يعيش الجنوب الليبي في ظل التشرذم السياسي والصراع العسكري والاستقطاب الحاصل بين الأطراف الفاعلة في المشهد الليبي، أوضاعا صعبة جدا في ظل التهميش وغياب الخدمات، ناهيك عن الصراعات القبلية التي تغذيها الولاءات المختلفة وتضارب المصالح في عموم المنطقة الجنوبية.

وأدت هذه الأوضاع إلى جعل المنطقة في مرمى أخطار كبيرة، فالمساحة الشاسعة من الأرض التي تتخطى المليون كيلو متر مربع، تحولت لبؤرة إجرام وإرهاب، بعد أن باتت ساحة مفتوحة على مصراعيها للعصابات الأجنبية والعناصر الإرهابية،التي تستغل غياب الأمن ومقومات ومؤسسات الدولة.


** خطر العصابات

ويشهد الجنوب الليبي منذ نحو أسبوعين توترا أمنيا بسبب هجمات لمجموعات مسلحة تابعة للمعارضة التشادية، التي تتهم بممارسة الخطف والنهب والتهريب وغيرها من الأنشطة لإجرامية. ويقول علي أكري موليا، قائد وحدة مكلفة حماية المنشآت النفطية في أوباري في الجنوب الليبي، إن "أعمال الخطف والحرابة والسرقة، كثرت" في الآونة الأخيرة، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية.

ويشير موليا إلى خطف أفراد من قبيلة الزيادين في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) قرب أم الأرانب، موضحاً أن كتائب تابعة لقبائل في المنطقة تمكنت من الإفراج عنهم. ويروي قائلاً:"حدثت اشتباكات بعد تحرك عدد من الكتائب العسكرية نحو جبل مغناي وتم الدخول في معركة ضد العناصر المسلحة للمعارضة التشادية، وأسفر القتال عن مصرع عشرة من الكتائب العسكرية.

ومن جهته، يؤكد النائب في البرلمان الليبي عن منطقة الجنوب محمد أمدور، أن "حقيقة وجود مسلحي المعارضة التشادية في مناطق عديدة من الكفرة مروراً بأم الأرانب وحوض مرزق بالجنوب (على بعد أكثر من 400 كلم من الحدود التشادية)، حقيقي. لديهم وجود على الأرض، حيث يقيمون في منازل ولديهم سيارات، ولا يستطيع أحد الحديث معهم في ظل الفوضى التي تعيشها البلاد.

واستغلت مجموعات من المتمردين التشاديين والسودانيين، الفوضى والانقسامات لإقامة قواعد خلفية لها في الجنوب الليبي القريب من دولها، تنطلق منها لتنفيذ عمليات تهريب وأنشطة مختلفة.وتستفيد هذه المجموعات من حدود غير مضبوطة ومن دعم مجموعات وقبائل تعيش في المناطق الحدودية بين الدول الثلاث.

ويشكّل تأمين الأطراف أحد أكبر التحدّيات التي تواجهها البلاد. ويتيح ضعف مراقبة الحدود لأسواق السلاح والبشر والمخدرات أن تزدهر، إلى جانب عمليات الاتجار غير المشروع اليومية بالوقود والبضائع، والتي تمارسها العصابات المنتشرة هناك، وهو مايترتّب عنه عواقب وخيمة على ليبيا والمنطقة ككل.

وتتخذ حركات التمرد المسلحة التشادية والسودانية من الصحراء الليبية مقرا لها،وسبق أن أعلنت قوات الجيش الليبي أكثر من مرة اشتباكها مع هذه الحركات. وحسب تقرير لخبراء في الأمم المتحدة نُشر أخيراً، تسعى هذه المجموعات إلى "تعزيز وجودها في ليبيا لأهداف تخدم مصالحها".

ويمثل وجود هذه العناصر التشادية في مناطق الجنوب الليبي خطرًا حقيقيًا، لا سيما في ظلّ استغلالها للوضع الأمني المتردي في تنشيط وتوسيع عملياتهم الإجرامية، علاوة على الارتباط المصلحي لهذه المجموعات، مع التنظيمات الإرهابية التي تسعى منذ سنوات إلى إقامة "إمارة إسلامية" في المنطقة، وفق مراقبين.


