بعد اشهر من المناكفات السياسية وعمليات التحشيد الواسعة التي تخللتها مواجهات ومظاهرات،اتجه التونسيون للتصويت على الدستور الجديد الذي اقترحه الرئيس قيس سعيد ليحل محل دستور 2014. والذي اثار جدلا كبيرا بين من يرى أنه سيقطع مع المنظومة السابقة التي تسببت في الازمات التي تعبشها البلاد وبين من يؤكد أن الدستور الجديد لا يضمن الحريات الفردية والجماعية ويمهد لديكتاتورية جديدة.

تزامنا مع الاحتفال بعيد الجمهورية في الـ25 من يوليو/تموز،اتجه التونسيون، الإثنين الماضي،للتصويت في استفتاء حول مشروع دستور جديد،وفتح أكثر من 11 ألف مركز اقتراع أبوابه أمام المواطنين،داخل الجمهورية التونسية،وتواصلت عملية الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد على مدى 16 ساعة. 

وأعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس فاروق بوعسكر،أن 94,6% من الناخبين المشاركين في الاستفتاء صوتوا بـ"نعم"على مشروع الدستور الجديد.وقال بوعسكر للصحافيين إن العدد الاجمالي للمشاركين في الاستفتاء بلغ2,756,607 ناخبا من أصل 9,3 مليون يحق لهم التصويت، وقد صوّت 2,607,848 بـ"نعم" على الدستور الجديد.

وفي 25 يوليو/ تموز من عام 2021 قام الرئيس التونسي قيس سعيد بإقالة الحكومة وتعيين أخرى وحل مجلسي البرلمان والقضاء وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية مرورا بتنظيم الاستفتاء على الدستور الذي تضمن صلاحيّات واسعة لصالح الرئيس وشكل قطيعة مع دستور 2014 الذي أسس لنظام برلماني 

وأقر الدستور الجديد، نظاما رئاسيا، ولم تعد للرئيس فيه صلاحيات الدفاع والخارجية فحسب كما نص عليها دستور 2014، بل توسعت حيث أصبح لرئيس الجمهورية حق تعيين رئيس الحكومة وبقية أعضائها باقتراح من رئيس الحكومة، كما يُخوّل له الدستور إقالتها دون أن يكون للبرلمان دور في ذلك. وللرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة، صلاحيات ضبط السياسة العامة للدولة ويُحدد اختياراتها الأساسية. ولمشاريعه القانونية "أولوية النظر" من جانب نواب البرلمان.

أما السلطة التشريعية فقد انقسمت بين "مجلس نواب الشعب" الذي ينتخب نوّابه باقتراع مباشر لمدّة خمس سنوات و"المجلس الوطنيّ للجهات"، ويضمّ ممثّلين منتخبين عن كلّ منطقة، على أن يصدر لاحقًا قانون يُحدّد مهمّاته.ويندرج إرساء هذا المجلس في إطار تصوّر الرئيس قيس سعيّد بلامركزيّة القرار، وأنّ الحلول للمناطق المهمشّة والتي تفتقد للتنمية يجب أن تُطرح من جانب الأهالي، وفق تقارير اعلامية.

يستخدم الدستور الجديد تعبير "الوظائف" وليس السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وهي لغة يقول النقاد إنها تدل على تضاؤل مكانتها في النظام الرئاسي المقترح.ونصت المادة 109 على تمتع الرئيس بالحصانة طيلة فترة ولايته، ولا يجوز استجوابه عن تصرفاته أثناء تأدية مهامه.ولم يتضمن الدستور المقترح للاستفتاء اليوم بنودًا لإقالة الرئيس، خلافًا لما جاء في دستور العام 2014

لكي يتمكن البرلمان من إقالة الحكومة، يتعين تأييد ثلثي النواب لحجب الثقة عنها في تصويت، حسبما تنص المادة 115، وهو هامش أكبر من الأغلبية البسيطة المطلوبة حاليا. وتنص المادة 116 على أنه في حالة إجراء تصويت ثان بحجب الثقة في نفس الدورة البرلمانية، فيمكن للرئيس إما قبول استقالة الحكومة أو حل البرلمان مما يعني إجراء انتخابات جديدة.

