يمكن القول أن عام 2014 كان استثنائيا في تونس من خلال ارتفاع نسق الأحداث السياسية و الأمنية و الاجتماعية وحتى الاقتصادية بالبلاد. مما جعل هذا العام ساخنا في غالبيته لتضمنه بلورة جديدة للخارطة السياسية أعادت ترتيب المشهد العام الداخلي عبر معادلات مختلفة عن سابقاتها في كل المجالات تقريبا و أهمها على الإطلاق تنازل حكومة علي العريض عن الحكم وتسليم المشعل لحكومة "التكنوقراط" برئاسة مهدي جمعة في بداية السنة، ثم تنظيم أول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ البلاد في آواخرها.

و لعل محاولة حصر أهم الأحداث التي ميزت سنة 2014 في تونس تحتم علينا العودة بشكل وجيز وخاطف إلى بعض الأحداث المفصلية التي عاشتها البلاد في 2013 والتي كان لها الأثر الفعال في تحديد الأحداث التي عقبتها في 2014 ومن أهمها الإغتيالات السياسية التي استهدفت المعارضين اليساريين شكري بلعيد في 6 فيفري 2013 و محمد البراهمي في 25 جويلية من نفس العام وقبلهما بفترة قليلة لطفي نقض، إضافة إلى اغتيال جنود الجيش الوطني والأمنيين في أحداث الشعانبي و قبلاط و سيدي علي بن عون و غيرها.، دون أن ننسى الأزمات الاقتصادية والإجتماعية والأمنية التي وسمت حكم الترويكا في سنواتها الثلاث. وهو ما أشعل الإحتجاجات الشعبية ضد حكومة العريض لا سيما على إثر اغتيال البراهمي والجنود صيف 2013. و أمام حدة الاحتجاجات العاصفة التي شهدتها تونس وقتئذ والمطالبة باستقالة حكومة العريض التي حملتها المعارضة و فئات واسعة من التونسيين المسؤولية السياسية والأخلاقية في اغتيال البراهمي وحماة الديار من عسكريين وأمنيين، اضطرت هذه الأخيرة وبعد مماطلة وتسويف وإعلان رفضها للاستقالة متعللة بعدم انهاء تشكيل المؤسسات الدستورية إلى تسليم صك هذه الإستقالة بصفة رسمية إلى الرئيس السابق منصف المرزوقي على أن تصبح حكومة العريض حكومة تصريف أعمال إلى أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة بقيادة مهدي جمعة وزير الصناعة في عهد حكومة الترويكا الثانية.

تنازل حكومة علي العريض عن السلطة بتاريخ 9 جانفي 2014، سبقتها مشاورات مستفيضة للرباعي الراعي للحوار الوطني التي انطلقت في شهر ديسمبر 2013 بهدف إيجاد أرضية توافقية بين مختلف القوى السياسية من حكومة و معارضة لإخراج البلاد من الأزمة وتفعيل مشروع إنقاذ شامل تبدأ أولى خطواته في تشكيل حكومة كفاءات مستقلة لوضع حد للتجاذب السياسي الحاد الذي كاد يوقع تونس في منزلقات لا تحمد عقباها. وتبعا لذلك، تم الإتفاق خلال منتصف ديسمبر الفارط، على تنصيب مهدي جمعة كريس توافقي لحكومة التكنوقراط، رغم احتراز بعض القوى على غرار الجبهة الشعبية على اعتبار أن هذا الأخير ينتمي إلى حكومة "الفشل"، وهي التسمية التي أطلقها اليساريون على حكومة الترويكا بنسختيها.

في شهر جانفي 2014، تم انتخاب الهيئات الدستورية ومن أهمها أعضاء الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات برئاسة الحقوقي شفيق صرصار ب 153 صوتا. ليتم على إثر ذلك وتحديدا في 26 من الشهر ذاته المصادقة على الدستور الجديد من قبل نواب المجلس التأسيسي ب 200 صوت نعم و 12 صوتا لا و 4 أصوات متحفظة، ليقع بعد ذلك وبتاريخ التاسع والعشرين من جانفي، تسليم السلطة من علي العريض إلى رئيس الحكومة الجديد مهدي جمعة الذي أدى اليمين أمام نواب الشعب في جلسة عمل ممتازة بالتأسيسي ليباشر و أعضاء حكومته مهامهم في الأيام الموالية.
.
في ماي 2014 تمت المصادقة على القانون الإنتخابي تلاه الإتفاق بين الأحزاب السياسية و أطراف الحوار الوطني على فصل الإنتخابات التشريعية عن الرئاسية بتقديم الأولى على الثانية.

