أدى الصراع على مراكز النفوذ في الغرب الليبي إلى مواجهة أعلنها التيار الإخواني القطري التركي في دار الإفتاء بطرابلس ضد هيئة الأوقاف بزعم تبنيها للسلفية العلمية أو ما يسميه الإسلام السياسي بالتيار الجامي المدخلي المحسوب على المملكة العربية السعودية.

ويشير المراقبون إلى أن المواجهة في حقيقتها مواجهة سياسية بغطاء ديني تدور تحت عباءة التحالف المحلي بين جماعة الإخوان وتنظيم القاعدة، والذي تبلور منذ العام 2011 برعاية مخابراتية أجنبية ووصاية قطرية  سرعان ما التحقت بها تركيا وجيرتها لخدمة مشروعها في المنطقة العربية وخاصة في سوريا وليبيا، وتستهدف التيار السلفي  بزعم اعتناقه للفكر الوهابي المناوئ لجماعات الإسلام السياسي.

وخلال الأسبوع الماضي، جدد المفتي المعزول الصادق الغرياني هجومه على رئاسة هيئة الأوقاف التابعة لحكومة الوفاق متهما إياها بأنها تابعة للاستخبارات السعودية وأنها وصلت إلى رئاسة الهيئة بالتواطؤ مع المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق.

وقال الغرياني، في برنامج “الإسلام والحياة” الذي يبث كل أربعاء على قناة «التناصح» التي يديرها أبنه سهيل، من تركيا بتمويلات من الدوحة، “إن هيئة الأوقاف بحكومة الوفاق، ورئيسها محمد العباني، موالية للعدو وتتبع منهج المداخلة، وهي فرع من فروع الاستخبارات السعودية”.

وتعتبر قناة «التناصح» من الكيانات المصنفة في قائمة الإرهاب الصادرة عن الدول الأربع السعودية والإمارات ومصر والبحرين، بينما أدرج اسم الصادق الغرياني على قائمة المتهمين بممارسة الإرهاب والتحريض عليه.

وقال الغرياني، الذي تولى منصب الإفتاء منذ العام 2012 بقرار من المجلس الانتقالي السابق، وعزله مجلس النواب من منصبه في أغسطس 2014، وبقي يدير دار الإفتاء بطرابلس من مقر إقامته في تركيا، إن “الرئاسي متضامن ومتعاون ومتواطئ معالمداخلة، وهم لم يصلوا إلى إدارة الأوقاف إلا بالتعاون مع بعض الكتائب مثل كتيبة الردع وبعض النخب الطرابلسية”.

وتابع الغرياني أن دار الإفتاء تمثل المذهب المالكي الذي درج عليه البلد منذ المئات من السنين ومذهب المداخلة هو مذهب سعودي تابع للاستخبارات السعودية. وقال إن المساجد التي في طرابلس وغرب ليبيا تتبع هيئة الأوقاف التابعة لمذهب “المداخلة”.

وأضاف معلقا على قرار غلق المساجد بسبب جائحة كورونا، “نحن لا علاقة لنا بهذا الأمر وقد نادينا منذ بداية الأزمة بعدم قفل المساجد ونتبرأ منه وليس لدار الإفتاء مسؤولية عنه والمسؤولة عنه هي هيئة الأوقاف التابعة لمداخلة طرابلس”.

وسبق للغرياني أن هاجم رئيس هيئة الأوقاف في حكومة الوفاق، واصفا  إياه بأنه “تلميذ صغير لشيوخ السعودية”، كما سبق له أن شن هجومات عدة ضد ميليشيا قوة الردع الخاصة التابعة لوزارة الداخلية، بسبب توقيفها لعدد من عناصر تنظيمي داعش والقاعدة الإرهابيين، متهما إياها وآمرها عبدالرؤؤف كاره بأنهما مرتبطان بالنظام السعودي، رغم أن ميليشيا الردع تعتبر من أشرس المدافعين عن حكومة الوفاق في وجه تقدم الجيش الوطني وكذلك من أبرز المرحبين بالتدخل التركي السافر.

