يقدّم إبراهيم نوّار، الباحث بالمركز العربي للبحوث والدراسات، قراءة في تطوّرات العملية السياسية في تونس، التي اختتمت مرحلتها المؤقتة، بانتخابات الرئاسة، أمس الأحد؛ وهي خطوة يرى نوّار أنها، إن عكست نجاحا يذكر، فإنها ليست سوى علامات على الطريق الوعرة والمليئة بالمطبات، الأمر الذي يجعل تونس في حاجة إلى قدر كبير من المهارة في القيادة وإلى حذر شديد من خطورة الطريق، حتى الوصول إلى المحطة الهدف، وهي محطة الاستقرار والأمن والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

أنجزت تونس بنجاح المهمتان الثانية والثالثة على طريق الانتقال إلى الديمقراطية، لكن هذا لا يعني أن الطريق إلى الاستقرار كان سهلا في تونس، أو أن مستقبلها آمن. فقد تكون تونس، كما أشار إبراهيم نوّار، رئيس الوحدة الاقتصادية بالمركز العربي للبحوث والدراسات، على الطريق الصحيح من ناحية “الاستعداد للديمقراطية”.

مع ذلك فإن معايير النجاح في وضع الدستور أو في إتمام الانتخابات، أيا كان الفائز، ليست سوى علامات على الطريق، ولا تعني أبدا “الانتقال” إلى الديمقراطية، وذلك على أساس أن تعريف “الديمقراطية” من حيث هي “عملية” يتجاوز كثيرا تعريف “الانتخابات” من حيث هي “إجراءات”.

وذلك لا يعني صبا لماء بارد على دفء فرحة النجاح، ولكنه ليس إلا مجرد “تحوّط ضد مخاطر” تبدو رابضة هنا وهناك، ربما تنتظر وقت الانقضاض في المستقبل القريب.

ويضيف نوّار، في دراسة صدرت عن المركز، أنه أيا كان الفائز فسوف يتقاسم السلطة مع رئيس الوزراء، الذي سيتم اختياره من قبل "نداء تونس" لأنه فاز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات التشريعية.

وسيكون على الرئيس التعامل مع السياسة الخارجية والأمن القومي، فيما يشرف رئيس الوزراء على الحكومة ومعظم الأعمال الحكومية اليومية.

وعلى الرغم من أن الرئيس والحكومة القادمين، والتونسيين عموما، سيواجهون الكثير من التحديات، إلا أن هناك أسبابا كثيرة للأمل.

يرى إبراهيم نوار في دراسته، الصادرة عن المركز العربي للبحوث والدراسات، أن العملية الديمقراطية في تونس، تواجه مجموعة اختبارات حتى تصل إلى محطة الهدف

ويعرّف نوّار هذه الاختبارات بأنها المقومات والمتغيرات السلبية “النشطة” التي قد تعترض تونس وهي في طريق “الانتقال” إلى الديمقراطية. وهذه إما أنها تدخل عضويّا شريكا في التأثير على عملية الاختيار في المرحلة السياسية الراهنة، مثل الميل السياسي لدى أطراف العملية السياسية، إما للمشاركة أو للإقصاء، أو أنها تقف خارج عملية الاختيار التي تقرر طبيعة مرحلة الانتقال، وتعارضها أو تحاول نفيها مثل الميل إلى تغليب “الحاكمية” على النظام الديمقراطي، واللجوء إلى تغيير النظام السياسي بالعنف، من جانب جماعات متطرفة تتخذ لنفسها مواقع خارج نطاق العملية السياسية.

ويمكن القول، إن هناك ثلاثة اختبارات أو حواجز رئيسية سوف يتعين على التجربة الانتقالية في تونس أن تعبرها أو تمر منها بنجاح في الفترة المقبلة، قبل أن نتمكن من إصدار حكم دقيق بشأن مصير ثورتها. فالحكم على طبيعة الثورة كما يقول هنري كيسنجر، لا تقرره طبيعة القوى المشاركة فيها، وإنما يقرره المصير الذي ستؤول إليه.

