الهنات الاقتصادية الكثيرة التي أماطت عنها ثورات ما سمي بـ”الربيع العربي” اللثام، تجلّت عسيرة عن المعالجة الحينية أو حتى على المدى المتوسط لتشعّب مسبباتها ومُضيّ الوضع، خاصة على المستوى الأمني، نحو الأسوأ. وتونس، التي كانت رائدة هذا "الربيع"، لم تكن عصيّة عن “خريف” اقتصادي عصف بها وانعكس سلبا على نموها الذي أضحى يشهد تراجعا مفزعا يُنبئ بمشاكل أضخم وأعسر إن لم تتمكّن من توفير حالة سياسية مستقرة تشجع الاستثمار الأجنبي في أقرب وقت ممكن، حسب تقرير أعدّته الخبيرة الاقتصادية ليلى موتاغي، حمل عنوان “الموجز الاقتصادي ربع السنوي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، وصدر عن البنك الدولي.

عادت الحياة السياسية لتمضي قدما بعد أشهر من الجمود السياسي الذي أصاب تونس خلال معظم عام 2013. وبعد التوصل إلى ترتيب توافقي بين الأحزاب السياسية الرئيسية توسطت فيه منظمات المجتمع المدني الكبرى في ديسمبر الماضي، تم تعيين رئيس وزراء انتقالي في يناير 2014، ووافق المجلس الوطني التأسيسي على الدستور وتم الإعلان عن تشكيل حكومة انتقالية لوضع اللمسات النهائية للدستور الجديد وقانون الانتخابات والإعداد لانتخابات عامة جديدة، هي الآن على الأبواب بعد أن تمّ قبول الترشحات وشارفت تحضيراتها على الانتهاء.

ومع ذلك، فإن التحديات السياسية والأمنية لا تزال تؤثِّر بشدة على الاقتصاد. فتحسن معدلات النمو الذي شهدته البلاد في النصف الثاني من عام 2012 لم يستمر في عام 2013، وحدث تباطؤ ملحوظ في الربع الثالث من 2013 وبداية 2014، وما زالت آفاق التعافي في 2015 ضعيفة.

 

نمو متراجع

وفي هذا الصدد، تظهر البيانات ربع السنوية، أن معدل النمو الحقيقي لإجمالي الناتج المحلي تراجع إلى 2.8 في المئة في المتوسط في الأشهر التسعة الأولى من عام 2013، بالمقارنة مع 3.8 في المئة في الفترة نفسها من سنة 2012.وقد خفض البنك الدولي تنبؤاته لمعدل النمو في 2013 من 3 في المئة إلى 2.6 في المئة.

وفي إطار سيناريو انحسار التوترات السياسية وحدوث تعاف اقتصادي في منطقة اليورو، تذهب تقديرات البنك الدولي إلى أنّ معدل النمو سيبلغ نحو 3 في المئة في نهاية سنة 2014. هذا بالإضافة إلى أنّ الاستثمار ولاسيما الاستثمار الأجنبي المباشر يشهد ركودا مع اتخاذ المستثمرين موقف الانتظار والترقب.

بدوره، شهد قطاع الخدمات أكبر هبوط في الاستثمار، إذ انخفض بنسبة 22 في المئة، تلاه القطاع الصناعي الذي هبط 5 في المئة، ثم الطاقة الذي تراجع 4.3 في المئة. ويُعزَى هبوط الاستثمار الأجنبي المباشر في معظمه إلى انخفاض التدفقات الاستثمارية من فرنسا، وهي أكبر بلد مرسل للاستثمار إلى تونس بين عامي 2008 و2012.

وفي هذا السياق، فقد هبط الاستثمار الأجنبي المباشر من فرنسا من 1105 مشاريع تم تتبعها في عام 2008 إلى 714 مشروعا في 2012، مسجلا انخفاضا نسبته 35 في المئة. ممّا انعكس على العديد من القطاعات الأخرى، حيث تسجل الاحتياطيات المالية العامة لتونس حاليا تراجعاً سريعاً جراء السياسة المالية التوسعية التي امتدّ العمل بها في 2013.

ويرجع ذلك بالأساس إلى زيادة فاتورة الأجور وارتفاع مصاريف الدعم. وفي الواقع، فإن الإنفاق على التحويلات النقدية والدعم تصاعدا بشدة، وتشير التقديرات إلى أنه وصل إلى مستوى قياسي مرتفع قدره 7.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2013 بالمقارنة مع 3.6 في المئة فحسب في 2010.

 

البطالة والضغوط التضخمية

من جهة أخرى، تظهر البيانات الرسمية أن الإنفاق الكلي على الدعم قد ارتفع بين عامي 2010 و 2013 أكثر من ثلاثة أضعاف. ويُخصَّص أكثر من ثلثي الدعم للطاقة والثلث الباقي للسلع الغذائية الأساسية. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن عجز الميزانية قد يفوق 7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي إذا لم تتخذ الحكومة الخطوات المبدئية لترشيد الدعم على مواد الطاقة وتضع ضوابط للميزانية.