بداية الصراع

كانت ليبيا شهدت بدايات الصراع بين التيارين منذ أحدث فبراير 2011، عندما دعت جماعات سلفية إلى عدم الخروج عن ولي الأمر في ذلك الوقت، وإلى عدم الانسياق في الفتنة، داعية أتباعها إلى ملازمة بيوتهم. وأطلقت عليهم قوى الإسلام السياسي صفة المداخلة نسبة إلى رجل الدين السعودي ربيع بن هادي المدخلي. وبعد الإطاحة بالنظام تعرض عدد من أفراد التيار السلفي إلى الاغتيال أو الاختطاف أو التهجير من قبل الجماعات الإرهابية وخاصة في شرق البلاد.

ومنذ ذلك الوقت أصبح كل رجل دين غير داعم للميليشيات والجماعات الإرهابية أو غير مساند للتدخل التركي القطري أو معاد لجماعة الإخوان ولتنظيم القاعدة محسوبا على النظام السعودي والتيار المدخلي، وهي التهمة التي تطول حاليا هيئة الأوقاف التابعة لسلطات طرابلس.

وقال عبدالباسط غويلة، عضو هيئة علماء ليبيا ودار الإفتاء التي يتزعمها الصادق الغرياني بطرابلس، “يبدو أن هيئة الأوقاف وعلى رأسها العباني أصابها مرض شيخهم ربيع ‘لا أدري لا أذكر’، فهم ينفون عن أنفسهم أنهم مداخلة ويدعون أنهم ينتمون إلى المذهب المالكي”.

ويعتبر غويلة المقيم بدوره في تركيا والمقرب من الديوان الأميري في الدوحة من أبرز المنظرين للإرهاب والتطرف في ليبيا والمنطقة العربية. وكان قد نجح في تكوين ثروة طائلة من أموال التبرّعات عندما كلّفته المخابرات الكندية بالإشراف على مسجد أوتاوا.

وتحول منذ العام 2011 إلى المؤتمن على نقل الأموال القطرية إلى الجماعات المتشددة في بنغازي، وعقد صفقات شراء وتهريب السلاح إلى المتمردين.

وهاجم عضو المؤتمر الوطني السابق عن حزب العدالة والبناء الإخواني محمود عبدالعزيز مسؤول هيئة الأوقاف بقوله “العباني يقول إن تبعيته لولي الأمر الشرعي الوفاق”، مستدركا “حتى في سرت كانت تبعيتهم للوفاق وعند أول موقف يلتحمون بحفتر، لا يؤمن جانبهم حتى ولو رأيتهم يقاتلون معك وهم متلونون إلى أبعد الحدود ويخذلونك في أقرب موقف”.

والتيار المدخلي هو امتداد للسلفية الجامية أو التيار الجامي أو الجامية وهو تيار سلفي ينسب إلى الشيخ محمد أمان الجامي ويتميز بعدد من الخصوصيات من أهمها العداء لأي توجه سياسي مناوئ للسلطة انطلاقا مما يعتقدون أنه منهج السلف في السمع والطاعة وحرمة الخروج على الحاكم جريا على مذهب الحنابلة والأوزاعي. وظهر هذا التيار بعد احتلال الكويت في العام 1991 عندما أفتى العلماء وعلى رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن باز بجواز الاستعانة بالكفار لدفع المعتدي ولحماية الدين والدولة من شره. إلا أن الكثير من الأحزاب عارضت العلماء واتهمتهم بالباطل ورفضت هذه الفتوى فكان الشيخ محمد أمان الجامي من أبرز العلماء الذين تصدّوا بالرد على الأحزاب والجماعات التي رفضت هذه الفتوى واعترضت عليها. ولهذا ينسب إليه هذا التيار.