اما السلطة القضائية،فمثلما وصفت مسودة الدستور البرلمان والجهات التنفيذية بأنها "وظيفة"، تصف أيضا القضاء بأنه "وظيفة" بدلا من "سلطة" وهو ما قال عنه منتقدون إنه يشير إلى تراجع دورها.وحسب البند 120،يعين الرئيس القضاة إثر تقديم ترشّحاتهم من جانب المجلس الأعلى للقضاء، ما اعتبره قضاة "تدخّلاً في استقلال القضاء".

مثل دستور 2014، تعهد الدستور الجديد بحماية الحقوق والحريات بما يشمل حق تشكيل أحزاب سياسية وحق الاحتجاج. وينص على ضمان حرية الرأي والنشر وكذلك حرية الاعتقاد.وينص الفصل الخامس والخمسون على أن "لا توضَع قيود على الحقوق والحرّيات المضمونة بهذا الدستور إلّا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العامّ أو الدفاع الوطني أو الصحّة العموميّة".

يعتبر الاستفتاء نجاحا كبيرا للرئيس التونسي ضد معارضيه الذين يرون أن هذا الاستفتاء قد يعرض الديمقراطية التونسية الفتية للخطر، وأن تدني المشاركة يقوض شرعية العملية.وشكّكت "جبهة الخلاص" التي تضم أبرز قوى المعارضة في تونس، في الأرقام الرسمية عن الاستفتاء على الدستور الجديد، داعية رئيس الجمهورية قيس سعيد إلى التنحي عن منصبه وإلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني لإعداد انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.واتهمت الجبهة ،الهيئة الانتخابية بـ"تزوير" أرقام نسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور، مدعية أن استفتاء الرئيس قيس سعيّد "فشل".

كما أعلن الحزب الدستوري الحر أنه لن يعترف بنتائج الاستفتاء، واتهم الرئيس التونسي بارتكاب خروق غير مسبوقة بحق دولة القانون.وقالت رئيسة الحزب عبير موسي، في كلمة لها بعد الإعلان عن نسبة المشاركة في الاقتراع والتقديرات لنتائج الاستفتاء، إن سعيّد "حطم كل الأرقام القياسية في خرق دولة القانون والمؤسسات"، وإن المسار الذي اتخذه "مدلس وغير قانوني ولن يعترف به الحزب"،وفق تعبيرها.

وفي المقابل،اعتبر الرئيس التونسي قيس سعيّد في خطاب ألقاه الإثنين ليلا أمام مؤيديه في وسط العاصمة، إن البلاد دخلت "مرحلة جديدة"٠وأضاف سعيّد بأن "ما قام به الشعب درس، أبدع التونسيون في توجيهه للعالم"، مضيفا: "اليوم عبرنا من ضفة إلى أخرى.. من ضفة اليأس والإحباط إلى ضفة الأمل والعمل. وسنحقق هذا بفضل إرادة الشعب والتشريعات التي ستوضع لخدمته". ضمن هذا الشأن، قال سعيّد غداة الاقتراع، إن أول قرار بعد الاستفتاء سيكون وضع قانون انتخابي سيغير شكل الانتخابات القديمة، على حد قوله.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه معارضوه توجهه الى السلطة المطلقة والحد من الحريات والعودة الى عهد الاستبداد،يقول سعيد إنه لن يصبح ديكتاتورا وإنه سيحافظ على الحقوق وإن هناك دورا لبقية مؤسسات الدولة، وقال رافضا اتهامات المعارضة "التاريخ لن يعود إلى الوراء".وأكد الرئيس التونسي أن "الشعب قال كلمته وأن السيادة تعود للشعب وأن عهد اقتسام الكعكة بين النخبة السياسية انتهى".

ومع نجاحه في الاستفتاء،يجد الرئيس التونسي نفسه امام تحدي جديد وهو الازمة الاقتصادية المتفاقمة التي تعيشها البلاد منذ سنوات مع انخفاض النمو وتراجع الخدمات العامة، وتفاقم العجز والديون.وعاشت تونس فترات من عدم الاستقرار السياسي ووضع أمني صعب مع تكرر العمليات الارهابية التي أثرت بشكل كبير على السياحة في البلاد،ثم جاءت جائحة كورونا بتداعياتها الكارثية لتزيد الأمر صعوبة على اقتصاد البلد المتأزم.

