تقول السّردية الدّارجة أنّ العثمانيين والسّلطان عبد الحميد الثاني كانوا معارضين للتوسّع الصهيوني في فلسطين وأنّهم كانوا يسعون لعدم إقامة وطن صهيوني على الأراضي الفلسطينيّة التي كانت خاضعة للسّلطة العثمانية. وتجد هذه السّرديّة صداها الواسع في الوعي الشعبي العربي والإسلامي مدعومة بتكديس تركي معاصر للمقالات والوثائق التي تثبتُ -على حدّ زعمها- هذه السّرديّة من خلال توظيف انتقائي ومجتزأ للوثائق والمعطيات التاريخيّة. 

غير أنّ البحوث التاريخيّة العلميّة، والدّراسات الأكاديميّة تنسفُ هذا الطّرح جملةً وتفصيلاً وتضع كل تلك المؤيدات المجتزأة والمبتورة في سياقاتها الكاملة لتعيد رسم "الحقيقة" التاريخيّة بوضوح حول الدّور العثماني، في تسهيل سيطرة الصهاينة على الأراضي الفلسطينية وإقامة المستعمرات وتهجير الأهالي وتمليك الأراضي.

وبغض النّظر عن نوايا السّلطان عبد الحميد الفعليّة وموقفه المعلن من هجرة اليهود إلى فلسطين وفق ما عبّر عنه من خلال الفرامانات التي كانت تهدف -شكليًا- إلى الحد من هذا النّشاط، غير أنّ النتائج والوقائع المتزامنة كذلك تؤكّد العكس تماما. فحركة الاستيطان كانت سريعة ومكثفة وناجعة وأمام أعين وتحت أنظر العثمانيين. وقد نجح الصهيانة فعليًا في تأسيس "النواة الأولى" لدولة الاحتلال الصهيوني في عهد الدّولة العثمانيّة وعهد السلطان عبد الحميد نفسه نهايات القرن التاسع عشر. 


** الفشل العثماني حدّ التواطئ.. التسهيل بوعي أو بدونه: 


يكشف كتاب الدكتورة فدوى نصيرات في كتابها "دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطة الصهيونية على فلسطين (1876-1909)" المنشور عن مركز دراسات الوحدة العربية، السياق الكامل للاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية في عهد الدّولة العثمانية وسياسة السلطان عبد الحميد اتجاه هذه المسألة.


تقول الدّكتور فدوى نصيرات أنّ فلسطين شكّلت في مرحلة حكم السلطان عبد الحميد الثاني جزءاً من الإمبراطورية العثمانية وكانت تابعة لأقسام الشام الإدارية. وبناء على توجهات عبد الحميد فقد ثُبِّتت متصرفية القدس الشريف عام 1887 كياناً إدارياً مستقلاً عن ولاية سورية تُحكم من القدس ومرتبطة بوزارة الداخلية مباشرة.

مضيفةً أنّ فلسطين أصبحت تُدار من المركز إسطنبول مباشرة وأوصلت مع القصر بواسطة خطوط اتصال، على أن إجراء أي تصرف أو اتفاق الحكام الإداريين كان يتطلب تفويضاً رسمياً من إسطنبول، ولقد تم العمل بهذا النظام المركزي لضمان عدم وجود أي انحراف في تطبيق الفرمانات والأوامر المركزية.

وتتابع الدكتورة عويدات أنّه "خلال حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية كان اليهود من رعايا السلطان ينتقلون بحرية من فلسطين وإليها وأقاموا في الأماكن المقدسة في القدس وصفد وطبريا والخليل. ومع نظام الحماية الذي طبقته الدولة العثمانية على الأقليات الدينية عبر منحهم المساواة التامة مع المسلمين وأصبح هؤلاء الرعايا يلجأون إلى القناصل الأجنبية في القدس ليكونوا تحت حماية دولهم وليصبحوا مواطنين أجانب يتمتعون بالامتيازات الأجنبية الممنوحة لهم". 

ويؤكّد الكتاب أنّ "مع صدور فرمان تملُّك الأجانب لعام 1869، تزايد قدوم اليهود الأجانب إلى فلسطين ولم تدقق الدولة العثمانية في أسباب دخولهم، الأمر الذي مكّنهم من شراء الأراضي والبدء في إنشاء المستعمرات؛ وأعطيت لهم الحقوق الكاملة في التملك والعمل على كل الأراضي العثمانية ما عدا الحجاز"

وتحلّل الدكتورة فدوى عويدات أسباب هذا الهجرات المتزايدة وترجعها أساسا إلى "المذابح والاعتداءات المنظمة ضد اليهود في روسيا عام 1881 التي أسفرت عن هجرات جماعية إلى فلسطين" وإلى "النشاطات التشجيعية التي كان يقوم بها أغنياء يهود أوروبا أمثال روتشيلد وهيرش؛ وكذلك الجمعيات اليهودية التي كانت تهدف إلى مساعدة يهود أوروبا ومنها التحالف الإسرائيلي العالمي".

