية الأخيرة (لم يحصل على أي مقعد في البرلمان) أعضاء البرلمان الجديد إلى عقد جلسة، اليوم الثلاثاء، تحت رئاسته (وهو الذي كان رئيس البرلمان السابق)، مستندا في ذلك إلى مادة دستورية. ضغط جديد على السبسي الذي يجد نفسه أمام إلزامية البحث عن تحالفات تدعم الأغلبية النسبية التي حصل عليها حزبه في التشريعية، وتمنحه وزنا يؤهله لأن تكون له كلمته في انتخاب رئيس البرلمان الجديد ونوّابه ولجانه.

مسار ملغوم، وشهر قد يحمل معه الكثير من الأحداث ومن المناورات، فحتى المفاوضات حول تشكيلة الحكومة المقبلة، والتي انطلقت في خضمّ ذلك المدّ والجزر، ستكون صعبة. فحركة النهضة التونسية، ثاني القوى البرلمانية (69 مقعدا من مجموع 217) ستعمل جاهدة على انتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات من معسكر السبسي، خصوصا وأنّ الأخير معني بجميع السياقات والسباقات (التشريعية والرئاسية)، دون أن تكون له أغلبية متينة تمكّنه من اللعب والمناورة بأريحية. وهذا يعني أنّ النهضة ستستخدم جميع أوراقها سعيا وراء التحالف مع أكبر قدر من الفسيفساء البرلمانية، هذا دون الحديث عمّا يشكّله خطر قرار قد يطفو للسطح، وهو أن تعلن النهضة على الملأ دعمها للمرزوقي.. ضربة مزدوجة قد تغيّر موازين القوى وملامح البراديغم السياسي بصورة جذرية.

وإلى تلك الحرب الباردة المندلعة بين معسكري السبسي والمرزوقي، تضاف شحنات من التجاذبات والتوترات.. اتهامات متبادلة، وإهانات تجاوزت المقرات الحزبية لتطال بلاتوهات التلفزيونات الرسمية والخاصة، وتحتكر شبكات التواصل الاجتماعية، بطريقة أثارت مخاوف المراقبين بتحولها من المجال الإعلامي والافتراضي إلى الشوارع والميادين.

وفي الوقت الذي بلغت فيه المعارك السياسية أوجها، بدت النهضة هادئة، واثقة من قيمة الأوراق التي تمسك.. لازمت منطقة الحياد، وحررت التصويت بالنسبة لقواعدها، مكتفية، كلما اشتد لهيب الحمم البركانية المتأتية من هذا المعسكر أو ذاك، بالدعوة إلى التهدئة من خلال بيان أو تصريح.. بدت في المنطقة الوسط كطرف تحكيمي تعديلي لساحة وغى يدرك الجميع حجم ما يمكن أن تقود إليه في كل لحظة.

وما بين معسكرين وحكم، يقف التونسيون على مشارف مشهد ملفوف بمناورات وملغوم بمهاترات، متعبين، منهكين من طول الانتظار ومن حسابات الساسة الضيقة.. يرابضون كل مساء أمام التلفزيونات علّهم يظفرون بإعلان يضع حدّا لفترة طالت أكثر مما ينبغي.. الساسة يلعبون ورقات الأمتار الأخيرة نحو المناصب، بينما هم ينتظرون الأمتار الأولى نحو الديمقراطية الحق، علّها تخلّصهم من تبعات دكتاتورية أتت على انتظاراتهم وآمالهم، وتضع اللمسات الأولى لتشكيل مؤسسات الدولة وضخّ الحياة في شرايين اقتصاد أدركته الشيخوخة قبل الأوان.