عُرفت الدّيبلوماسيىة التونسية عبر سنوات دولة الإستقلال بقدرتها الكبيرة على التعامل مع الملفات الدّولية و الإقليمية ،فلم تأخذ تونس عبر تاريخها مواقف كثيرة منحازة في صراعات ثنائية و نأت بنفسها دوما عن التّدخّل في الشؤون الدّاخلية للدول الأخرى ديبلوماسية واقعية  تنطلق من معطيات الإقتصاد و الجغرافيا و الحجم و المصالح و الموازين الدولية ،فتونس بلد صغير في موقع جغرافي حساس ليس لها موارد طبيعية ثرية و ليس لها من القدرات العسكرية و لا البشرية ما يسمح لها بالدّخول في معارك كبيرة أو الإصطفاف في معسكرات كبرى ضد معسكرات أخرى .

حافظت تونس على علاقات ودية مع الجميع تقريبا ،بفلسفة ديبلوماسية تقوم على الحد من المشاكل و توسيع دائرة المصالح و الأصدقاء مستثمرة في ذلك صورة طيبة لتونس و شعبها الموصوف بالمسالمة و الإنفتاح على الجميع ،ففي حرب الخليج –مثلا- إبتعدت تونس اتخذت موقفا حياديا واضحا فلم تحضر جلسة القمة العربية للتصويت على قرار التدخّل في العراق فحافظت بالتالي على علاقات متوازنة مع الجميع بخطاب ديبلوماسي موزون و فضفاض جنّبها الكثير من المشاكل .

إبان أحداث الثورة الليبية كما يسميها البعض أو عدوان الناتو كما يسميها البعض الآخر في العام 2011 كان الموقف التونسي براغماتيا و ذكيا في التعامل ففي حين كانت التصريحات الرسمية تعلن رفضها لفتح المجال الجوي لطائرات الناتو كانت القواعد العسكرية التونسية في الجنوب نقاط عبور للسلاح القطري الى "الثوّار" في الغرب الليبي ،الموقف الرسمي كان متوازنا آخذا في عين الإعتبار كل الفرضيات بما فيها بقاء القدّافي ،لذلك كان إستقبال مصطفى عبد الجليل للباجي قايد السبسي الذي ذهب للتهنئة بإنتصار الثّورة "فاترا" حسب الخبراء كردّة فعل في نظرهم على ذلك الموقف "الوسطي" الغير الحاسم وقتها من "الثورة الليبية".

يتكرّر المشهد اليوم تقريبا و يعود شبح الحرب الى ليبيا مرّة أخرى في سياقات أخرى و لكن المضامين تقريبا واحدة إنقسام قتال و مدنيون على أهبة الهروب إذا ما تصاعدت النيران أكثر ،إبّان الثورة الليبية طيلة العام 2011 هرب العشرات الألاف من الليبيين من جحيم المعارك الدامية الى تونس حيث إستقبلتهم مخيمات اللاجئين و بيوت التونسيين و كانت من الملفات الناجحة التي أتقنت حكومة الباجي قايد السبسي حينها التعامل معها بنجاعة كبيرة و هي مع نجاحه في تأمين إنتخابات أكتوبر 2011 تعتبر من أهم إنجازات تلك الحكومة "الإنتقالية" "التوافقية" "التكنواقراط" ،و يبدو اليوم هذا الشبح غير مستعبد الحدوث من جديد في رأي المراقبين اذا ما تواصلت المعارك في ليبيا و توسعت رقعتها أكثر لتجد الحكومة "الانتقالية" "التوافقية" "التكنوقراط" الثانية في تاريخ البلاد نفسها أمام نفس تحديات الأولى :ملف اللاجئين الليبيين و الإنتخابات ،و هذه المرة بقيادة المهدي الجمعة لا الباجي قايد السبسي و ربما هو "مكر التاريخ" بعبارة هيجل .

في هذا السياق أقرّ المحلل الأمني والعسكري فيصل الشريف في حوار اليوم مع موقع "إيلاف" الإلكتروني بوجود إشكال كبير بالنسبة لتونس يتمثل في تداعيات ما يحصل في ليبيا وهجرة المواطنين الليبيين إلى تونس هربا من الحرب القائمة، مبينا أنّ عدد الليبيين الذين يعيشون في تونس حاليا يصل إلى نحو مليونين وهو ما يطرح وضعية صعبة فعلا.وأبدى الشريف لموقع "إيلاف" تخوفه من هروب الجماعات المسلحة المتشددة إلى تونس سواء بسلاحها أو تدفق السلاح بقوة خاصة وأنّ آخر اجتماع أمني في الولايات المتحدة الأميركية يوم السابع من مايو الجاري أقرّ بضرورة التدخل العسكري في ليبيا لوقف هذه الجماعات المسلحة والمليشيات القريبة من القاعدة ومنها مجموعة أنصار الشريعة.