** خطر الإرهاب

ويشهد الجنوب الليبي وجودا مكثفا للتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم "داعش"، الذي يسعى جاهدا لتنظيم صفوفه وإيجاد قاعدة للتمركز وشن عمليات إرهابية في الداخل الليبي وذلك بعد أن خسر أهم معاقله في مدن سرت وبنغازي ودرنة وتشتت عناصره الفارة هنا وهناك.

وأظهر الهجوم الإرهابي الذي شنّه تنظيم "داعش" على بلدة الفقهاء التابعة لبلدية الجفرة، وسط جنوب ليبيا، ليل الأحد الاثنين، وأدى إلى مقتل أربعة مدنيين واختطاف عشرة آخرين من سكان البلدة بالإضافة إلى شرطييْن، نجاح التنظيم بالعودة إلى الجنوب وسعيه للإنتقام لخسائره،خاصة وأن الهجوم يأتي بعد أيام من تمكن قوات الجيش الوطني الليبي من القبض على قيادات بارزة فى تنظيم داعش، وفى مقدمتهم جمعي القرقعي بالقرب من بلدة الفقهاء.

وأرجع مراقبون التواجد الداعشي هناك، إلى توافر المناخ الملائم لتواجد تلك التنظيمات، فضلا عن إهمال الحكومات الليبية لمدن الجنوب.وقال محسن البكوش، المحلل السياسي الليبي،في حديث لــ"العربية.نت"،أن التنظيم يتغذى على انقسام الأجسام السياسية الحاكمة في البلاد،مشيراً إلى تحول منطقة الجنوب الليبي لساحة لتواجد كل العناصر الغازية من منظمات المعارضة التشادية إلى المنظمات الإرهابية كالقاعدة وداعش.

ونقل المحلل عن مصادر وصفها بالموثوقة أن "داعش يقيم معسكرات لتدريب بجبال الهروج البعيدة عن سلطة حكومات البلاد المنقسمة مستفيدا من حدود البلاد المفتوحة والقريبة من منطقته الجديدة لتسهيل وصول مقاتليه الأجانب"، مشيراً إلى أن مصادره تؤكد أن التنظيم يعيد ترتيب صفوفه حاليا.

وتنتشر عناصر لتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامي بجنوب ليبيا وتتحالف مع عصابات الجريمة وبعض الجماعات الصغيرة الأخرى، وذلك للعمل تحت قيادة واحدة وتنفيذ مخطط التنظيم الإرهابي فى خلق كيانات له بدول الجوار الليبي، فضلا عن رغبته فى شن هجمات تستهدف جيوش عدد من الدول ومنها مالي وتشاد والنيجر، والتوسع بشكل أكبر فى منطقة الساحل الأفريقى.

وتشير تقارير غربية إلى هجرة مئات من مقاتلي "داعش" من سورية والعراق إلى ليبيا عبر حدودها المشتركة مع مصر والسودان والنيجر وتشاد، كما أنها تؤكد في الوقت ذاته استفادة القاعدة من ظاهرة تجارة البشر، عبر مشاركتها فيها أو الاستفادة من وصول مقاتلين إليها عبر قوافل المهاجرين القادمين من دول أفريقية.

ورغم الخسائر الكبيرة التي منيت بها التنظيمات الإرهابية في ليبيا، فإنها مازالت تحافظ على وجودها مع تواصل حالة الفوضى في البلاد. وفي مارس الماضي، أكّدت البعثة الأممية لدى ليبيا، أنّ تنظيمي داعش والقاعدة، لا يزالان متواجدين في ليبيا، ويمارسان أعمالهما الإرهابية، من خلال شنّ هجمات على نقاط أمنية، وكتائب عسكرية. وحذّر المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، في إحاطة قدمها لمجلس الأمن، من تلك التنظيمات الإرهابية، مؤكداً أنّه على كافة الليبيين التكاتف وتوحيد الجهود للقضاء على هذا التهديد الذي سيؤثر في استقرار أمن البلاد.


