ما إن يخفت الحديث عن تنظيم "داعش" في ليبيا حتي يطل برأسه من جديد، فالتنظيم الذي فقد مراكزه الثابتة في البلاد، مازال يتمتع بحضور وانتشار في الداخل الليبي، يسمح له بالعمل الدائم على محاولات نشر الخوف والرعب تعويضا للإنكسارات التي شهدها خلال الفترة الماضية وسقوط مخططه الإرهابي.

هجوم الفقهاء

ففي مؤشر جديد على تواصل خطر تنظيم "داعش" في ليبيا، شنت عناصره، في ساعة متأخرة من الليلة الماضية هجوما دمويا على منطقة الفقهاء التابعة لبلدية الجفرة، وسط ليبيا. وقال المتحدث باسم الجيش الليبي العميد أحمد المسماري، إن تنظيم داعش الإرهابي هاجم مدينة الفقهاء، على بُعد 200 كيلومتر جنوب مدينة سوكنة على الطريق الرابط بين منطقة الجفرة ومنطقة سبها.وتابع المسماري أن الهجوم أسفر عن مقتل 4 أشخاص و10 مفقودين يُرجّح خطفهم من قِبَل الإرهابيين، وكذلك حرق مركز شرطة المدينة وعدد خمس منازل وثلاث سيارات.

وكشف المجلس البلدي للجفرة صباح الاثنين، عن "مقتل 4 أشخاص من بينهم نجل رئيس فرع منطقة الفقهاء، نتيجة الهجوم إلى حد الآن من قبل تنظيم داعش الإرهابي"، مشيراً إلى أن "رئيس الفرع البلدي بمنطقة الفقهاء وجه نداء عاجل لجميع قوات الجيش لمطاردتهم والقضاء عليهم وأن منطقة الفقهاء وضعها حرج ومأساوي جدا نتيجة هذا الهجوم.

وأكد المجلس أن عناصر داعش هاجموا بلدة الفقهاء بواسطة 25 آلية مسلحة، كما أضرموا النار في مركز للشرطة ومقار الدفاع المدني والحرس البلدي ومحطة إرسال شبكة المدار للهاتف المحمول ما أدى لانقطاع الشبكة.وقالت البلدية عبر مكتبها الإعلامي بأن الإرهابيين انسحبوا من المنطقة بعد ترويع السكان، وحرق بعض البيوت، وخطف عدد من الشباب لم يعرف عددهم بعد على وجه الدقة.

والفقهاء تقع في منطقة نائية جنوبي منطقة الجفرة وهي إحدى المناطق الخمسة المكونة للمنطقة قرب جبال الهروج على الطريق المؤدي نحو الجنوب الغربي إلى منطقة براك ومدينة سبها.وسبق أن هاجمها تنظيم داعش في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 وقتل 14 شخصًا بين عسكريين ومدنيين ذبحًا بالسكاكين.

هجوم انتقامي

ويأتي هذا الهجوم بعد أسبوعين من إلقاء قوات الجيش القبض على أحد القيادات الليبية البارزة في التنظيم ويدعى جمعة القرقعي، ومرافقه علي عبدالغني الفيتوري، اللذين ألقي القبض عليهما في جبال الهاروج بالقرب من مدينة الفقهاء يوم 16 أكتوبر من قبل الكتيبة 128 التابعة للقيادة العامة للجيش الليبي.

واعتبر عضو البرلمان عن دائرة الجفرة، إسماعيل الشريف، في بيان نشره عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، أن هذا الهجوم "يأتي كردة فعل على عملية القبض على القيادي الداعشي جمعة القرقعي ومرافقه علي عبدالغني الفيتوري، وقال الشريف: "لقد حذرنا سابقاً من هشاشة الوضع الأمني في مناطق الهاروج والذي يعتبر ملاذا لكل التنظيمات والعصابات التي تمارس الخطف والقتل والحرابة والاتجار بالبشر والمخدرات. 

والقرقعي (30 سنة)، هو أمير داعش على بلدة النوفلية والمسؤول عن تموين وإمداد التنظيم، وشارك في أغلب الهجمات الإرهابية التي تعرض لها الجيش الليبي عامي 2017 و2018، وطالت تلك الهجمات البوابات الأمنية الموجودة في مناطق النوفلية ووجلة والجفرة والفقهاء وسرت، كما كان قائد الهجوم على الشركة التركية "أوستايل" للإنشاءات في نهاية يناير 2016، وقام بالمشاركة في ذبح 3 من حرّاسها.

وأدت إعترافات القرقعي إلى إحباط هجمات إرهابية خطيرة، حيث تمكن الجيش الليبي من تفكيك سيارات مفخخة جنوب مدينة هرواه كانت معدة لاستهدافه.ونشرت الكتيبة "128" التابعة للقوات المسلحة الليبية صورا تبين عملية تفكيك السيارة نوع جيب في منطقة صحراوية كانت تقل كميات كبيرة من القذائف والصواريخ.

كما عثرت الكتيبة بناء علي اعترافات القرقعي على "عدد من الكهوف التي كان داعش يتخذها مقرات له ومخازن للذخيرة ومستشفيات ميدانية موزعة في عدة مناطق".وقد نشرت صورا لتلك الكهوف التي تحوي بعض المعدات التي كان يستخدمها التنظيم المتطرف.

توحيد الصفوف

ونظم أهالي منطقة الجفرة وقفة احتجاجية، للتعبير عن تنديدهم بهجوم تنظيم داعش الإرهابي على مدينة الفقهاء.وطالب المتظاهرون القوات المسلحة بتحمل مسئوليتها في حماية المدينة ومنع تكرار تلك الاعتداءات مرة أخرى.

