عقب اندلاع الأزمة في فبراير 2011 في ليبيا، بدأ تنظيم الإخوان السرى في الظهور مرة اخرى في العلن مستفيداً من تجارب نُظرائهم بمصر، بعدما شكلوا خلايا في عدة مناطق من البلاد ثم دخلوا عبر بوابة المجلس الوطني الانتقالي، وسيطروا على الحكومة، ووفر لهم جناحهم العسكري "الجماعة المقاتلة"، حماية لظهورهم.

واتجه الإخوان إلى التعويل على الميليشيات المسلحة، لبسط سيطرتهم على البلاد، وهو ما ظهر جليا عقب انتخابات 2014 التي خسروها بالضربة القاضية، ما دفع بهم إلى الانقلاب على النتيجة من خلال الحرب الأهلية المعلنة من قبل مليشيات فجر ليبيا، والتي أدت إلى ترحيل البرلمان إلى مدينة طبرق في شرق البلاد، في الوقت الذي كان فيه الجيش الوطني قد بدأ في حربه الشاملة على الإرهاب انطلاقا من بنغازي.

المشهد في ليبيا اليوم يبدو مختلفا على ما كان عليه في 2012، فالإفلاس والتذبذب السياسي لدى جماعة الإخوان بسبب عجزهم عن اثبات رؤيتهم السياسية وإصرارهم على البقاء، رغم خسارتهم ليس فقط الصندوق الانتخابي، بل حتى ثقة الناس بهم، بات واضحا للعيان وهو ما يؤشر على نهاية مشروعهم في ليبيا.

وتسود أروقة جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، حالة من الإضطراب يضرب كيانها القيادي، في ظل موجة التبرؤ والانسحابات التي شملت عدد من القيادات الاخوانية، والتي كان آخرها نفى العضو المؤسس فى حزب العدالة والبناء والعضو بالمجلس الانتقالي السابق عبدالرزاق العرادي، انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، بخلاف ما كان قد أقر به من قبل.

وقال العرادي أن انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين الليبية انتماء فكري وتاريخي ولا تربطه أي علاقة تنظيمية منذ منتصف التسعينيات.وشدد عضو المجلس الانتقالي السابق أنه في الوقت الحالي لا ينتمي لأي حزب أو تجمع سياسي أو ديني، متمنياً للجميع التوفيق من أجل خدمة البلاد.

كما طالب العرادي، جماعة الإخوان المسلمين الليبية بتطوير عملها من خلال فك أي ارتباط لها خارج ليبيا وإخراج مراجعاتها بشكل يتماشى مع التغييرات التي حدثت في البلاد.وهو ما يعتبر اعترافا ضمنيا من داخل الجماعة بارتباطها بأجندات خارجية ما انفكت تنكرها.

ويأتي تبرؤ العرادي من جماعة الاخوان المسلمين في أعقاب انسحابات شهدتها الجماعة على غرار إعلان "العضو المؤسس بحزب العدالة والبناء وعضو الهيئة العليا سابقا عن مدينة مرزق السنوسي محمود محمد حبشي" إنسحابه من الحزب.وقال حبشي في تدوينه له بموقع "فيسبوك" " أتقدم لكل من كنت سببا في انضمامه للحزب بكامل اعتذاري" مضيفا "لكل عضو حرية التصرف فيما يراه مناسبا".

وقبل ذلك، أعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري في 26 يناير 2019، استقالته المفاجئة من جماعة الإخوان المسلمين، في خطوة أثارت جدلا كبيرا في الأوساط الليبية وأسالت الكثير من الحبر خاصة أنها جاءت بشكل مفاجئ وغير متوقع وألقت اضوء على عمق الأزمة التي يعيشها تنظيم الاخوان.

وبرر المشري، استقالته من الجماعة، بأنها لم تتخذ خطوات جادة فيما سماه بـ"المراجعات الفكرية"، مشيدًا في الوقت نفسه بأفكار الجماعة وتربيتها لأبنائها، مؤكدًا أن قراره جاء لإحجام الجماعة عن الأخذ بالتوصيات والإصلاحات التي أقرتها في مؤتمرها العاشر، المعقود في أكتوبر 2015، معبّرًا عن تقدير يحمله في نفسه لها ولأعضائها، مشيرًا إلى فترة عمل الإخوان خلال حكم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، مقرًا بعمل الجماعة السري، آنذاك، وتغييرها لأسلوب عملها منذ 2011.