إن هذه الاختبارات الثلاثة تتجاوز كثيرا ما أشار إليه فريد زكريا في “الواشنطن بوست” (30 أكتوبر 2014) من اختبار هنتنجتون الذي يحكم على نجاح التحول الديمقراطي بنجاح عملية تداول السلطة سلميا مرتين متتاليتين.

وهذه الاختبارات الثلاثة تأخذ في اعتبارها دروس التجربة الأفغانية والتجربة العراقية التي لا تزال كل منهما في حال تعثر حتى الآن، على الرغم من انتقال السلطة سلميا عبر صناديق الانتخابات (في حال العراق: انتخابات 2006- 2010 ثم أخيرا 2014). كما تأخذ في اعتبارها أيضا طبيعة التهديدات الداخلية والإقليمية التي تواجه التجربة التونسية.

*الاختبار الأول: الديمقراطية

هناك بعض القوى السياسية التي يمكن أن “تنقلب على نفسها” خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي. فهي قد تتبنى خطابا سياسيا منفتحا على الآخرين، ثم وبعد أن تستخدم “الانتخابات” سلّما لها للصعود إلى السلطة، لا تلبث أن تنقلب على خطابها السياسي “الانتخابي” وتهرع إلى الاستمساك بخطاب سياسي نقيض. ومثل هذه القوى لن تعجز أبدا عن خلق أو اختلاق المبررات والوسائل التي تحقق بها هذا الانقلاب على النفس. رأينا ذلك بوضوح في تجربة (حماس) في فلسطين وفي تجربة حزب (الدعوة) في العراق وفي تجربة (الإخوان) في مصر.

إن الانفتاح على الآخرين، وتعزيز مقومات الديمقراطية، من شأنه أن يؤدي إلى حالة من “توازن القوى” اللازم على المسرح السياسي بما يكفي لوصول تجربة الانتقال إلى شواطئ مستقرة وهادئة. وهذا من شأنه أن يمنح التجربة التونسية علامة (صح) كبيرة.

* الاختبار الثاني: مواجهة الإرهاب

يعتبر الإرهاب وتنامي قواه واحدا من التهديدات الرئيسية التي تواجهها تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. وقد اتخذت الجماعات السلفية في تونس موقفا سلبيا من العملية الديمقراطية منذ بدايتها، على الرغم من أنها حصدت مكاسب سياسية غير متوقعة بسبب الثورة.

وعلى غرار ما حدث في مصر، حيث حصلت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على تراخيص قانونية لمزاولة العمل السياسي، وأنشأ السلفيون التونسيون أحزابا مثل (العمل) و(الإصلاح) و(الكرامة والمساواة) وغيرها. وهناك أيضا (حزب التحرير الإسلامي) الذي يرفع صراحة شعار “دولة الخلافة” على أساس دستور إسلامي يتفق مع “القرآن والسنة”.

وربما لا يكون في ذلك ما يثير القلق طالما أن مثل هذه الأحزاب أو الجماعات تتبنى أسلوب العمل السياسي السلمي، وتقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية. لكن ما يثير القلق هو أن تونس تعد الآن بمثابة “المخزن الرئيسي” لتصدير المقاتلين إلى منطقة الصراع المشتعلة.

الثاني يتمثل في أن تونس ربما تعج بتنظيمات وقوى ترتبط بالتطرف المسلح، ليست معروفة تماما للسلطات التونسية (على الرغم من أن هناك نحو 2000 من المسجونين أو المحتجزين في السجون التونسية بجرائم أو اتهامات لها علاقة بالإرهاب)، وأن هذه التنظيمات والقوى لها علاقة بشبكات الإرهاب في أوروبا، نظرا لانتشار الجاليات التونسية في الخارج خصوصا في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا، وبشبكات القتال في سوريا والعراق، وهي تقوم بعمليات التجنيد والتعبئة للقتال في صفوف (داعش).

