في الوقت الذي ينشغل معظم سكان جنوب السودان بالأزمة السياسية، التي اجتاحت البلاد منذ العام الماضي، ما زال "جورج جون ميل"، الطالب المتسرب من المدرسة الثانوية، يسعى إلى ملاحقة حلمه المبتغى منذ الطفولة.. تصنيع الطائرات.

ويعيش "ميل"، (23 عاما) وهو الابن الثالث لعائلة تضم ستة أطفال، في مجمع سكني صغير على بعد ما يقرب من كيلومتر واحد من مقر قيادة جيش جنوب السودان في العاصمة جوبا.

وما يلفت النظر في المجمع السكني لأول وهلة، هو طائرة صغيرة ذات محركين صغيرين يدوران بالبنزين مشابهين لمحركات آلات جز العشب، لكن يبدو وكأنها لا يمكنها أن تطير على ارتفاع عال أو لمسافات طويلة.

"في الواقع، هذه الطائرة فائقة الخفة الغرض منها أن تحلق على ارتفاعات منخفضة، لأنه من المفترض تغطية هيكلها"، قال "ميل" في مقابلة أثناء زيارة مراسل وكالة الأناضول، إلى مجمع العائلة حيث ورشته الصغيرة المؤقتة، وهي عبارة عن غرفة واحدة مساحتها ضعف غرفة نومه واحدة.

وأوضح الشاب: "من المفترض أن أضع الزجاج لتغطيتها، ولكن تغير الضغط هناك في الأعلى يختلف قليلا عنه بالأسفل، وبالتالي فإنه كلما تحلق وترتفع أكثر، يصبح الضغط أقوى، ولذلك صممتها للتحليق على ارتفاع منخفض".

وتابع: "هذا ليس أول مشروع لي، وكنت أعمل عليه منذ فترة طويلة"، وأشار إلى أنه فشل في مواصلة تعليمه إلى مستوى الجامعة بعد أن فقد والده المعيل الوحيد للأسرة، عام 2011 بينما كان يخوض الامتحانات النهائية في المدرسة الثانوية.

وأضاف "ميل" بحماس: "بعد أن فقدت والدي، لم أكمل دراستي، ولم ألتحق بأي مؤسسة (تعليمية) أخرى، أو أدرس أي شيء آخر، ولكني متمسك بما أريد أن أفعله، لأن حلمي هو تصنيع الطائرات لجنوب السودان، وليس الطيران".

واستدرك بالقول: "ولكن عندما أنظر إلى الطائرات، أنا لا أنظر إلى التحليق بها أو إصلاحها، ولكن كيفية بنائها، وأنا لا أخطط لبناء الطائرات البسيطة على وجه التحديد، ولكن الطائرات التي تعتمد على التكنولوجية العالية. وهدفي ليس حتى بناء الطائرات، ولكن صنع الطائرات بدون طيار بشكل رئيسي".

ما يؤكد صدق كلماته، جدران ورشته التي تزينها تصاميم مختلفة لطائرات بدون طيار، وصواريخ، وصور تم تحميلها من على شبكة الإنترنت؛ علاوة على تصاميمه الخاصة.

وأكمل الشاب حديثه عن الطائرات بدون طيار: "في أول تصميم نفذته، لم يكن لدي معدات مثل جي بي إس (نظام تحديد المواقع العالمي عبر الأقمار الصناعية)، وأقمار صناعية للتحكم فيها، وهذه المكونات الإلكترونيات".

وأردف: "لهذا السبب خطرت لي فكرة بناء طائرة يمكنها حمل شخص، ولكن تركيزي الرئيسي على الطائرات بدون طيار".

وأشار الشاب الذي يتحدث بدراية تامة عن الطائرات، إلى أنه يبحث دائما عن المشورة على الإنترنت عندما يبدأ في مشروع جديد.

ومضى قائلا: "الأمر يتعلق بالعلم، لكنني أبحث بمفردي خلال شبكة الإنترنت في بعض الأحيان، لتلقي إرشادات لأنه من دون معرفة مبادئ الطيران، سينتهي بك المطاف بصنع أشياء أنت غير متأكد من نجاحها".

ولفت "ميل"، إلى أنه مثل أي ابتكار آخر تماما، تظهر بعض التحديات دائما، مثل "الحصول على المتطلبات والموارد، والمواد اللازمة لإنهاء هذا العمل في مكان غير مجهز تمثل تحديا كبيرا".

وأضاف: "أيضا البيئة التي أتواجد فيها لا تشجع على هذا العمل، وأحيانا يثبط الناس عزيمتك، ويسخرون منك ويقولون أشياء مضحكة، ولكني ما زلت أواصل العمل".