وأعادت استقالة المشري الذي يصنّف كأحد الرموز الإخوانية بليبيا فتح ملف الانشقاق داخل جماعة الإخوان، ومدى صدق المنشقين في قراراتهم، حيث يتهمون دائمًا بكونهم جزءًا من لعبة توزيع أدوار تمارسها الجماعة.وكتب عضو مجلس النواب عن مدينة الكفرة، "سعيد امغيب"، عبر حسابه على فيسبوك، مشككًا في صدق الإستقالة، "لا أعتبر هذا الأمر إلا حماقة أخري من حماقات التنظيم المفلس واستخفافًا جديدًا بعقول الليبيين".

موقف مغيب شاركه فيه الكثيرون ممن يرون أن جماعة الاخوان تمارس عمليات التظليل التي تعودت على ممارستها حين تحاصَر وتخسر المعركة، وتحاول الاستعداد لخديعة جديدة.فقرار الإستقالة جاء في أعقاب الاتهامات الموجهة ضد "المشري" في الرأي العام الليبي، والتي تفيد بتورطه في قضايا فساد مادي.

وطالبت الرقابة الإدارية التابعة للبرلمان الليبي، برفع الحصانة عن رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ضمن التحقيقات التي تجريها في تجاوزات سابقة ضمن "المؤتمر العام".وسارع "المشري" إلى وصف الاتهامات بالسياسية، إلا أن ذلك لم يكف لإخماد حالة الجدال المثارة حتى الآن حوله على خلفية اتهامات الفساد.

وتأتي موجة الإنسلاخات هذه في وقت يشهد فيه حزب العدالة والبناء الليبي، واجهة الإخوان المسلمين بالبلاد، حالة إنقسامات حادة أرجعها محللون إلى إحتدام الصراع بين جناحين داخل حزب العدالة والبناء، جناح يمثل الفكر التقليدي لجماعة الإخوان المسلمين؛ وآخر يريد السير على خطى حزب النهضة بتونس، وما إعلان رئيس الحزب محمد صوان عن عدم رغبته بالترشح لفترة جديدة إلا تعبير عن ذلك الصراع.

الصراع بين جماعة الإخوان وذراعها السياسية في ليبيا، وصل لمرحلة العلن والتراشق بالتصريحات، حيث أعلن عبدالسلام اجويد، رئيس دائرة الاتصال والإعلام بحزب العدالة والبناء، في بيان نشرته وسائل إعلام محسوبة على الحزب، في نوفمبر الماضي، رفضه تدخل جماعة الإخوان المسلمين في الشؤون الداخلية للحزب، مشيرًا إلى أن تدخل التنظيم الدولي في توجيه الأعضاء المنتسبين يعرّض مبدأ استقلالية الحزب للخطر، مضيفًا أنها ستعرّض الحزب للانقسام بوصف أنها تظهر رغبة الجماعة الواضحة للهيمنة على قرارات الحزب، وفق تعبيره.

وتاتي هذه التطورات لتزيد من هشاشة منظومة الجماعات الإسلامية السياسية، التي تراجع نفوذها بشكل كبير، حيث لم يعد لها وجود في المنطقة الشرقية وخاصة بعد تحرير درنة من عصابات القاعدة المدعومة من الإخوان، كما لا يكاد يوجد لها أي صوت في منطقة الجنوب وفي المنطقة الوسطى، وكذلك بالنسبة لقبائل المنطقة الغربية.كما بات وجودهم في العاصمة الليبية طرابلس في اطار ضيق بعد أن اختار عناصر الجماعة المقاتلة الفرار من طرابلس إلى تركيا وقطر فيما تراجع نفوذ المليشيات الموالية للإخوان.