هذا وقد أدَّى العجز المتصاعد إلى زيادة الضغوط التضخمية منذ عام 2012. وفي نهاية 2013، يُقدَّر أن معدل التضخم قد وصل إلى 6.1 في المئة مقارنة مع المتوسط البالغ 5.6 في المئة في 2012، و3.3 في المئة في الفترة بين عامي 2000 و2010. واستمر عجز الحساب الجاري في الاتساع في عامي 2012 و2013 بسبب هبوط الطلب الأوروبي وركود عائدات السياحة وتحويلات المغتربين.

من جهة أخرى، هناك بعض المؤشرات الإيجابية على تراجع معدل البطالة من ذروته في الفترة التي تلت ما سمي بـ”الربيع العربي”. وتشير البيانات الرسمية إلى أن معدل البطالة بلغ 15.7 في المئة (مع وجود 620 ألف شخص عاطل عن العمل) في الربع الثالث من عام 2013 منخفضا بنسبة 0.2 في المئة عن الربع السابق وبنسبة 1.3 في المئة عمّا كان عليه في الفترة نفسها من عام 2012. لكن معدل البطالة ما زال مرتفعا بين خريجي الجامعات، إذ بلغ 33.5 في المئة في الربع الثالث من عام 2013 بالمقارنة مع 31.6 في المئة في الربع الثاني. بل إنّ المعدل أصبح أكبر بين المتعلمين من الشباب.

كما اتسعت الفجوة بين الجنسين، إذ تزيد معدلات البطالة كثيراً بين النساء (23 في المئة) ولاسيما المتعلمات (43.5 في المئة من الخريجات)، وفي المناطق النائية. وتعزى نسبة كبيرة من الزيادة في معدلات البطالة في فترة ما بعد “الربيع العربي” إلى انخفاض العمالة الموسمية في قطاع السياحة، وعودة أعداد كبيرة من التونسيين من ليبيا.

 

إمكانات التجاوز

في إطار البحث عن حلول ناجعة تعيد للاقتصاد التونسي بعضا من حيويته، يرى عدد من الخبراء أنّ الخروج من الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه تونس، يكون أولا بضمان الاستقرار السياسي وتحديد معالمه حتى يتشجع المستثمر الأجنبي على القدوم إلى تونس وبعث مشاريع ذات طاقة تشغيلية عالية .كما يشير الخبراء إلى أنّ الإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي والسعي إلى تجميد الأسعار وتغيير بعض القوانين الّتي تكبل المبادرات الخاصة لبعث المشاريع، يعدّ كذلك أحد الحلول اللازمة.

كما أنّ الكف عن الاضرابات والاحتجاجات حتى ولو كانت مشروعة والانكباب على العمل، حسب الخبراء، من شأنه أن يخرج الاقتصاد من عنق الزجاجة التي يقبع فيها. فعلى التونسي أن يقتدي بعدد من الدول الأوروبية التي دمرت خلال الحرب العالمية الثانية واستطاعت النهوض باقتصادها بواسطة العمل والكد، لا بالتناحر على المناصب السياسية وتقسيم الكعكة بين الأحزاب السياسية مثلما شهدته البلاد في السنوات الأخيرة.

من جهتها، تهدف الحكومة في ما يتعلّق بإيجاد حلول لمعضلة البطالة، على الأمد المتوسط، إلى خفض أعداد العاطلين من خلال توفير 50 ألف فرصة عمل سنويا في الأعوام الخمسة القادمة. وعلى سبيل المثال، يهدف مشروع “تونس الذكية” الذي وافق عليه مجلس الوزراء في أواخر نوفمبر 2013 إلى اجتذاب استثمارات أجنبية ومحلية، ولاسيما في مجالي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وخلق فرص عمل للشباب المتعلم.

هذا، ومازالت الاختلالات الهيكلية قائمة، وإذا لم تتم معالجتها على وجه السرعة، فإنها قد تؤدي إلى مزيد من التأخير لآفاق انتعاش النمو. حيث ما فتئت تونس تواجه تحديات اقتصادية جسيمة جرّاء التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية عبر المناطق. ومن بين هذه الأولويات الهيكلية سيكون من الضروري تقوية القطاع المصرفي وتعميق سوق المال المحلية من أجل تمويل أنشطة الاستثمار في هذا الصدد. ولا يمكن تحقيق ذلك، سوى بإجراء تحسينات في بيئة ممارسة أنشطة الأعمال من أجل تشجيع الاستثمارات الخاصة.

 

تراجع الاستثمار شمل:

◄ قطاع الخدمات الذي انخفض بنسبة 22 في المئة

◄ القطاع الصناعي الذي انخفض بنسبة 5 في المئة

◄ قطاع الطاقة الذي انخفض بنسبة 4.3 في المئة.