امتازت سنة 2014  بالنسبة للتونسيين بمحطاتها الانتخابية الأكثر نزاهة وشفافية وديمقراطية رغم مرور 58 سنة عن الاستقلال ... محطات تاريخية اختلف في شأن تاريخ انعقادها السياسيون حيث اعتبر البعض أن التشريعية هي التي تسبق الرئاسية فيما رأى البعض الاخر أن العكس هو الافضل. 

وبعد أخذ ورد تم الاتفاق على أسبقية التشريعية وانطلقت القائمات الانتخابية في القيام بحملاتها ومنها نداء تونس ذلك المولود الجديد الذي ينافس أحزابا عريقة على غرار حركة النهضة التي يمتد تاريخ تأسيسها الى اكثر من ثلاثة عقود والفائدة بالأغلبية الساحقة في الانتخابات التشريعية لسنة 2011.

ولكن حركة النهضة المعروفة بقدرتها على المناورة كانت تدرك جيدا ان حركة نداء تونس التي لم يفلح الراغبون في سن قانون الإقصاء في عرقلتها وإثناء عزمها عن إنقاذ تونس كما يردد أنصارها وإرجاع هيبتها ودحر الإرهاب وإعادة الامن والاستقرار كأولوية في برنامجها الانتخابي. 

فأنشغلت النهضة بعد استقالة قيادييها من الحكومة بالحملة الانتخابية وكانت الحرب الباردة مشتعلة بينها وبين قياديي نداء تونس سواء عبر التصريحات الاعلامية او عبر شبكات التواصل الاجتماعي ولكن الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي كانا متسلحين بشيء من الحكمة والرصانة خاصة بعد ان نجح سليم الرياحي في تقريب وجهات النظر بينهما في لقاء باريس.

النجاح الساحق:

وكانت النهضة طيلة الحملة الانتخابية للتشريعية تريد تقديم صورة جميلة لاسيما بعد فشلها في الحكم في إطار "ترويكا"جمعتها مع المؤتمر من اجل الجمهورية والتكتل من اجل العمل والحريات"  ، بينما النداء توغل في الجهات الداخلية واستمع الى شواغل الناس في الأحياء الشعبية واعتمد " تكتيكا" انتخابيا محكما قاده نحو الانتصارعلى منافسه بفارق مهم من الاصوات ونجاحه الساحق في الانتخابات منحه اولوية تشكيل الحكومة القادمة.

وفي سياق متصل فاجأ الحزب الوطني الحر بقيادة رجل الاعمال سليم الرياحي الجميع اذ بعد ان حصل على مقعد يتيم في انتخابات 2011 تمكن من الحصول على 17 مقعدا في 2014 وتطور حاليا العدد بعد انضمام بعض النواب الى كتلته ليصل الى 24 نائبا.

 وبالتوازي كانت هناك الجبهة الشعبية التي تشكلت بين مجموعة من الاحزاب اليسارية والقومية في تاريخ ليس ببعيد ( اكتوبر2012) تعمل على الخروج من المهانة التي لحقت بأحزابها خلال تشريعية 2011 وحصولها على 15 مقعدا  في 2014 يكشف عن استفادتها من هزيمة الماضي وربما مازاد في قبول المواطنين لها وتعاطفهم معها استشهاد زعيميها شكري بلعيد ومحمد البراهمي. 

مشهد سياسي جديد:

وامام سلطة الصندوق الذي توجه اليه المواطنون بكثافة يوم 26 أكتوبر الماضي تشكل مشهد سياسي جديد في تونس غابت فيه بعض الاحزاب المعروفة على غرار الحزب الجمهوري الذي لم يحصل الا على مقعد وحيد. 

 وتراجع موقع العريضة الشعبية (تيار المحبة) في البرلمان بعد ان كانت في المراتب الاولى وأصبح لديها مقعدان فقط وتحولت الاحزاب التي أحرزت على اغلب المقاعد في 2011 الى احزاب صفر فاصل و هي التكتل الذي لم يحصل على اي مقعد وحزب المؤتمر الذي حصل على اربعة مقاعد فقط  وحصلت  النهضة على 69 مقعدا من جملة بفضل صلابة أنصارها.

