كشفت وثيقة تم الحصول عليها مؤخراً وصاغها "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" عن درجة غير معتادة من التأمل الذاتي بشأن سيطرة الجماعة الإرهابية لفترة قصيرة على أجزاء من جنوب اليمن. فبعد انسحاب الجماعة إلى ملاذات آمنة تاريخية في المناطق الداخلية عقب الحملة التي قام بها الجيش اليمني في السنة الماضية، عادت "«القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" إلى جذورها التمردية بينما تعمل على إعادة تشكيل قواتها. وكجزء من عملية «القاعدة» التجديدية، فإنها قامت بمراجعة شاملة لسيطرتها وإدارتها للجنوب خلال الفترة 2011 - 2012، وهذا نهج فريد نظراً لأن «التنظيم» لم يوجه مطلقاً الكثير من الانتباه إلى تفاصيل الحكم والتنمية كما لم يسبق له إدارة مثل تلك المنطقة الكبيرة. وهذه الوثيقة تشير إلى جملة أمور من بينها أن "«القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" ترى فائدة من وراء تحليل تجربتها في الحكم واستخدامها كأداة دعاية لتفنيد النقد الموجه إليها بأنها لا تبالي بالناس. وفي حين أن السجل الفعلي لإدارة "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" للمنطقة يفتقر إلى الكثير لما يورده في مراجعته الذاتية، إلا أن العمق الفكري للوثيقة وتركيزها على المشاعر الشعبية يوفر رؤى قيّمة حول استراتيجية «القاعدة» المستقبلية في اليمن وغيرها من الدول.

ظروف فريدة في اليمن

دأبت «القاعدة» على مدار تاريخها أن تحل ضيفاً على حكومة أجنبية أو جماعة قبلية/طائفية أو جماعة إرهابية أخرى (على سبيل المثال، في السودان، والمنطقة القبلية الباكستانية، وأفغانستان تحت حكم طالبان). وفي حالات أخرى، كانت الجماعة منشغلة جداً بالقتال لدرجة أنها لم تتُح لها الفرصة لإقامة برنامج حكم أساسي خاص بها (على سبيل المثال، خلال حرب العراق). بيد أن الجماعة في اليمن نجحت في إقامة ملاذ داخلي آمن لها لا تنزاعها فيه إلى حد كبير قوات الأمن الحكومية، مما أتاح لها فرصة كبيرة لتطبيق الشريعة في الحكم.

وبالإضافة إلى ذلك، إن زعماء «القاعدة» عادة ما كانوا ينتمون إلى خلفية إثنية أو عرقية مختلفة عن السكان الذين يعيشون إلى جانبهم، وهو ما حدّ بطبيعة الحال من قدرتهم على اقتراح نظام حكم لا ينظر إليه السكان المحليون على أنه ليس إلا نظاماً مستورداً من الخارج. بيد أن "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" يخضع لقيادة يمني، كما أن الكثير من أعضاء قيادته العليا هم من أبناء اليمن أو المملكة العربية السعودية المجاورة، ولهذا فإن الجماعة في وضعية أفضل لبناء علاقة مع السكان المحليين وفهم مخاوفهم.

وخلال العام الذي سيطر فيه "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" على محافظتي أبين وشبوة في الجنوب، فإنه حاول تطبيق نظام حكم قوي يتضمن المشاركة المجتمعية وتوصيل الخدمات الأساسية وتطبيق العدالة وتقديم المساعدات الإنسانية وتوفير الأمن للسكان وحرية الحركة لممارسة الأنشطة التجارية. ورغم تلك الجهود للفوز بقلوب السكان وعقولهم إلا أن الحكم الوحشي للجماعة أدى إلى تنفير العديد من السكان المحليين ودفع الآلاف إلى الفرار من الواقع القاسي لنظام الحكم الإسلامي الذي طبقته «القاعدة». ومنذ إجباره على التراجع إلى ملاجئه التقليدية، راجع "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" تجربته القصيرة في الحكم وهو يحاول تعديل نهجه وتمرير الدروس المستفادة إلى منتسبي «القاعدة» الآخرين.