** تحركات ليبية

وأمام تصاعد الخطر في الجنوب الليبي، يتحرك الجيش الليبي في محاولة لفرض الأمن، وقال العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم القيادة العامة، لوكالة "فرانس برس" إن "غرفة عمليات حوض مرزق التي تشكلت بأمر القائد العام (حفتر) ستعمل على زيادة استتباب الأمن في الجنوب الليبي ضد العصابات الإجرامية والمعارضة التشادية التي باتت تعمل داخل الأراضي الليبية على الخطف والابتزاز وجني أموال طائلة قد تُستخدم في أنشطة إرهابية مع عوائد التهريب والاتجار بالبشر عبر الهجرة غير الشرعية".

وأشار المسماري، إلى أن الزيارة التي قام بها المشير خليفة حفتر أخيراً إلى تشاد ولقاءه مع الرئيس إدريس ديبي "جاء في إطار توحيد الجهود في محاربة هذه الآفة والتنسيق المشترك لكي لا تكون ليبيا منطلقاً لأي أعمال من شأنها تهديد دول جوار ليبيا أو تشكيل خطر على الليبيين".

وكان المشير خليفة حفتر، أعلن في وقت سابق، إطلاق عملية "حوض مرزق" بالتنسيق مع عمليات المناطق العسكرية "الوسطى وسبها وبراك وأوباري وغات ومرزق والكفرة، بهدف ملاحقة العصابات الأجنبية المسلّحة حتى طردها إلى بلدانها الأصلية، وتحرير منطقة الجنوب بالكامل.

وبدورها، شكّلت حكومة الوفاق الليبية، عقب اجتماع عقدته، الأربعاء الماضي،في طرابلس لمناقشة أزمة الجنوب الليبي، لجنة معنية بالشق الأمني والعسكري، ضمت وزيري الداخلية والمالية، ووكيل وزارة الدفاع، بالإضافة إلى ممثلين عن جهاز المباحث العامة والمخابرات العامة. واعتبر عبد السلام كاجمان، نائب السراج، في مؤتمر صحافي عقده رفقة عدد من الوزراء، أن ما يحدث في الجنوب "أمر خطير جدا بسبب وجود عصابات إجرامية، تنتهك السيادة الليبية وتهدد الأمن القومي، وتمتهن السطو المسلح"، مشيدا بالجهود التي تبدلها التشكيلات العسكرية المسلحة، والقوات المساندة لها في ردع العصابات بمنطقة أم الأرانب وتمسة.

ونبه كاجمان خلال المؤتمر، إلى ضرورة تكاثف كل الليبيين في الشرق والغرب والجنوب لصد أي هجوم أجنبي، سواء كان من قِبل المعارضة التشادية أو جماعة العدل والمساواة أو أي جهة أجنبية كانت.مشيرا إلى إقرار مجلس الوزراء مخصصات مالية أولية بقيمة 100 مليون دينار تتعلق بالترتيبات الأمنية والشق العسكري في الجنوب، وبحث إقرار مخصصات أخرى.

وتأتي تحركات حكومة الوفاق، في أعقاب تنديد بعثة الأمم المتحدة في ليبيا  بـ"تدهور الأوضاع الأمنية في الجنوب الليبي"، ودعوتها "السلطات الليبية إلى اتخاذ إجراءات فورية وفعالة حيال حالة الانفلات الأمني التي تشهدها المنطقة". كما أدانت "الانتهاكات التي تقترفها المجموعات المسلحة الأجنبية داخل الأراضي الليبية".

وفي غياب الحل السياسي وتواصل إنقسام مؤسسات الدولة، يرى مراقبون أن فرض الأمن في الجنوب الليبي يبقى صعبا في ظل المساحات الشاسعة والحدود المفتوحة التي تسهل إنتشار العصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية،ناهيك عن نقص الإمكانيات في ظل حضر التسليح المفروض على الجيش الليبي والذي يعيق قدره على مواجهة هذه التحديات الكبيرة.