وتزايد ارتباك جماعة الاخوان أمام انتصارات الجيش الوطني الليبي المتتالية وتحريره للمنطقة الشرقية بالكامل من قبضة التنظيمات المتطرفة برغم الدعم الذي كانت تتلقاه هذه التنظيمات من جماعة الاخوان.ولم تكفّ الجماعة عن محاولات عرقلة تقدم الجيش الليبي في معركة تطهيره للجنوب، والتي سيطر فيها على عاصمة الجنوب الغربي سبها، وسيطر على عدة مراكز حيوية في اطار عملية تطهير الجنوب من الارهاب والعصابات الاجرامية.

وسارعت جماعة الاخوان الى محاولة عرقلة تقدم الجيش في الجنوب وبدأت أولي محاولاتها مع دفعها للمبعوث الأممي غسان سلامة لانتقاد عمليات الجيش في الجنوب وهو ما قوبل باستنكار كبير في الأوساط الليبية ودفع للمطالبة بتغيير المبعوث الأممي الذي بات خصما يساهم في تعميق الأزمة العنيفة التي تشهدها ليبيا بحسب وصف الناطق باسم الجيش الوطني الليبي أحمد المسماري.

عقب ذلك، دفعت الجماعة برئيس حكومة الوفاق فائز السراج نحو تعيين آمر عسكري للمنطقة الجنوبية وذلك لقطع الطريق أمام تقدم الجيش.ووقع اختيار الاخوان على الفريق علي كنة قائد القوات الجوية في عهد الزعيم الراحل معمر القذافي ومسؤول الجيش في جنوب ليبيا إبان حكمه، أحد أبرز الشخصيات العسكرية التي تحظى بثقة كبيرة ودعم من مختلف القبائل.وهو ما وصف انه محاولة من الاسلاميين لاستمالة أنصار النظام السابق وضباطه لدعم قوات حكومة الوفاق ضدّ قوات الجيش الليبي.

آخر المحاولات الاخوانية لوقف تقدم الجيش الليبي في الجنوب، جاء عبر محاولة تأليب مجلس الأمن الدولي على القوات المسلحة الليبية، والبحث عن انتزاع قرار دولي يفضي إلى وقف عملياته.وجاء ذلك من خلال مطالبة مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة، السفير المهدي المجربي، مجلس الأمن باتخاذ إجراءات عاجلة، لوقف العملية العسكرية التي ينفذها الجيش الوطني الليبي في جنوب البلاد.

وليست هذه المرة الأولى التي يطالب فيها "الإخوان"، بالتدخل الخارجي كلما تراجعت الميليشيات المسلحة عسكريًا أمام الجيش الليبي، ففي يوليو الماضي، طالب عضو المؤتمر الليبي المنتهية ولايته، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين فرع ليبيا، محمد مرغم، عبر قناة "التناصح" التي يديرها مفتي الإخوان في ليبيا، الصادق الغرياني،  بتدخل تركيا ضد الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر.

وقبل ذلك، تحدث رئيس حزب العدالة والبناء، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان في ليبيا، محمد صوان، عن إمكانية الاستعانة بتدخل أجنبي في منطقة الهلال النفطي، على خلفية قيام الجيش الليبي بتحريرها من قبضة عصابات إبراهيم الجضران (حليف سرايا الدفاع التابعة للإخوان).ودعا صوان حينها المجلس الرئاسي لطلب المساعدة في مواجهة الجيش الليبي.

ويبدو واضحا أن الجماعة تسعى للاستقواء بالخارج أملا في عرقلة تقدم الجيش الوطني الليبي وذلك بعد أن عجزت عن حشد الدعم ضده محليا.وتعليقًا على ذلك، أكد المحلل السياسي ناجح بن جدو، أن "استقواء حكومة الإخوان بقيادة فايز السراج بمجلس الأمن، يثبت مرة أخرى، أن هذه الأطراف لا تمتلك أي رؤية واضحة لحكم البلاد".