وفي المقابل يفصّل الدّكتور حسان علي الحلاّق أشكال هذه الهجرات وأساليبها في تلك الفترة (1869-1881) وانتشار المستوطنات والمستعمرات الصهيونية في كتابه "موقف الدّولة العثمانيّة من الحركة الصهيونيّة 1897-1909" مشيرًا إلى أنّ موقف الدّولة العثمانية من تلك المستوطنات "لم يكن في هذه الفترة موقفًا صارمًا بل متساهلاً لحدٍ ما لقناعة المسؤولين العثمانيين بأن الهجرة اليهودية لا تشكّل خطرًا على فلسطين، وأنّ الهدف من إقامة المستوطنات هو  لتطوير الوضع الاقتصادي للدّولة العثمانيّة وإنماء الززراعة في فلسطين على حدّ قول 'أدولف كريمييه' بعد حصوله على الفرمان العثماني. بالرّغم من أن الهدف الرئيسي من إنشاء المدارس الزراعية واستئجار المساحات الشاسعة من الأراضي إنما يهدف إلى إيجاد مراكز لتدريب اليهود على العمل الزراعي لأسباب استيطانية واقتصادية وسياسية تتعلّق بالأماني اليهودية في فلسطين" (ص 80). 

ويشرح الدكتور الحلاّق موقف حيثيات إصدار القانون الذي يقضي بمنع إقامة اليهود في فلسطين ومواقف السلطان عبد الحميد الرافضة في الكثير من المواقف لوساطة تطلب تغيير القانون الهجرة الخاص باليهود عام 1882 إلاّ أنّه يوضّح أنّ "خلافًا للموقف العثماني الرّسمي الممثل بالسلطان عبد الحميد وحكومته، فإنّ الإدارة العثمانية المحليّة في فلسطين كانت تتحايل على القانون وتتعاون مع القناصل الأجانب والمهاجرين اليهود لتسهيل دخولهم إلى فلسطين دون تسجيل أسمائهم على اللائحة الخاصة بالزوار. وهكذا استمرت الهجرة اليهودية عن طريق رشوة الموظفين العثمانيين ومعاونة قناصل الدّول الأجنبيّة.. وقد اتبع اليهود أسلوب الرشوة لدخولهم إلى فلسطين لقناعتهم بأن الحكم التكي كان شبيها بالحم القيصري في روسيا أي أنه كان قائما على الفساد والرشوة وأن باستطاعة الرواد اليهود أن يأتوا إلى فلسطين وأن يشتروا الأراضي وأن يبنوا المستعمرات وأن يمهدوا بذلك لتحقيق الوطن القومي في ما بعد". (ص 90).


** فرامانات شكليّة.. وسياسة رسميّة "متواطئة": 

تشرح الدكتورة فدوى نصيرات في كتابها السياسة العثمانية اتجاه هجرة اليهود نحو فلسطين، حيث تشير إلى أنّ "الدولة العثمانية ممثلة بالسلطان عبد الحميد الثاني سجذلت أول موقف رسمي معلن من الهجرة اليهودية إلى فلسطين في نيسان/أبريل عام 1882 بعد تزايد أعداد المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية إليها، إذ أعلنت أنه لن يسمح لليهود المهاجرين إلى أراضيها بالاستقرار في فلسطين؛ بل يمكنهم الهجرة إلى داخل أي ولاية عثمانية أخرى وأن يستقروا فيها كما يريدون بشرط أن يصبحوا رعايا عثمانيين، وأن يقبلوا فرمانات الدولة العثمانية عليهم."

وبحسب نفس المصدر فإنّه "وفقاً لهذه الفرمانات كان يمكن إعطاؤهم الأراضي الحكومية معفاة من الرسوم والضرائب، وأُعفوا من الخدمة العسكرية وأُعطوا حرية ممارسة شعائرهم الدينية شأنهم شأن بقية الرعايا وكان يمكن لليهود الاستقرار بمجموعات لا تتجاوز 150 عائلة في المنطقة الواحدة".

وتؤكّد الدكتورة عويدات أنّ "هذا الحظر كان مناقضاً لشروط اتفاقات الامتيازات الأجنبية الموقعة مع الدول الأجنبية التي ضمنت لرعاياها حرية التنقل في مختلف أنحاء الدولة العثمانية باستثناء الحجاز، الأمر الذي اضطر القناصل الأجانب إلى الاحتجاج على هذه التعليمات؛ لذا كانت الحكومة العثمانية دائماً تتراجع عن قرار الحظر الصادر بشأن منع ـ أو الحدّ من ـ الهجرة اليهودية إلى فلسطين".