وعلى الصعيد الرسمي، أعلن مجلس النواب، الاثنين، الحداد في البلاد ثلاثة أيام على أرواح شهداء الهجوم الإرهابي على الفقهاء.وأكد المتحدث الرسمي باسم مجلس النواب عبدالله بليحق، في تصريح خص "بوابة أفريقيا الإخبارية" بنسخة منه، أن "مجلس النواب طالب القوات المسلحة بتأمين المنطقة وملاحقة المهاجمين وفك أسر المحتجزين في أسرع وقت"

وبدوره، دان مجلس الدولة الهجوم الإرهابي، وتقدم في بيان له بـ"التعازي إلى اسر الضحايا".وحمل المجلس "الجهات الأمنية المسؤولية لملاحقة مرتكبي هذه الجريمة والعمل على إطلاق سراج المخطوفين"، معربا عن أسفه "لحصول مثل هذه الجرائم الإرهابية التي يكون ضحاياها دائما من المواطنين الأبرياء".

رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، من جهته، ترحم في تصريح لوكالة الأنباء الليبية، على ضحايا الاعتداء الإرهابي على مدينة الفقهاء ببلدية الجفرة، مؤكدا "أن هذا العدوان يمثل سبباً آخر يدعونا لتوحيد جهودنا العسكرية والأمنية، فلا مجال للتهاون في تحقيق ذلك".وأضاف السراج "علينا الإسراع بالتكاتف وتوحيد صفوفنا لضرب واقتلاع الإرهاب من أرضنا، ومواجهة الأعمال الإرهابية الإجرامية التي تستهدف أمن واستقرار الوطن".

وأعربت المنظمة العالمية لخريجي الأزهر (فرع ليبيا)، عن "إدانتها لما قامت به جماعة داعش الإرهابية من ذبح وخطف عدد من رجال الشركة والمدنيين بمنطقة الفقهاء".وأكدت المنظمة في بيان أصدرته وخصت "بوابة أفريقيا الإخبارية" بنسخة منه، على "أهمية توحيد الصف الليبي خلف القوات المسلحة الليبية في حربها ضد هذه الجماعات الظلامية التي تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد".

ومن جانبها، دانت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بشدة الاعتداء الدامي الذي تعرضت له بلدة الفقهاء، ووصفت البعثة في بيان لها الهجوم بأنه "عمل انتقامي وحشي نفذه تنظيم داعش، وتقدمت بـ"خالص تعازيها لأسر الضحايا داعية إلى الإفراج الفوري عن المخطوفين وعودتهم إلى أسرهم بشكل آمن".

وأعربت البعثة الأممية عن "قلقها البالغ إزاء الوضع الأمني الذي يزداد هشاشة في وسط ليبيا"، ودعت الليبيين إلى وضع خلافاتهم جانباً والتعاون على دحر التهديد الإرهابي الذي يهدد استقرار وأمن بلادهم".

أزمة الجنوب

ويعمق الهجوم الإرهابي الأخير من جراح الجنوب الليي، الذي يشهد منذ أسابي توترا أمنيا كبيرا على خلفية انتشار العصابات الأجنبية التي تقوم بعمليات الخطف والتهريب والحرابة والسطو والتعدي على الممتلكات الخاصة في هذه المنطقة التي تعرف عدم استقرار أمني وانتشار الفوضى فيها.

وتتخذ عصابات الجريمة والجماعات الإرهابية من مدن الجنوب الليبى ملاذا لها بسبب توافر المناخ الملائم لتواجد تلك التنظيمات، فضلا عن إهمال الحكومات الليبية لمدن الجنوب الليبى وعدم الالتفات إلى المعاناة الكبيرة التى يلاقيها سكان تلك المنطقة. وتشير تقارير استخباراتية إلى أن فلول تنظيم داعش الذين هزموا في سرت في نهاية 2016 انتقلوا إلى جنوب ليبيا.

ويشكل الجنوب الليبي حيزا أساسيا في مسيرة الدواعش، خاصة وأن تنظيم الدولة الإسلامية أعلن عن تأسيس "ولاية فزان"، وإن كان لم يتمكن من التوطين وحيازة نطاق جغرافي بعينه كما حدث في سرت، وهو ما يرجعه البعض إلى صعوبة تقبل العامل القبلي لتوطين التنظيم جغرافيا وإن سمح له باختباء بعض عناصره.

وتعالت الأصوات فى الجنوب الليبى مؤخرا عبر تشكيل حراك "غضب فزان" والذى يدعو لتوفير متطلبات أهالى الجنوب الليبى، وحل كافة المشكلات الأمنية والاقتصادية التى تواجه تلك المنطقة وبث رسائل تحذيرية لكافة الأطراف والقوى السياسية الليبية بضرورة الالتفات إلى جنوب ليبيا، ومحاولة تجنيب تلك المنطقة الأخطار التى تهدد أمن واستقرار مدن الجنوب الليبى وتعزز نفوذ الجماعات المتطرفة فى تلك المنطقة.

في خضم هذا المشهد المعقد والمتداخل يبقى الجنوب الليبي في محنة صعبة ومتجددة ما لم تؤخذ في الاعتبار معالجة معضلاته المزمنة، وما تعانيه المنطقة من أزمات كالنقص في الخدمات وغياب الأمن ولنزاعات القبلية. ورغم أن الجنوب ينتج تقريبا ربع النفط الليبي ويحوي موارد معدنية مختلفة، فإنه ظل مهمّشا سياسيا واقتصاديا.