وشدد بن جدو في تصريح لموقع "إرم نيوز"، على أن جماعة الإخوان في ليبيا "أعلنت عن نهايتها، من خلال انهيارها ومسارعتها إلى مجلس الأمن للحصول على قرار يوقف حرب الجيش على المتشددين".وأضاف أن "انتصارات حفتر في حملته ضد المتشددين بالجنوب، أثبتت للعالم أجمع أن الجيش هو الصمام الرئيسي لاستقرار البلاد"، مشيرًا إلى أن "أغلبية القبائل والمدن الليبية تبارك هذه الإنجازات، وتعبر عن ذلك في بيانات واضحة".

وقوف جماعة الاخوان ضد انتصارات الجيش الليبي، كشف النوايا المشبوهة للجماعة ودعمها للتنظيمات الارهابية التي تنشر الفوضى في البلاد.وباتت كل مخططات المجموعات المنتمية إلى الإسلام السياسي في ليبيا وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين مكشوفة لدى الشعب الليبي الذي أدرك أن هذه التنظيمات لا تحاول إلا السيطرة على الحكم وتنفيذ مشروعها التخريبي في المنطقة.

وشهدت المدن الليبية تحركات ضد جماعة الاخوان، كان آخرها في يناير الماضي، عندما تظاهر عشرات الليبيين بميدان الجزائر، وسط العاصمة الليبية طرابلس، ضد ما وصفوه بسيطرة جماعة الإخوان المسلمين على مفاصل الدولة.ورفع المتظاهرون لافتات ترفض تغلغل "الإخوان" في مؤسسات الدولة، إضافة إلى تحميلهم مسؤولية ما سمّوه بالفتنة والاقتتال في البلاد.وأشار المتجمهرون في شعاراتهم إلى بدء العد التنازلي لحكم "الإخوان" في البلاد.

ويزداد الضغط على جماعة الإخوان، خاصة بعد أن طالب نواب برلمانيون، أواخر يناير الماضي، مجلس النواب بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين في البلاد "جماعة إرهابية محظورة".وأشار البرلمانيون إلى أن "دعم جماعة الإخوان المسلمين للإرهاب واضح منذ البداية سواء في بنغازي أو درنة مادياً وسياسياً وإعلامياً، كما أنها تعارض أي حل سياسي ينهي حالة الانقسام الحاصل في البلاد وعرقلة مسيرة بناء الدولة ومؤسساتها.

وتتزامن هذه التطورات مع ذكرى أحداث 17 فبراير، التي أغرقت الدولة في فوضى أمنية وسياسية وأزمات اقتصادية واجتماعية ونعرات قبلية واقتتال متواصل منذ سنوات.وعاشت ليبيا تحت حكم الإخوان لعدة سنوات، دفع التنظيم خلالها طرابلس نحو مستنقع الإرهاب ونموذج الدولة الفاشلة، وذلك عبر انصياع الجماعة لأجندات خارجية لتمكين الجماعات الإرهابية من حكم البلاد في إطار مخطط للهيمنة على ثروات ليبيا النفطية.

وتعتبر جماعة "الاخوان" في ليبيا، الذراع التخريبي لتركيا، التي تتهمها عدة أطراف ليبية بمحاولات نشر الفوضى في البلاد.وهو ما تؤكده شحنات السلاح المختلفة التي تتدفق إلى الجماعات الإرهابية في ليبيا قادمة من تركيا وبأموال قطرية بهدف استمرار الفوضى في ليبيا، وتمكين الجماعات الإرهابية وثيقة الصلة بالتنظيم الدولي لجماعة "الإخوان" من السيطرة على البلاد.

وتشير الأحداث المتسارعة الى عمق الأزمة التي تعيشها جماعة الاخوان في ليبيا، حيث باتت تفتقد إلى أي شرعية شعبية، فالليبيون لديهم حساسية بالغة إزاء التدخل الخارجي أو التبعية لأجندات خارجية وخاصة القطرية والتركية.ويرى مراقبون، أن المواطن الليبي الذي إفتقد الأمن والإستقرار منذ إندلاع الأزمة في العام 2011، بات على قناعة أن المجموعات المنتمية إلى الإسلام السياسي في ليبيا وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين تمثل عائقا أمام تحقيق المصالحة وبناء الدولة.