العادة أن يموت الشهيد وتبقى روحه، لكن شهيدتنا لم تمت، بل بقيت حية بروحها وجسدها تناضل وتقاوم ما تبقى من مخلفات المستعمر الفرنسي الغاشم على أرض الجزائر وشعبها وهويتها، قضت 79 سنة من النضال ضد كل من يمس الجزائر بسوء.والغريب أن بعض وسائل الإعلام العربية ضنت إلى وقت قريب أنها استشهدت لعزوفها عن التعاطي مع الصحافة أيا كانت.

 منذ ولادتها عام 1935 في حي "القصبة" في قلب الجزائر وهو الحي المعروف بشعبيته وإيوائه للمجاهدين، ومنذ يفاعتها أدركت أهمية النضال ضد الفرنسيين وأهمية المشاركة مع الثوار حتى أصبحت في وقت وجيز من أكبر  المساهمين بشكل مباشر في الثورة الجزائرية ضد الاستعمار التي انطلقت في ال1 نوفمبر عام 1954. كان لوالدتها التونسية عظيم الأثر في حبها للوطن وتذكيرها بأنها جزائرية لا فرنسية عكس ما كانت تدعي فرنسا بأن الجزائر فرنسية، لتكون "جميلة" من أول المتطوعات لزرع القنابل في طريق المدرعات الفرنسية، ونظرا لتأثيرها الكبير في موازين القوى أصبحت المطاردة الأولى،  تم القبض عليها بعد ثلاث سنوات من عمر الثورة عندما سقطت على الأرض تنزف دما بعد إصابتها برصاصة في الكتف  وعانت الويلات من التعذيب ، وتعرضت للصعق الكهربائي كي تعترف وتخبر على زملائها ، كانت تغيب عن الوعي لأحيان كثيرة نتيجة الألم لكنها تسلحت بالإرادة والشجاعة وفشل الفرنسيون في انتزاع أي اعتراف منها حتى صدر بحقها حكم الإعدام.

شهادة من قلب المعتقل ..إرادة فولاذية، وإيثار منقطع النظير

بخطى متئدة ونظرات ثاقبة حية في آن معا وجسم نحيل حينما تراه لا يبدو لك أن بإمكانه تحمل كل أنواع هذا العذاب،تقابلك المجاهدة البطلة "جميلة بوحيرد" باهتمام بالغ وكأنما ترى فيك أمل الجزائر ونضالها التاريخي ضد العدو الذي لا يلبث أن يرحل حتى يعود بثوب آخر وكأنها تقول لك: إليك المشعل أيها الشاب ها قد أفنيت عمري في سبيل حريتك فأفنها في سبيل الآخرين، " هاهي الثورة ثورتكم وقد كانت عظيمة وكبيرة " ، "لم أنس الشهداء أبدا ، وأبناء الشهداء أتذكرهم كل يوم " تخاطب بقلب الأم الحنون على أبناء الشهداء الذين يتموا وشردوا ولم يبق لهم بعد فقدان آبائهم إلا الله . تستصغر عطاءها ونضالها أمام تضحياتهم وتقول  هناك شهداء لا يمكن وصف عطائهم مثل "بن مهيدي" وجماعته، بالإضافة إلى من هم على قيد الحياة ، وتقدم "جميلة"  شهادة مؤثرة عن بعض مراحل محاكمتها: " كنا في المحكمة ورغم تعرضنا للتعذيب وموت زملائنا بالمقصلة (: آلة قتل فرنسية استخدمت إبان الثورة التحريرية وتتكون من شفرة حديدية تهوي غلى رأس من يراد إعدامه) والإضراب عن الطعام لأيام وضعف أجسادنا كنا نقاوم وكنت على رأس قائمة المحاكمين ".

ثم تعقب ذلك" قلت لزميلتي وقتها إنهم سيمزقونني إلى خمسة أجزاء وأنتم إلى اثنين فقط"  فخرا بالعقوبة ، هكذا هي النفوس كبارا وبقيت كبيرة حتى اللحظة .

 "طالب عبد الرحمن" مجاهد خط اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ النضال الجزائري تقول عنه جميلة :" كان عزيزا على قلبي ولما حكموا عليه بالمؤبد بدأ يبكي ويقول كيف حكموا على أخواتي النساء بالإعدام وأنا حكموا علي بالمؤبد"  وتشير إلى "أن هناك عشرات المجاهدين يستحقون التذكير بهم وهناك من لا يعرفهم أحد ، لكن قصصهم قد تجعلنا نبكي عشرات المرات " .عزفت جميلة عن الظهور الإعلامي وزهدت في متاع الحياة رغم الإغراءات الكثيرة من القادة العرب لكنها فضلت البقاء في الجزائر واكتفت بحب الوطن.

لم تنعم جميلة برخاء الاستقلال على غرار الكثير من المجاهدين، حتى فضلت النضال مع المواطن الجزائري البسيط في سبيل كسب رزقه وطلبا للحياة الكريمة، سُجلت لها مواقف عدة أبرزها إعلانها للخروج في مسيرة تنديدا بالعهدة الرابعة في حال ترشح الرئيس الحالي "عبد العزيز بوتفليقة" ، وسجلت تأييدا للثورة المصرية رغم تحفظها مما يسمى " الربيع العربي" .

كرمت في العديد من المناسبات كان آخرها في الحفل الذي أقامته "قناة الميادين" على شرفها في ال3 من ديسمبر 2013 بقاعة اليونسكو في بيروت بعنوان "جدارة الحياة" وحين طلب منها الصعود إلى المنصة بدى عليها الخجل كأنها فتاة في الثامنة عشرة وكأنه لا يحق لها الحديث في حضرة الشهداء وتاريخ الجزائر المجيد ، إلا أنها تمالكت نفسها وقالت بلسان ناقم على فرنسا " أتكلم عربية القصبة(وهو حي عتيق في الجزائر كان ملجأ للثوار إبان الثورة التحريرية نظرا لكثرة مداخله ومخارجه) التي قد لا تفهمونها ، وسأتكلم معكم بالفرنسية ، اللغة التي علمني إياها الاستعمار" ، وقالت بلسان حالها ، لقد منعني الاستعمار من تعلم لغتي لكنه لم يستطع منعي من حريتي واستعادة كرامتي.وبعد إلحاح الحضور  ألقت كلمة دعت فيها إلى "حفظ كرامة الشهداء" وأهمية النضال ضد الامبريالية " . وأكدت وفاءها لنهج الأبطال والثوار الباحثين عن الحرية أينما كانوا.كرمت السينما المصرية الجزائر و جميلتها في واحد من أوقوى بطولات الفناة "ماجدة" بفيلم جميلة للمخرج "يوسف شاهين" عام 1958 كنوع من دعم الثورة الجزائرية، وسط كل ذلك تقيم المرأة التي لن تستشهد من ذاكرة الجزائر ليرتفع صوتها هادئا عميقا من جديد " احفظوا كرامة الشهداء" و"ناضلوا ضد الامبريالية " ، إنها تحرص على رص الصفوف وتجييش النفوس، قبل أن تستبحها هيمنة المستبدين.تخجل الإنسانية أمام هذه المرأة، وهي تنصرف إلى صمتها السبعيني، لكنه يترك ضجيجا هائلا داخلنا لن يفارقنا أبدا.