و من جانبه أكد الخبير في الأمن الشامل نور الدين النيفر أنّ تداعيات ما يحدث في ليبيا خطيرا جدا لأنّ تونس ليست في مصلحتها أن تكون على حدودها منطقة توتر تؤثر بصفة مباشر على القطاع السياحي فالسياح الليبيون يزورون جزيرة جربة لقربها من الحدود الليبية. وأوضح النيفر في تصريح لـ"إيلاف" أنّ أكثر من 130 ألف عامل يشتغلون في ليبيا، وتونس في الوقت الحاضر ليست قادرة على استيعابهم إذا ما عادوا هربا من الوضع الأمني غير المستقر هناك.أما على المستوى الأمني فإن الوضع يبدو أخطر خاصة إذا بدأت الحرب في ليبيا فربما تعود مجموعة من المليشيات المسلحة التي كانت تقاتل في سوريا لمساعدة الثوار في ليبيا وفي ذلك خطورة على تونس وعلى كافة المنطقة، وقد يتم الإتجار بالسلاح وهو ما قد يخلق شبكات من التهريب بين الجزائر وتونس وليبيا وغيرها على حدّ قوله .

مواقف سياسية متسرعة من مشهد غامض و متقلب :

على خلفية وضع أمني غائم و مشهد سياسي ضبابي سارعت حركة النهضة الإسلامية بمرجعيتها الإخوانية إلى التنديد بما سمّته "المحاولة الإنقلابية" في ليبيا في إشارة الى عملية "الكرامة" التي يقودها اللواء خليفة حفتر شرقي البلاد ضد جماعات دينية وصفها بالمتشدّدة و التي توسّعت لتشمل الغرب الليبي و العاصمة و الطرابلس و مقر المؤتمر الوطني نفسه السلطة العليا في البلاد .

حيث وصفت حركة النهضة أمس  الثلاثاء الاحداث الجارية في ليبيا بأنها "محاولة انقلابية" وحذرت من تطور الأوضاع الى حرب أهلية. وقالت الحركة في بيان لها "ندين بشدة المحاولة الانقلابية ونستنكر كل استعمال للسلاح للتعبير عن الرأي أو الموقف السياسي".وحذرت النهضة مما وصفته "عواقب الانتشار المفزع للسلاح في ليبيا الشقيقة مما يجعل الليبيين مهددين بأبشع صور الاقتتال والحرب الاهلية" كما دعت الحركة في بيانها الى ضرورة "حقن الدماء الليبية وتوفير شروط الهدوء والاستقرار والشروع فورا في حوار وطني يجمع الفرقاء بدون اقصاء ويفضي الى مصالحة وطنية شاملة" وفق تعبيرها

من جهته أجرى الرئيس التونسي المؤقت محمد المنصف المرزوقي مكالمة هاتفية مع رئيس المؤتمر الوطني العام الليبي النوري أبوسهمين الذي أكد له فشل محاولات الإعتداء على مؤسسات الدولة الشرعية مرة أخرى وقدم له صورة عن الأخطار المتربصة بالمسار الإنتقالي في ليبيا وفق بيان للرئاسة التونسية .وقد أكد المرزقي في هذه المكالمة وقوف تونس إلى جانب الشعب الليبي في وجه كل التهديدات الموجهة ضد مؤسساته الشرعية مجددا دعوته لكل الفرقاء لحوار وطني يحفظ إرادة الشعب الليبي ويقوده إلى إنجاز اهدافه في الأمن والاستقرار والتنمية والديمقراطية، و مشددا له من جديد  على استعداد تونس للقيام بكل ما يراه اشقاؤها في ليبيا من أجل المساعدة على تحقيق هذه الأهداف ضد كل الاخطار التي تهددها على حدّ تعبيره .

هذه المواقف المنحازة من رئاسة الجمهورية و حركة النهضة و بعض الأحزاب الأخرى الدّائرة في فلكها ،تنبع في رأي الملاحظين من حسابات شخصية و حزبية ضيقة ،ففي حين تنتصر النّهضة لـ"الجماعة" على حساب مصلحة الوطن ،تقول تقارير إعلامية و تحاليل سياسية بأن موقف المرزوقي معدّل على محرار المواقف القطريّة في كل القضايا الدّيبلوماسية من طرد السفير السوري الغير موجود أصلا الى مطالبته في منبر الأمم المتّحدة بإطلاق سراح الرئيس الإخواني محمد مرسي القابع في سجون الدّولة المصرية الوليدة على أنقاض معركة ثورة 30 يونيو بمشهديتها التاريخية في سجلات المظاهرات الشعبية عبر التاريخ .و يتسائل المراقبون هنا ماذا لو إنتصر هذا "الإنقلاب" في ليبيا ؟ أي نتائج و ثمن ستدفعها تونس و العلاقات التونسية الليبية نتيجة هذه المواقف المتسرّعة و المنحازة لأحد الطرفين في مشهد غير واضح و مفتوح على كل الإحتمالات ؟ !