تعتبر ليبيا من الدول الرائدة في الصحافة المكتوبة على مستوى المنطقة العربية بفضل انتشار عدد من الصحف فيها منذ القرن التاسع عشر، حيث تشير بعض المصادر أن أول صحيفة انتشرت بالبلاد كانت تأتي من مصر في النصف الأول من القرن بعنوان "الوقائع المصرية"، وكانت تلقى رواجا كبيرا لدى المثقفين الليبيين المولعين بالقراءة وبالعالم الجديد من الصحافة الذي لم يكن معروفا عندهم. ثم كان الموعد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع أول صحيفة ليبية بعنوان "طرابلس الغرب" وكانت إيذانا بتاريخ جديد من الصحافة المكتوبة تواصل إلى اليوم رغم مروره بمراحل مختلفة بين ما هو إيجابي وبين ما هو سلبي.

عهد العقيد معمّر القذافي باعتباره من العقود الهامة في تاريخ البلاد كان عهدا ثريا بالصحف والمجلات رغم اختلاف قيمتها، فبين العام 1970 و2006 طبعت عشرات الجرائد والمجلات والنشريات وكانت توزّع داخل البلاد وكان لها قراؤها ويشرف على العديد منها أساتذة أكفاء في مجال الإعلام، وكانت تتناول مواضيع مختلفة بين ما هو سياسي وما هو ثقافي وما هو اجتماعي بالإضافة إلى المواضيع الرياضية التي طبعت لأجلها أيضا عدد من الجرائد.

ولكي لا تظهر الصورة على أنها وردية، كانت الصحف في ليبيا أيام حكم العقيد معمّر القذافي تسير وسط سياق سياسي عربي عام دائما ما يكون مقيّدا بشروط لا يمكن التمرّد عليها كثيرا، وكانت أغلب الصحف قريبة من نظام الحكم وحتى هوامش الحرية التي كانت تمنح مركّزة على ما هو اجتماعي أو ثقافي حيث كان مسموحا في ليبيا انتقاد ممارسات الحكم المحلّي باعتباره هو الموجود في البلاد اعتمادا على رؤية خاصة في توزيع الصلاحيات، أو انتقاد بعض مظاهر الفساد في المستويات الدنيا والوسطى. أما سياسيا وعلى مستوى مركزي فكان من الصعب الاقتراب من بعض الخطوط ككل الموجود في واقعنا العربي الذي تمثل السلط العليا هاجسا مهما كانت طريقة حكمها.

المؤاخذات كثيرة على حالة الإعلام أيام حكم العقيد، هذا الأمر يعرفه جيدا حتى من كان في داخل النظام، لكن الأمر الذي يؤكده كثيرون أن عديد الصحف الليبية في فترة العقيد معمّر القذافي كانت تقدّم مادة محترمة في مستوى القضايا العربية، حيث كان الموقف الإيجابي لنظام العقيد من فلسطين مساهما في تطوير تلك المادة في علاقة بالقضية، أو في مستوى العلاقة مع الغرب التي كانت بطبيعتها متوترة إلى لحظة الإطاحة به العام 2011. كما أن انفتاح العقيد على إفريقيا كان له صداه في بعض الصحف حيث أسست بعض الجرائد بعناوين "إفريقيا الجديدة و"شؤون إفريقية"، وكانت معنية أساسا بواقع إفريقيا وبتركيز القيادة السياسية عليها. كما أن عددا من الجرائد الليبية كانت محترمة في الزوايا الثقافية، حيث لم تسقط في الابتذال الذي سقطت فيه نظيراتها في المنطقة العربية وحافظت على حد أدنى من الالتزام بمواد ثقافية مركّزة على ما تنتجه ليبيا سنويا من إصدارات شعرية أو فنية وكانت مقروءة لدى قطاع من المثقفين.