أما ربيع المدخلي فقد برز اسمه أكثر من الجامي وبات التيار ينسب إليه. وتعرض لحملات ممنهجة من قبل قوى الإسلام السياسي في المنطقة ودعاة ما سمي بظاهرة الصحوة الإسلامية في السعودية والخليج، بسبب مؤاخذته على الحركات الإسلامية خوضها في السياسة. ومن الأفكار التي يروج لها قوله إن أي تعبير عن الرأي المخالف للسلطة يعد خروجا على الشرع وإثارة للفتنة.

وكان المدخلي قد عارض ما سمي بثورات الربيع العربي. وقال في مقال له يعود تاريخه إلى فبراير 2011 بعنوان “كلمة عن الأحداث والمظاهرات والخروج على الحكام”، “إن الإسلام حرّم الخروج على الحاكم”. كما يعادي الإخوان الشيخ ربيع المدخلي بسبب موقفه الصارم من حركتهم ودعوته إلى قتالهم، حيث كتب في موقف له في 10 يوليو 2016، أن “الإخوان أخطر الفرق على الإسلام منذ قامت دعوتهم، وهم من أكذب الفرق بعد الروافض، عندهم وحدة أديان، ووحدة الوجود، وعندهم علمانية”.

ودعا المدخلي في مناسبات عدة سلفيي ليبيا إلى توحيد صفوفهم لمحاربة الإخوان. وتوجد كتيبة سلفية تحارب تحت لواء الجيش الوطني الليبي في مختلف المحاور. وفي يناير 2018، اتهمت دار الإفتاء الليبية في بيان جماعة تنتمي فكريا إلى المدخلي بزعزعة استقرار ليبيا. وفي 15 فبراير 2018 زعم الصادق الغرياني أن السعودية أرسلت إلى ليبيا سلفيين نصبوا حفتر وليا للأمر.

وبينما اتهم الغرياني الشيخ المدخلي بأنه آمر كتيبة عسكرية يصدر الأوامر للقتال في صفوف الجيش، اعتبر المدخلي أن الغرياني إخواني ضال يتخذ من سيد قطب مرجعا له.

إشعال فتنة

يرى المراقبون أن مواقف الغرياني تعكس طبيعة الموقف القطري التركي الإخواني المعادي للسعودية. وتدخل في إطار الحرب على مواقع النفوذ في الخارطة الدينية في ليبيا وخصوصا مع تراجع تأثير جماعة الإخوان وقوى الإسلام السياسي بصفة عامة وفقدانها لشرعية الشارع وانحسار وجودها في بعض مدن الساحل الغربي كمصراتة وزليتن والخمس والزاوية وزوارة.

ويشير المتابعون للشأن الليبي إلى أن حرب دار الإفتاء على هيئة الأوقاف هي بالأساس معركة سياسية تحت غطاء ديني نتيجة اصطفاف الغرياني ومن معه مع المحور القطري التركي المعادي لدول الاعتدال العربي وعلى رأسها السعودية.

وفي رد على الهجمة التي تتعرض لها، أصدرت الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية التابعة لحكومة الوفاق مذكرة للرد على ما أسمته “الادعاءات السبعة” للغرياني، وتابعه محمد أبوعجيلة، بعد هجومهما  على الهيئة والعاملين بمكاتبها.

واتهمت الهيئة في مذكرتها الغرياني بالتسبب في التعدي على مكتبي الأوقاف بمدينتي زليتن والخمس، وإشعال الفتنة بين أهالي هذه المناطق، بسبب تصريحاته، ما تسبب في نشر حالة من الفوضى حولها وإغلاقها بأكوام الرمال، لكن “تم بفضل الحكماء والخيرين وأهل العلم فض النزاع وخمدت الفتنة وتفهمت الأطراف بعضها دون تدخل الغرياني باسم الثورة أو باسم رد العدوان أو غير ذلك من شعارات التستر المحموم”.

واعتبرت الهيئة أن الغرياني سوّى بين السلفيين الموالين للمشير خليفة حفتر (القائد العام للقوات المسلحة الليبية) والمقاتلين معهم وبين غيرهم من شباب مدينة طرابلس والعاملين بالهيئة ومكاتبها، وبنى على ذلك عداءه المحموم للهيئة.