تحول استراتيجي

من بين الدروس التي استفادها "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" من سيطرته [على الجنوب] أن التطبيق الانتقائي لأحكام الشريعة الرئيسية مع مواجهة المشاكل الرئيسية للسكان المحليين (على سبيل المثال، الأمن ونزاعات المياه والصرف الصحي) هو أكثر فائدة من التطبيق الصارم لتفسير «القاعدة» للقانون الإسلامي. وفي سبيل تحقيق تلك الغاية، فإن وثيقة المراجعة التي نشرها "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" مؤخراً نصحت المنتسبين لـ "تنظيم «القاعدة» في المغرب الإسلامي" بمحاولة الفوز [بتأييد] السكان المحليين "من خلال توفير سبل الحياة ورعاية احتياجاتهم اليومية مثل الطعام والكهرباء والمياه. إن توفير هذه الضروريات سيكون له عظيم الأثر على السكان وسيجعلهم يتعاطفون معنا ويشعرون بأن مصيرهم مرتبط بمصيرنا". وبطبيعة الحال، فإن "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" أوضح أن هذا التغيير في التركيز ما هو إلا تعديل تكتيكي مؤقت وصولاً لهدفه النهائي المتمثل في تشكيل حكومة قائمة على الشريعة الإسلامية.

كما نصح "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" أشقاءه المنتسبين إليه "باتباع نهج متدرج مع [الناس] عندما يتعلق الأمر بممارساتهم الدينية... عندما تجد شخصاً ما يرتكب خطيئة، يجب علينا معالجة المسألة بالقول الحسن وبتوجيه النصيحة الرقيقة أولاً، ثم بالتوبيخ الشديد، ثم بالقوة". إن هذا التركيز على التوجيه والتطبيق الديني المتدرج يشير إلى أن «القاعدة» تتبنى استراتيجية أكثر اختلافاً وتمايزاً تركز كثيراً على الفوز بالدعم الشعبي مثلما تركز على الاستيلاء على السلطة.

وبالإضافة إلى ذلك، تعلم "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" أنه يجب أن يكون لديه برنامج حكم شامل يتضمن إدارة مدنية تكون جاهزة للتطبيق عند "تحرير" منطقة ما بحيث يرى الناس تحسناً فورياً في وضعهم. ومن الناحية النظرية، فإن ذلك سوف يُضعف أي اتهامات خارجية بأن «القاعدة» تسيء معاملة السكان. إن شمولية جهود "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" لتحليل ومشاركة تجاربه في جنوب اليمن تظهر أن «القاعدة» تتكيف مع الوقائع الجديدة لـ "الربيع العربي"، حيث تعمل على دمج الدروس المستفادة من أخطاء الماضي وتطوير نهج أكثر تقدمية للفوز بالسلطة والأرض.

الخيارات الأمريكية

من جوانب عديدة يشير نهج الحكم الرشيد الذي تتبناه «القاعدة» إلى الخطوط العريضة لاستراتيجية هزيمة التنظيم في اليمن. فمع إعادة "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" واتباعه لقيادة أكثر مركزية في نهج «القاعدة» الشامل، فإن استراتيجيته لإشراك السكان المحليين ستكون أكثر انسجاماً مع مخاوف السكان وستزداد صعوبة هزيمتها من خلال استعمال الوسائل العسكرية وحدها. وبناءً على ذلك، على الولايات المتحدة أن تستخدم نتائج مؤتمر "الحوار الوطني" المستمر في اليمن كفرصة لمساعدة صنعاء على مواجهة استراتيجية الفوز "بالقلوب والعقول" التي تتبناها «القاعدة» بمزيد من الحسم والقوة.