وبحسب ذات المصدر، فأنه في العام 1890 تزايدت أعداد اليهود المقيمين بطريقة فرمانية وغير فرمانية وأغلبهم تحت الحماية الأمريكية والبريطانية.

وتشرح الدكتورة عويدات التسلسل الزمني لهذه الفرمانات التي أصدرها السلطان عبد الحميد في هذا الجانب، حيث تشير إلة أنّه قد كتب فرمانات بخط يده عام 1896 ليحول دون استيطان اليهود في فلسطين خشية قيامهم بتشكيل حكومة يهودية عنصرية في فلسطين، وبعثها إلى الصدارة العظمى لاتخاذ قرار عام في هذا الموضوع.

وتقول الدّكتورة عويدات: "من خلالها نتلمس وعي السلطان عبد الحميد الثاني الكامل للهدف الحقيقي من هجرة اليهود؛ وهو تشكيل حكومة موسوية (يهودية) في فلسطين بتشجيع من الدول الأوروبية؛ وأنهم إن أُسكنوا أي جزء من الدولة العثمانية فسيتسللون إلى فلسطين"

مشيرة إلى أنّ ما أسمته "التناقض الصارخ" في موقف السلطان سيتوضّح لاحقًا لاحقاً حين عرض على هرتزل استيطان أي جزء من الدولة العثمانية عدا فلسطين؛ فهو حينما عرض العرض كان يعلم أن بمقدور اليهود التسلل إلى فلسطين، إذ فتح لهم الباب لكن من جهات أخرى.

مؤكّدةً أنّه "بعد إصدار فرمانات 1891 وردت تقارير للأستانة حول كثرة المستعمرات وتنبّه السلطان لها دون اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن توقف الهجرة". 

وتضيف صاحبة الكتاب أنّ الدولة العثمانية أصدرت تعليمات جديدة عام 1898 بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين دون تمييز بين جنسياتهم ما لم يدفعوا تأميناً ويقدموا تعهداً بالمغادرة خلال ثلاثين يوماً. وفي عام 1899 أصدرت فرمانات جديدة ألغت تحديد الإقامة ثلاثين يوماً وسمح لهم بتمديدها لثلاثة أشهر.

وهو الأمر الذي وضّحه الدكنور الحلاّق (كما سبق) موضحًا دور الموظفين العثمانيين وسياسة الدّولة القائمة على الرشوة والفساد في تحويل إلى الأمر الى قانون شكلي دون أي تأثير حقيقي. بل بالعكس مساعدا على توطين اليهود في فلسطين عبر رشوة الموظفين العثمانيين.

تقرّ الدكتورة عويدات بـ"فشل سياسة عبد الحميد في منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين"، فبحسب الكتابفقد  تزايدت أعدادهم ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1882. وازدادت نسبة اليهود من 5 بالمئة إلى 11 بالمئة من مجموع السكان في فلسطين، ولم يتمركزوا في القدس والخليل وصفد وطبريا فحسب، بل في يافا وحيفا وغيرها من المدن الفلسطينية، وشكلت موجات الهجرة اليهودية الأولى إلى فلسطين القاعدة المادية أو البنية التحتية لإنشاء الكيان الإسرائيلي لاحقاً، إذ أدت إلى إدخال مزيد من رؤوس الأموال اليهودية وبالتالي إلى توسيع النفوذين الاقتصادي والسياسي للحركة الصهيونية، ومكنّتها من السيطرة على الأرض في فلسطين وزيادة حجم استثماراتها الاقتصادية، وفق ما ذكرت في الصفحة 18 من الكتاب.

لتخلص إلى أنّ نقطة الضعف التي تسجلها على السلطان عبد الحميد تجاه المسألة الفلسطينية أنه أصدر فرمانات جزئية لمصلحة بعض اليهود وأذن لهم بمقتضاها بشراء مساحات محدودة من الأراضي الفلسطينية.

مؤكّدة أنّه ليس في حنكة المؤرخ المحايد أن يجد تفسيراً لموافقة السلطان على إصدار هذه الفرمانات الجزئية بحجة تعرّضه لضغوط أوروبية؛ إذ شكلت هذه الفرمانات سنداً قوياً في يد الصهيونية للتوسع في شراء مزيد من الأراضي الفلسطينية وفتح باب الهجرة، سواء بطرائق مشروعة أو بأخرى غير مشروعة، بحسب تعبيرها.