ونظرا لأن هؤلاء الذين تدرّبوا على فنون القتال ومارسوها في صفوف الجماعات الإرهابية يتحولون بعد ذلك إلى “مقاتلين محترفين” لا مهنة لهم غير القتال، فإن عودة هؤلاء أو بعضهم إلى تونس، يمثل خطرا كبيرا على تجربة الانتقال إلى الديمقراطية، خصوصا وأن أولئك الذين قاموا على إعدادهم وتجنيدهم، موجودون داخل تونس، وربما ينتظرون الفرصة المواتية للانقضاض على التجربة وهي لا تزال طريّة في مراحلها الأولى. إن النجاح في “اختبار مواجهة الإرهاب” هو التحدي الثاني الذي يواجه التجربة التونسية.

* الاختبار الثالث: تنحية تأثير عدم الاستقرار

من الصعب عزل تجربة الانتقال إلى الديمقراطية في تونس عن محيطها الإقليمي. وتزداد هذه الصعوبة بالنظر إلى أن تونس تجاورت اثنين من الدول العربية التي تتعاظم فيهما (كل من زاوية مختلفة) مؤشرات عدم الاستقرار، فهذه ليبيا إلى الشرق، وقد انهارت فيها الدولة وتحولت عمليا إلى ولايات قبلية، غابت عنها الدولة بشكلها السابق، وتتصارع فيها جيوش العصابات المسلحة ذات المرجعية الدينية وما تبقى من قوات الدولة السابقة.

وهذه الجزائر إلى الغرب وهي تشهد من آن إلى آخر مظاهر عدم الاستقرار المتمثلة في رئيس مريض، ونزاعات حدودية مع جارتها الشقيقة المغرب، وتورط في قضية مزمنة هي قضية الصحراء المغربية، التي تقف الجزائر فيها بصف قوات “البوليساريو”، إضافة إلى احتمالات عودة النشاط القوي للجماعات السلفية ذات النفوذ التاريخي والمتمددة إقليميا تحت لواء (تنظيم القاعدة في بلدان المغرب العربي).

استطاعت تونس في الانتخابات البرلمانية أن تتجاوز تأثير الأزمة في ليبيا، مع أنها تعاني من أعباء استضافة المهاجرين القادمين من الغرب الليبي. كما استطاعت أيضا أن تنأى بنفسها عن الصراعات الحدودية بين جارتيها الجزائر والمغرب، مما جنبها مخاطر الوقوع في حالة استقطاب مغاربي، قد تنعكس سلبا على الحالة الداخلية.

لكن ألسنة اللهب التي قد تتطاير لتصيب تونس من أي من ليبيا أو الجزائر، ستظل تمثل تحديا خطيرا يهدد تجربة الانتقال إلى الديمقراطية، خصوصا وأن تونس لا تمتلك الأدوات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، التي تقدر من خلالها أن تؤثر على مسار الأمور في الجزائر أو في ليبيا. لقد استطاعت خيارات التونسيين حتى الآن أن تتجنب التأثير السلبي للتطورات في كل من جارتيها، وهذه بلا شك علامة مبشرة، وسيكون من الضروري تعزيز القدرات التونسية في هذا الاتجاه في المستقبل، وإلا فإن التجربة بأكملها يمكن أن تصبح ضحية لتدهور حاد في الوضع الإقليمي في أي لحظة.

يخلص الباحث إبراهيم نورا في هذا الفصل من دراسته إلى أن الاختبارات الثلاثة، أو الحواجز الثلاثة التي سيتعين على التجربة السياسية التونسية أن تتخطاها وأن تعبر منها إلى شواطئ الأمان، هي اختبارات متكاملة ومتلازمة، فالفشل في اختبار الديمقراطية من شأنه أن يعزز قوة الإرهاب الداخلي، وأن يجعل تونس مطمعا لقوى الإرهاب العالمي ولعدم الاستقرار الإقليمي.

وهذا يعني أن تونس تستطيع أن تتجنب السقوط في الاختبارين الثاني والثالث عن طريق عبور الاختبار الأول بقوة وبنجاح فائق، وهو ما يعزز قوة الصد وقدرات الصمود الداخلي ضد مخاطر الإرهاب وتهديدات عدم الاستقرار الإقليمي. إن نشوة النصر لا يجب أن تجعلنا نغيب عن الاستعداد للتحديات المقبلة، هكذا علمتنا التجربة في ميدان التحرير.

*نقلا عن العرب اللندنية