وهذا يعني من الناحية العملية خفض الاعتماد الحالي على هجمات الطائرات بدون طيار بأكبر قدر ممكن مع الضغط على الحكومة اليمنية الإصلاحية لمواجهة استراتيجية القوة الناعمة لـ تنظيم «القاعدة» في الريف على أكمل وجه بنفس شمول مواجهة استراتيجيتها العسكرية. وهذا سيتطلب وجوداً أمنياً مستمراً في المحافظات - وجوداً يركز على تجنيد السكان ضمن قوات حماية محلية قادرة على العمل مع الجيش الوطني وقوات الشرطة. وسيتطلب ذلك أيضاً جهوداً أمريكية ودولية مكرّسة لإقامة شراكة مع صنعاء بينما تقوم بإلغاء مركزية برامج الحكومة وتحقيق المزيد من الخدمات والعدالة والحكم الرشيد للمجتمعات النائية. بإمكان واشنطن أن تقدم أكبر قدر من المساعدة من خلال التركيز على القضايا التالية:

الإدارة المحلية القوية. تتطلب هزيمة "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية" إقامة شراكة مع المجتمعات المحلية التي تحاول مقاومة العنف والتخويف. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية ينبغي على المسؤولين الأمريكيين بدء العمل مع السلطات المدنية المحلية في تلك المحافظات التي يزداد فيها نشاط «القاعدة» أكثر من غيرها. وهذا يعني إعادة تخصيص الموارد بعيداً عن المناطق الآمنة إلى حد بعيد وإعادة تنظيم السفارة الأمريكية بحيث تركز على العمل خارج العاصمة. ولا تستطيع واشنطن القيام بهذا العمل بمفردها - وبدلاً من ذلك ينبغي عليها أن تقيم شراكة مع العديد من الدول والمؤسسات الدولية لتوفير توجيه مباشر وغيره من ضروب المساعدة للمسؤولين المحليين. وسوف يقدِّم المستشارون دعماً مباشراً للمحافظين والمسؤولين المحليين وأعضاء منتخبين في المحافظات والمجالس البلدية؛ كما يمكن توفير الأمن من خلال الحكومة اليمنية عن طريق الشراكة مع المجتمع الدولي.

الأمن المحلي المستدام. يتمتع تنظيم «القاعدة» بالقوة في العديد من المناطق في اليمن لأن دوائر الأمن الحكومية أهملت مواجهته في تلك المناطق منذ فترة طويلة. وبالإضافة إلى ذلك، تفتقر العديد من المجتمعات المحلية إلى آلية للدفاع عن نفسها من العنف والتخويف. ولهذا، يجب على واشنطن أن تشاطر دروسها المستفادة من بناء قوات حماية محلية في العراق وأفغانستان، وأن تقيم شراكة مع القوات اليمنية لتوفير الأمن المستدام للمجتمعات المحلية في الملاذات الآمنة لـ "تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية".

التنمية المحلية القوية. في سبيل تهدئة المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم «القاعدة» أو نفوذه، ينبغي على واشنطن أن تساعد صنعاء على تطوير نهج شامل لبناء مؤسسات محلية. وهذا يعني مزامنة توصيل الخدمات (مثل العدالة وتطوير البنية التحتية) مع تبني استراتيجية "واضحة، صامدة، بناءة وانتقالية".

تعيين سفير جديد. انتهت فترة خدمة السفير الأمريكي في اليمن جيرالد فايرستاين في أيلول/سبتمبر، لكن لم يتم حتى الآن تسمية خلفه.  يجب على واشنطن أن تعين سفيراً جديداً على وجه السرعة لكي يستغل الفرص الجديدة التي سيوفرها مؤتمر "الحوار الوطني" في اختتام جلساته. كما أن ذلك الإجراء سوف يوفر قيادة أمريكية جديدة وطاقة جديدة لاستراتيجية تركز على إقامة شراكة مع صنعاء في المحافظات ومواجهة تنظيم «القاعدة» في أقوى معاقله.

دانيال غرين هو زميل آيرا وينر في معهد واشنطن. وقد عاد مؤخراً من رحلة بحث إلى اليمن.