وفق تقارير اعلامية،كان على الحكومات المتعاقبة أن تسير على طريق صعبة، عبر تقييد الإنفاق العام لتأمين المساعدة المالية الأجنبية، دون التسبب في انفجار اجتماعي إذا باتت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للفقراء.والآن، ومع عدم وجود سلطات أخرى تتحمل المسؤولية، سيكون سعيد بمفرده بمواجهة المشكلات الاقتصادية الحادة.

ويرى مراقبون،أن تمرير الاستفتاء قد يسهل على سعيد اتخاذ الخطوة الأولى نحو استقرار الاقتصاد والمتمثلة في الحصول على حزمة إنقاذ طال انتظارها من صندوق النقد الدولي. فعلى عكس الماضي، ليست هناك حاجة للتفاوض داخل ائتلاف حاكم، والاستفتاء يضع حدا للترتيبات المؤقتة المعمول بها منذ الصيف الماضي. كما أنه قد يقوي موقف سعيد مع نقابة العمال القوية، الاتحاد العام التونسي للشغل، التي تعارض العديد من الإصلاحات.

ونقلت صحيفة "العرب" اللندنية عن بسام الطريفي نائب رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان قوله أن "التونسيون ينتظرون مطالب اقتصادية واجتماعية لم تتحقق من 2011، ولا بدّ من تعزيز الحقوق المدنية والسياسية".وأضاف "على الرئيس سعيّد أن يجد حلولا للأزمات الاقتصادية والاجتماعية على غرار التداين والبطالة وغياب الاستثمار والأمن الغذائي وغيرها، وعليه أن يتحمّل المسؤولية أمام التونسيين".

فيما قال أستاذ القانون الدستوري والنيابي رابح الخرايفي، أن "ما بعد الاستفتاء هو إنهاء المرحلة الدستورية، وانتقلنا من تنظيم دستوري معيّن إلى آخر جديد يوحّد القرار السياسي ويعطي نجاعة مؤسسات الدولة".وأضاف ان "الرئيس سعيّد سيجد نفسه أمام امتحان من قبل الناخبين والناخبات، وقد تخلّص من كل المعطلين للقرارات والإجراءات، كما سيصبح أمام التزام أخلاقي ودستوري لتحقيق جزء ممّا وعد به التونسيين على الأقل، مثل توفير الجانب الأمني وتنقية مؤسسات الدولة وضمان الخدمات الأساسية المتعلقة بالتعليم والصحة والنقل".

وتابع الخرايفي "أعتقد أن سعيّد قادر على كسب الرهان شريطة توفير جهاز تنفيذي قوي وصارم بدءا بحسن اختيار الوزراء والولاة (المحافظين)، والمديرين العامين، فضلا عن استرجاع جزء من الأموال المهدورة في ممارسات الفساد والامتيازات والمقدرة بـ17 مليار دينار (5.53 مليار دولار)".واستطرد "لا بدّ من رؤية جديدة في التعامل مع المال العام والاهتمام بالجانب التنموي".وفق ما أوردته صحيفة "العرب" اللندنية.

وتدور المفاوضات بين تونس وصندوق النقد حول برنامج الإصلاحات الذي تقترحه الحكومة برئاسة نجلاء بودن، ويشترط الصندوق أن يترافق القرض مع تنفيذ إصلاحات موجعة تتعلق بالمؤسسات العمومية وتغيير منظومة الدعم.وأعلن صندوق النقد الدولي،في وقت سابق، أنّ بعثة من خبرائه اختتمت زيارة إلى تونس في إطار مفاوضات تجريها المؤسسة المالية الدولية مع تونس لمنحها برنامج مساعدات، لافتا إلى أن "المحادثات بين الجانبين حقّقت تقدما جيّدا".

ويعقد الكثيرون آمالا كبيرة على المرحلة القادمة في مواجهة التحديات القائمة وتجاوز الفشل الذي عرفته الحكومات السابقة التي كانت تدار من طرف الأحزاب وسط صراعات على النفوذ واغفال لمتطلبات المواطن الذي بات يعيش منذ سنوات أوضاعا اقتصادية صعبة.فيما يخشى آخرون أن تزداد الازمات في البلاد مع تصاعد حدة الانقسامات وعمليات التحشيد التي تهدد بدخول البلاد في نفق الصراعات.