جميعنا يشاهد ورقة الدولار يوميا وينظر إلى الصورة التي فيها، لكن أغلبنا لا يفكر من في الصورة ولماذا وضع هناك، لأن بديهية التفكير عندنا ترى إلى تلك الورقة مكسبا ماديّا ليس أكثر. لكن الصورة في الأصل تعود لمفكر وعالم أمريكي وأحد مؤسسي الولايات المتحدة هو بنجامين فرانكلاين الذي يعتبر أن العلم والتعليم هو الأساس الأول في بناء مجتمعات ودول قوية وهو رافع حكمة تقول إن "الشيء الوحيد الأكثر كلفة من التعليم هو الجهل" وعلى ذلك الأساس كان العلم لدى الأمريكان بمرتبة القداسة وهو الذي جعلهم من كبرى القوى في العالم رغم أنهم الأقل موروث حضاري وتاريخي مقارنة بشعوب أخرى.

الهدف مما قيل عن فرانكلاين، أن الجهل لا يمكن أن يبني أوطانا وما على الراغبين في بناء الذات إلا العمل على التأسيس لجيل واع متعلّم يحمي أوطانه ويطورها. اليوم يقاس تقدّم الشعوب بمستوياتها التعليمية وبما تقدّمه للعالم من إنجازات وما تمتلك من مؤسسات كبرى تكون قبلة الباحثين عن المعرفة، وهو ما لا يمكن توفّره في منطقتنا العربية التي تجد نفسها تدريجيا ضمن الدول الحاضنة للجهل بسبب عدم اهتمامها بالتعليم وعلى ذلك تعتبر اليوم شعوبها الأقل تعلّما والأضعف مراتب في سلّم مؤشرات التعليم العالمية.

الواقع أن الأزمة قديمة منذ بقي العرب يجترون أساطير الماضي بأنهم أصحاب علم وصانعي أمجاد في كل مناحي الحياة، في حين تجتهد الأمم الأخرى وتحقق ثورات حقيقية بفضل نظرتها نحو المستقبل باعتباره الوحيد القادر على صنع دول قوية وشعوب متطورة من خلال إيمانها أن التعليم هو الحصن الضامن لها في وجه التخلّف والجهل.

قد يكون الكلام السابق منفصلا قليلا عن المراد قوله في هذا المقال وهو أزمة التعليم في ليبيا بعد "ثورة" 17 فبراير، لكنه عموما يقترب من المشكل الحقيقي الذي تعانيه المدرسة الليبية منذ سنوات وما زادت في تعميقه تحولات "الربيع العربي" من قضاء على بنية تحتية وعدم وجود رؤية واضحة للبناء، فوجد التعليم نفسه عوض أن يؤسس لرؤية جديدة متطورة مثلما زعم "الثوار" القيام به، إلى ميدان على حافة الانهيار لا أفق لإصلاحه والخروج به من أزمته.

من خلال عودة وعمليّة جرد للسنوات الثماني الأخيرة التي أعقبت الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي، نجد أن التعليم كان من أكثر القطاعات تضررا في ليبيا على عدة مستويات بدءا من الانقطاع المبكر إلى انعدام الأمن إلى ضعف المناهج واختلافها باختلاف فرقاء الحكم، وخاصة إلى مستوى البنية التحتية التي وصلت مرحلة خطيرة تكاد تنهي أي أمل في الإصلاح أو التطوير. ففي تصريحات صحفية لوزير التعليم بحكومة الوفاق عثمان عبد الجليل في يوليو 2017، أكّد عن تضرر مئات المدارس بسبب الفوضى حيث أشار إلى تضرر قرابة 4500 مدرسة كلها تحتاج إلى الصيانة والإصلاح بشكل كامل أو جزئي، وخاصة في مناطق سرت والقواليش والعوينية وتاورغاء وككلة وأوباري، التي كانت الفوضى والإرهاب آفتين رئيسيتين فيهما، مؤكدا أن الأولية ستكون لها في إعادة الإعمار.