وأرجعت ذلك إلى أمرين؛ أولهما إما أن الغرياني لا يعرف منهج الصحابة ومن تبعهم ومن انتسب إليهم علما وعملا، وإما أنه لا يعرف رئاسة الهيئة والعاملين بها فسوّى بينهم وبين من دعم العدوان وشرعنه وشارك في سفك دم الأبرياء من خلاله.

وتابعت الهيئة أن ”الغرياني‏ ذكر وكرر مرارا بأن من وصفهم بالمداخلة يقولون إن طاعة حفتر مقدمة على طاعة ولي الأمر، وهذا شأن يتحمله من يصدر عنه ومن يدعيه، والهيئة براء من ذلك، بشهادة السلفيين وغيرهم”. وأردفت أنها ”وجهت مرارا بأن حكومة الوفاق هي ولي الأمر الشرعي القائم، في الوقت الذي أشهرت فيه دار الإفتاء العداء المكرر للمجلس الرئاسي وحكومته وحرضت على مؤسساته وذمت في جهوده التي يكابدها في ظل العدوان وادعت عدم الشرعية في بادئ الأمر وهذا أمر موثوق لا يحتاج إلى الجهد في الإثبات وجمع البيانات”. ووصفت حديث الغرياني عن المداخلة بأنهم فرع من فروع الاستخبارات السعودية في طرابلس، بالكذب الذي يهدد الأمن القومي للبلاد، مؤكدة أنها ستتقدم بشكوى رسمية إلى الجهات القضائية المختصة لمحاسبة هؤلاء على تجنيهم وتشهيرهم بالباطل بشكل متكرر دون ورع ولا أخلاق ولا مروءة.

وحمّلت المذكرة، الهيئة المسؤولية الأخلاقية والشرعية والقانونية والصحية للغرياني ومن تبعه في التعدي على المساجد وفتحها وإقامة الشعائر الجماعية فيها أثناء انتشار الوباء في ظل قرار المنع بإيعاز من ولاة الأمر والجهات الصحية المختصة وتوجيه من الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية.

كما حمّلت الغرياني ومنتسبي دار الإفتاء المسؤولية الكاملة نتيجة تحريضهم المستمر على الفوضى بالمؤسسات العامة بالدولة وعلى رأسها مكاتب الأوقاف بالبلديات.

وأدانت الهيئة انتهاج سياسة الترويع والعبث بمكاتب الأوقاف عند ورود أي ملاحظة على العاملين بها دون الرجوع إلى الهيئة من خلال إجراءات رسمية أدبية منضبطة تتضمن الشكوى مدعومة بالبيانات والحقائق، مشيدة بجهود من وصفتهم بـ”الجيش” والقوات التابعة لحكومة الوفاق في رد ما أسمته “العدوان” وتدعوهم إلى الوقوف صفا واحدا ضد كل من يعبث بالصف الداخلي ويحاول خلق الفتن في هذه المرحلة الحرجة بالبلاد، التي تتطلب توحيد الصفوف ودعم المؤسسات العامة لتجاوز هذه المحنة التي تمر بها العاصمة خصوصا والمنطقة الغربية عموما.

ويعتقد أغلب المراقبين أن المواجهة ستستمر خصوصا وأن تيار الإسلام السياسي يؤاخذ على هيئة الأوقاف عدم حماسها للتدخل التركي القطري أو لدعم جماعة الإخوان، وقدرتها على التكيف مع كل الظروف بما فيها تلك المتصلة بإمكانية تحرير العاصمة من قبل الجيش، حيث لا يرى
التيار السلفي مانعا من دعم القوات المسلحة كقوة غالبة، بينما يعتقد الإسلام السياسي أن معركته مع الجيش هي معركة وجود، وأن تحرير
العاصمة يعني نهاية دوره في الفترة القادمة.



الحبيب الأسود: العرب اللندنية