وعلى عكس ما وقع في الجارتين ليبيا وتونس اللتين مرتا بمخاض مشابه أفضى إلى سقوط النظامين وحافظت الصحف فيهما على تواجدهما، وقع في ليبيا القطع نهائيا مع كل ما له علاقة بالنظام السابق، حيث توقفت أغلب الجرائد عن الصدور كنوع من الاجتثاث، وحتى من تواصل صدورها تمت مصادرتها بشكل تعسفي بعد الأحداث دون أي إجراء منطقي مراعاة لحرمة العمل الإعلامي وكان ذلك تحت منطق "التأميم" الذي تبناه "الثوار" دون إدراك من القائمين بالفعل أن العمل الصحفي مهما كانت المؤاخذات عليه يبقى مادة قابلة للتطور وفق الواقع الذي تعيشه وهو ما لم يفهمه "ثوار" ليبيا الذي اختاروا القطيعة مع كل الجرائد القديمة، بل وبدأوا في تصفية الحساب مع بعض المسؤولين في الجرائد الليبية قبل 2011، وتحميلهم المسؤولية السياسية وكانوا مهددين في حياتهم وعائلاتهم إلى درجة أن عددا كبيرا اختار المغادرة وترك البلاد حفاظا على سلامته والأسماء في ذلك كثيرة، وحتى من أشرفوا على تلك المؤسسات بعد الأحداث كان مصيره الموت مثلما وقع للإعلام مفتاح بوزيد الذي كان يرأس تحرير صحيفة برنيق حيث اغتالته إحدى المليشيات الإسلامية في العام 2014 بسب انتقاده الكبير لها. 

أشياء كثيرة تغيرت في واقع الصحافة المكتوبة في ليبيا، لكنه كان تغيّرا نحو الأسوأ، والأمر الذي لم يكن يتوقعه الليبيون أن واقع الإعلام المكتوب (وحتى غيره)، عوض أن يتطور نحو الأفضل حسب ما تم التسويق لذلك، توجه نحو الأسوأ وحتى من راهنوا على واقع صحفي جديد أصبحوا اليوم يتحسرون على الوضع الذي كان فيه الصحفي والصحافة قبل 2011، حيث تعتبر منظمات إنسانية محلية ودولية أن سنوات 2012 و2013 و2014، كانت الأسوأ في تاريخ الصحافة الليبية بسبب عمليات الخطف والتهديد والتعذيب وحتى القتل التي تعرض لها العاملون في قطاع الإعلام. واليوم لم يعد الحديث عن مصير الجرائد التي كانت تصدر قبل 17 فبراير، بل عن مصير قطاع كامل مهدد في البلاد، حيث أصبح كل صحفي إما متخندقا في صف سياسي معيّن وهذا حال الأغلبية مضطرة، إما اختار الهجرة كحل للسلامة الجسدية ولضمان هامش قليل من الحرية، أو أنه يشتغل و"روحه على أكفه" ويكفي أن يغضب زعيم سياسي أو رئيس مليشيا من مقال صحفي مكتوب في أحد المواقع حتى يجد الصحفي نفسه مقيدا بين يدي ذلك الزعيم أو الرئيس وقد وقعت في ذلك حالات كثيرة اختلفت المصائر فيها.

بدت ليبيا اليوم وكأنه تغلق مرحلة الصحف الورقية في ظل طغيان الوسائل الرقمية الحديثة، لكن البداية الحقيقية لم تكن لذلك السبب تحديدا بل منذ لحظة التصفية التي وقعت للجرائد الصادرة أيام العقيد معمّر القذافي حيث لم يكن منطق المليشيات ينظر للمسألة في جانبها القيمي كسلطة هامة في أي دولة بقدر ما كان ينظر إليها كواجهة سياسية للنظام الذي كان يحكم، فانتهى مصيرها إلى الاندثار وليندثر معه قطاع كانت ليبيا من أول المبادرين فيه منذ القرن التاسع عشر.