ومن جهة اخرى برزت احزاب اخرى مثل افاق تونس بالحصول على تسعة مقاعد ،  واكد الجميع ان  نتائج الانتخابات كانت ديمقراطية ونزيهة رغم طعن بعض الاحزاب فيها لدى المحكمة الادارية واشادت المنظمات الاجنبية المهتمة بالانتخابات وكذلك المراقبون والملاحظون التونسيون والأجانب  بنجاحها وذلك رغم التجاوزات البسيطة التي حدثت وكشفت النتائج عن رغبة التونسيين في تغيير المشهد السياسي بعد ان تعبوا  طيلة ثلاث سنوات في ظل حكم احزاب "الترويكا".

الرئاسية في دورتين:

 23 نوفمبر 2014  كان موعدا هاما في تاريخ تونس لانه لاول مرة ينتخب التونسيون رئيسهم بكل حرية ودون ضغوطات او تأثير من احد .

فكانت انتخابات استثنائية بجميع المقاييس وتبين ذلك اولا من خلال الترشحات الكثيرة التي تقدمت للسباق  ومشاركة المراة لاول مرة في السباق الانتخابي لتكون القاضية كلثوم كنو المراة الوحيدة من اربع مترشحات التي تستجيب لشروط الترشح وتواصل السباق الى نهاية الدور الاول .

ولكن المتابع الجيد لتطورات المشهد السياسي التونسي في علاقة خاصة بأطراف خارجية يدرك ان نداء تونس كان امل التونسيين في الخروج من عنق الزجاجة ففاز في التشريعية بـ 87  مقعدا وان الباجي قائد السبسي رئيسه هو الأصلح للرئاسية رغم تقدمه في السن. 

ومثلما نافست النهضة نداء تونس في تلك الانتخابات واحتلت المرتبة الثانية نافسته ايضا في الرئاسية بدعم خفي  للمنصف المرزوقي رغم اصدار المكتب التنفيذي للحركة لبيانات تؤكد حيادها ورغم تصريحات بعض اعضاء مجلس الشورى لمنح مطلق الحرية للنهضاويين في اختيار من يرونه صالحا. 

وتمكن الباجي قائد السبسي من بلوغ الدور الثاني رغم كل الحملات التي شنها منافسه ضده وخاصة اتهامه بالتغول على خلفية انه الحزب الاول في البرلمان ووجوده في الرئاسة ايضا سيعيد تونس الى مربع الاستبداد فتقدم  المرزوقي للمحكمة الادارية بطعون لم تقبلها المحكمة في الدورين الابتدائي والاستئنافي . 

وفي الانتخابات الرئاسية برزت شخصيتان وهما حمة الهمامي وسليم الرياحي فالأول احتل المرتبة الثالثة بفضل الجبهة الشعبية وبعض الشباب الذين أرادوا ان يراهنوا على شخصية المناضل ضد نظام بورقيبة ثم بن علي  والثاني احتل المرتبة الرابعة بفضل مجهودات حزبه في القيام بحملة انتخابية شرسة وضع فيها كل ثقله من مال وحنكة انتخابية جعلته يبدو في صورة المنقذ من الفقر والتهميش بالاستثمارات في الجهات    

الولاء للوطن:

احرز الباجي قائد السبسي على أغلبية الاصوات خلال الدورة الانتخابية الاولى فاحتدت المعركة الانتخابية بينه وبين المرزوقي  وتسابقا الى آخر لحظة بعزم الراغب في الفوز فاختار التونسيون للمرة الثانية السبسي بفارق واضح في الاصوات ( 55,86 مقابل 44,34 ) لتقطع بذلك الرئاسية التونسية مع نتائج 90 ,99  بالمائة فاشادت كل الدول التي تابعت انتخابات تونس بديمقراطيتها ًو شفافيتها وبعد غد الأربعاء يسلم محمد المنصف المرزوقي الرئاسة لمنافسه الباجي قائد السبسي بعد ان هنأه بالفوز بعد اعلان شفيق صرصار رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج الرسمية وانصرف المرزوقي الى تأسيس حراك شعب المواطنين الذي واجه انتقادات عديدة حتى من أصدقائه في النضال السياسي في العهد السابق . 

وعموما اثبت التونسيون في كل المحطات الانتخابية انهم شعب استثنائي يقاس بالبلدان المتقدمة والعريقة في الديمقراطية وان مسار الانتقال الديمقراطي متواصل دون عنف كما اثبت السياسيون ان تونس قبل الجميع وان الولاء للوطن له الأولوية القصوى على المصالح الضيقة.