وفي مقال منشور في مواقع ليبية العام 2013، ذكرت بعض الإحصائيات "أنّ 40% من المدارس قد تعرضت لأضرار متفاوتة أثناء الحرب، وأنّ 15% من المدارس يضطر فيها أكثر من 90 تلميذاً بين ذكور وإناث إلى استعمال مرحاض واحد مختلطفي حين أنّ 16% من المدارس لا يتوفّر بها مواد تنظيف للأطفال لغسل الأيدي، ومدرسة من كلّ أربعة مدارس لا يتوفّر بها الماء الصالح للشراب، وأن 1.2% فقط من المدارس لديها مراحيض تصلح لاستخدام ذوي الاحتياجات الخاصة، و 40% من المدارس غير قادرة على توفير مراحيض للمعلمين".

هذه الإحصائيات تلخص حجم الأضرار التي لحقت المدارس الليبية بعد "الثورة" في ظل عدم مبالاة العابثين وعجز الحاكمين عن توفير أي حماية أو إنجاز أي إصلاحات من شأنها أن تنقذ المدارس التي أصبح الحديث عن الذهاب إليها كابوسا للأولياء الذي اختار جزء كبير منهم المدارس الخاصة، أو الهجرة لتدريس أبنائهم في الخارج أين يضمنون مستوى أفضل وأمنا أكثر رغم ما يسببه ذلك لهم من ثقل مادي يعجز كثيرون عن توفيره.

خلال ثماني سنوات لم يعد مستغربا أن تجد مدارس كقواعد لبعض المليشيات المسلحة تتمركز فيها وكأنها ثكناتها الخاصة، دون أي إدراك لقيمتها كفضاء للعلم يجب الحفاظ عليه لأجل أبناء ليبيا، الذين عصفت الحرب والتقاتل بأحلامهم في وجود مدارس آمنة ومهيئة لتلقي المناهج. ولم تترك تلك المليشيات من سوءات إلا وارتكبتها بحق تلك المدارس من خلال خلع الأبواب أو سرقتها أو تحطيم أجزاء منها لغايات خاصة.

كما كانت بعض الجامعات مثل جامعة سرت لأكثر من سنتين قاعدة عسكرية لتنظيم داعش الإرهابي الذي استهدافه للجامعة مدروسا بشكل جيّد باعتباره يسعى إلى هدم كل شيء له علاقة بالعلم والتعليم ويريد فرض نموذجه الخاص القائم على تلقين الجهل والدعوة إلى القتل والعنف، ولم يتم التخلص من التنظيم إلا بعد أن وصلت الجامعة إلى وضعية مهترئة تتطلب عملا كبيرا لاسترجاعها إلى ما كانت عليه قبل العام 2011.

في جانب آخر وفي ظل عدم وجود فضاءات مهيئة لاستقبال المهجرين بسبب الحرب، كانت بعض المدارس هي الحل لذلك وقد شوهدت عدة صور تنقل أطفالا وعائلات من وسط مدارس الأصل أنها فضاءات للتعليم لا ملاجئ تستقبل ضحايا الحروب، والظرف في الواقع يتكرر في أغلب الدول التي لا تمتلك مراكز إنسانية خاصة بالإيواء. هذه الحالات أثرت بشكل كبير على البنية التحتية للمدارس جعلت بعضها غير صالح لاستقبال الدارسين.

بعد ثماني سنوات لا جديد يلاحظ حول حالة التعليم في ليبيا. كل المؤشرات الدولية إما تضعها في مراتب أخيرة في العالم أو تضعها خارج التصنيف من الأساس ما يبيّن رداء الوضع. وفي الواقع أشياء كثيرة أوصلته إلى الحالة الصعبة الحالية من بينها البنية التحتية التي تعاني منذ سنوات دون أن يظهر المسؤولون في ظل الانقسام أي نوايا لإصلاحها إلا بنسق بطيء، لعل التطورات المنتظرة للعملية السياسية في قادم الأشهر قد تغيّر جزءا منها.