في خضم بداية الحملات الانتخابية للمترشحين لرئاسة الجمهورية، يتساءل فصيل من الرأي العام حول مدى أهمية هذا المنصب وحجم الصلاحيات الموكلة إليه، واللبس الذي ما زال يحيط بصلاحيات رئيس الدولة الجديد التي أقرّها دستور 2014، والذي بدا واضحا في الحملات الانتخابية للمترشّحين، الذين أخلطوا بين مهام رئيس الجمهورية ومهام رئيس الحكومة.

أقل من أسبوعين يفصل التونسيين عن الانتخابات الرئاسية، التي ستجري دورتها الأولى يوم الأحد 23 نوفمبر 2014، والتي ستكون البند الأخير في خارطة الطريق التي وضعها الحوار الوطني، والخطوة الأولى نحو بناء الدولة التونسية الجديدة على أنقاض تداعيات ثورة يناير 2011.

تعتبر الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس، أول انتخابات رئاسية بنظام الاقتراع المباشر تشهدها البلاد منذ الإطاحة بحكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي عام 2011، حيث انتخب المرزوقي رئيسا للبلاد عبر أعضاء المجلس التأسيسي في شهر ديسمبر 2011.

أسباب عديدة تجعل من هذا الاستحقاق الانتخابي محطّ اهتمام ومتابعة، لعلّ أهمها يكمن في الشروط الجديدة التي ستحدّد مهام رئيس الجمهورية، في صورة تختلف عن صورة الرئيس الذي عرفه التونسيون من إعلان الجمهورية يوم 25 جويلية 1957.

ماهي الآليات التي أقرها دستور 2014؟

تمتّع رئيس الجمهورية، وفق دستور 1959، بصلاحيات واسعة، باعتباره رئيس السلطة التنفيذية، وكل السلط تقريبا، مما ولّد نظاما ديكتاتوريا

رغم أن الصلاحيات التي أقرّها دستور 2014 لرئيس الجمهورية لا تختلف كثيرا كما وكيفا عن صلاحياته في دستور 1959 (تمثيل الدولة، المادة 77، اتخاذ تدابير استثنائية في حال خطر داهم مهدد لكيان الوطن، المادة 80) فإن الآليات التي يكرّسها دستور 2014 لن تؤدّي إلى تأسيس نظام رئاسوي مطلق وإنما بالأحرى نظام حكم مختلط، وسيكون لمجلس نواب الشعب (البرلمان) دور وصلاحيات أكبر، من بينها دعوة البرلمان لرئيس الجمهورية إلى مساءلة يمكن أن تتطور إلى حجب.

وتنصّ المادة 88 من دستور 2014، على أنه: “يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معلّلة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه”، وعادة ما يتعلق هذا الخرق بـ”الخيانة العظمى”.

تمتّع رئيس الجمهورية، وفق دستور 1959، بصلاحيات واسعة، باعتباره رئيس السلطة التنفيذية، وكل السلط تقريبا، مما ولّد نظاما ديكتاتوريا، لم يطبّق معادلة الفصل بين السلط، أما رئيس الحكومة، أو ما يعرف في تونس بالوزير الأول، فقد كان يضطلع بمهمة تنسيقية محدودة الصلاحيات التنفذية، على عكس المهام التي بات يضطلع بها وفق دستور 2014.

من أبرز سمات الانتقال الديمقراطي في تونس الانتقال من نظام رئاسي يسيطر على مختلف القرارات ويتحكّم في مختلف دواليب الدولة، إلى نظام تشاوري لا يمكن للرئيس، دستوريا، أن ينفرد باتخاذ القرارات الحيوية دون استشارة رئيس الحكومة وقد يصل الأمر في بعض القرارات إلى ضرورة الحصول على موافقة مجلس نواب الشعب.

هل تقلص دور الرئيس؟

الرئاسة المقبلة للجمهورية ستبدو إذا ما قارناها بالوضع السابق "مقيدة اليدين"

ظلّ منصب رئيس الدولة على درجة كبرى من الأهمية وأحد مراكز صنع القرار الجوهرية في المنظومة السياسية للجمهورية التونسية الثانية. وطبقا للمادتين 72 و77 من دستور 2014، يمثل رئيس الجمهورية وحدة البلاد ويسهر على أمنها واستقلالها واحترام دستورها. كما يتولّى تمثيل الدولة وضبط السياسات الخارجية والأمن القومي، مع استشارة رئيس الحكومة. ويتولى رئيس الجمهورية وفق دستور 2014 رئاسة مجلس الأمن القومي والقيادة العليا للقوات المسلّحة، ومن مهامه أيضا إعلان الحرب والسلم بعد موافقة مجلس نواب الشعب. وهو من يصادق على المعاهدات ويأذن بنشرها، ومن يسند الأوسمة ويصدر العفو الخاص، ويعين مفتي الجمهورية التونسية ويعفيه.

أما القسم الأكبر من المهمات الحيوية في البلاد فبات من شأن رئيس الحكومة، الذي أصبح بمعية بقية الفريق الحكومي مسؤولا أمام مجلس نواب الشعب لا أمام رئيس الجمهورية، ويتولى الإشراف على الملفات التنموية وسير العمل اليومي للحكومة ومتابعة شؤون شتى القطاعات.

ويوضح أستاذ القانون الدستوري، صادق بلعيد، في هذا السياق، أن غياب الهيمنة الرئاسية سيكون بالأحرى نتاجا للمناخ الديمقراطي السائد ولتنوع القوى السياسية التي ستحول دون تطابق التطلعات البرلمانية والرئاسية، كما كان الأمر في السابق.

ويضيف قائلا: “حتى في حال توافق هذه التطلعات، فإن المعارضة البرلمانية، حتى وإن كانت لا تمثل فيه إلا أقلية، بالإضافة إلى نشاط المجتمع المدني، سيحول ذلك دون هيمنة رئاسية ويقيد جموح المؤسسة الرئاسية”.

ويخلص بلعيد إلى أن كل ذلك يحد عمليا من صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح الحكومة التي ستنبثق عن الأغلبية البرلمانية، وأن الرئاسة المقبلة للجمهورية ستبدو إذا ما قارناها بالوضع السابق، “مقيدة اليدين”.

أمام هذه المقاييس الجدية، تبدو مسؤولية التونسيين كبيرة في اختيار رئيسهم، خاصة وأن الانتخابات الرئاسية ستكون الأولى في الجمهورية التونسية الثانية، والعملية الأكثر ديمقراطية وشفافية في تاريخ البلاد منذ الاستقلال في ترجمة فعلية لمبــادئ الديمقراطية.

*نقلا عن العرب اللندنية