واستدرك قائلا: إلا أن المال يمثل أيضا تحديا كبيرا، وبالنسبة للتمويل، فعندما أحصل على القليل من النقود يمكنني شراء المحرك، والمواد، ومن ثم أبدأ المضي قدما في عملي".

وزاد بقوله: "لدي العديد من تصاميم الطائرات في ذهني التي أرغب في تنفيذها، ولكن التحدي الوحيد بالنسبة لي هو التمويل اللازم لدعم ذلك".

وحاول "ميل" التواصل مع الجيش الجنوب سوداني، والقوات الجوية الذين تعهدوا بمساعدته، ولكنه لا يزال ينتظر الوفاء بتلك التعهدات وأن يراها تتحقق.

وأكمل بالقول: "لقد جاءوا، ورأوا مشروعي، وتعهدوا بمساعدتي، ولكن من المعروف كيف تتعامل الحكومة مع هذه الأمور".

وأتبع: "وعندما طلبت منهم اختباره، قال (المسؤولون) لي إنهم رأوا ما أنجزته، لكنهم لا يرغبون في خسارتي، لأنهم لا يثقون في المواد التي استخدمتها، وأخبروني أن المحركات ربما لا تكون مناسبة لاختبارها في الطيران".

ومضى بالقول: "إنهم يفضلون أن أذهب للدراسة، بحيث يمكنهم في المستقبل صنع شيء أفضل من هذا، ولكنني بالنسبة لي فأنا أثق في ما أفعله (مشروع الطائرة) وأعتقد أنها يمكن أن تطير".

من جهته، أقر قائد سلاح الجو الجنوب السوداني، اللواء باكواني كور، بموهبة "ميل"، وقال في تصريح لوكالة الأناضول، إنه "بالفعل معنا، ونحن مهتمون بمشروعه"، وأشار إلى أن المناقشات المتعلقة بتعليم الشاب أيضا ما زالت جارية.

وأضاف "كور": "لقد تحدثت بالفعل إلى وكيل وزارة التربية والتعليم لإرسال خطاب رسمي لنا يفيد أن الوزارة ستقدم له منحة دراسية".

ومضى القائد العسكري قائلا: "لقد نصحته (الشاب) بإرسال خطاب تعهد بالالتزام (من أجل المنحة الدراسية) وطالما هناك خطاب التزام، سنعرف من أين نأخذه".

وعلى قدم وساق، تجري إجراءات منح "ميل" فرصة الدراسة، وفقا لوكيل وزارة التعليم بول دينق، الذي قال لوكالة الأناضول: "لقد أبلغناه بالفعل أن يبدأ التواصل مع أماكن (في جامعات بالخارج) لدراسة المجال الجوي، فأبلغنا بجامعة في أستراليا".

وأضاف "دينق": "لقد قلنا له أيضا أن يزودنا بمستنداته وبدأنا الإجراءات.. وأنت تعرف أن الشيء الأكثر أهمية هو رسوم الدراسة، وذلك حتى نتمكن من إبلاغ الوزير، ومن ثم يتم توفير الأموال".

وأشار المسؤول في وزارة التعليم إلى أن الحكومة تفضل أن يدرس "ميل" في بلدان ترتبط معها جنوب السودان بمشاريع تعليمية، ومضى قائلا: "يمكننا أن نرسله له إلى الهند أو باكستان أو مصر".

وتابع: "لقد طلبت من قائد سلاح الجو باكواني أن يعطينا تفاصيل عن الدراسات في مصر التي كان يتواجد فيها وهذا هو ما زلنا ننتظره".

"ميل" من جانبه، يفضل أن يعطى فرصة لإثبات أن طائراته تعمل بالفعل، حيث قال: "أنا افضل أن تعطيني الحكومة الفرصة للذهاب واختبار الطائرة... وأنا واثق مما صنعته".

وأعرب الشاب عن تفاؤله، بأنه على المسار الصحيح، قائلا: "خطتي المستقبلية هي أن أرى هذا البلد ينتج طائراته الخاصة".

واختتم: "إذا أمكنني الحصول على الدعم والمزيد من التعليم، أعتقد أننا يمكننا أن نفعل شيئا أكبر، وهذا هو ما أحببته طيلة حياتي".

وتشهد دولة جنوب السودان منذ ديسمبر/ كانون الأول 2013، صراعاً دموياً على السلطة بين القوات الحكومة والمعارضة المسلحة بقيادة ريك مشار، النائب السابق لرئيس البلاد، سلفاكير ميارديت، ولم تنجح مفاوضات السلام التي جرت خلال الفترة الماضية في أديس أبابا، في وضع نهاية للعدائيات بين الطرفين والتوصل لصيغة لتقاسم السلطة حتى الآن.