في الثالث والعشرين من جوان، أعطيت إشارة الإنطلاق لعملية تسجيل الناخبين استعدادا لخوض الإستحقاق الإنتخابي الذي شهدته البلاد في موفى السنة، ليصادق المجلس التأسيسي في 25 من نفس الشهر على موعدي الإستحقاقين التشريعي و الرئاسي التي بلغت نسبة التسجيل فيهما حوالي 5 ملايين ناخبا. كما تقدم 70 مترشحا للإنتخابات الرئاسية، وهو رقم قياسي واستثنائي تجاوز سلم الترقيم العالمي، مما جعل التنافس على الوصول إلى قصر قرطاج يتم لأول مرة بطريقة تعددية في تاريخ البلاد بطريقة رغم أنه لم يتم قبول إلا 27 مترشحا من جملة المتنافسين.

26 أكتوبر 2014 عاشت تونس حدثا استثنائيا جعلها محط أنظار العالم بتوجه التونسيين من شمال البلاد إلى جنوبها إلى صناديق الإقتراع للإدلاء بأصواتهم في تركيبة برلمانهم الجديد ومن سيحكمهم بعد إنتهاء المرحلة الإنتقالية. و أسفرت الإنتخابات التشريعية على فوز حركة نداء تونس ب 86 مقعدا و تمكنت بذلك من الإطاحة بحكم الإسلاميين بقيادة حركة النهضة التي جاءت في المرتبة الثانية ب 67 مقعدا ، تليها أحزاب الإتحاد الوطني الحر و الجبهة الشعبية وآفاق تونس.

23 نوفمبر عاشت تونس يوم التصويت للدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية في أول انتخابات رئاسية تشهدها البلاد في تاريخها. و في 25 من نفس الشهر تم الإعلان عن النتائج الاولية للدورة الاولى من الرئاسية وحلول الباجي قائد السبسي في المرتبة الأولى بنسبة 39,46٪ يليه المنصف المرزوقي بنسبة 33,43 ٪ من الأصوات، وبالتالي يترشح المتنافسان إلى الدورة الثانية من الرئاسية التي تم إجراؤها بتاريخ الواحد والعشرين من ديسمبر و أسفرت كسابقتها عن فوز قائد السبسي بمنصب رئيس الجمهورية التونسية في انتخابات أجمع العالم وكل المراقبين المحليين و الأجانب على شفافيتها.

ولكن، لم يكن الرهان الرئاسي هين التشابكات و التحديات فقد رافقته بعض الإشكاليات و الجدل بعد تشكيك المرزوقي في نتائج الإنتخابات الرئاسية في دورتها الأولى و تقديم طعون إلى المحكمة الإدارية ، إضافة إلى الجدل الذي أثارته رسالة التكليف التي أرسلها إلى رئيس حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي بحكم أن حزبه هو الفائز بالإنتخابات التشريعية، ليطلب منه تكليف رئيسا جديدا للحكومة وهو ما رفضه هذا الأخير رفضا قاطعا باعتبار أن هذا التكليف يجب أن يصدر عن الرئيس المنتخب.

هذه الرسالة إضافة إلى الطعون المقدمة من قبل المرزوقي جعلت التجاذب يعود إلى السطح، مما دعا الرباعي المكون للحوار الوطني يتدخل من جديد للملمة الخلاف قبل اتساع رقعته، لينتهي هذا التدخل بالتوافق على ترك مهمة تكليف رئيس الحكومة إلى رئيس الجمهورية المنتخب.

أما بالنسبة للدورة الثانية من رئاسية تونس التي فاز فيها قائد السبسي ب 55،68٪ من نسبة التصويت مقابل 44,32٪ من الأصوات للمرزوقي، فقد شهدت البلاد مباشرة بعد الإعلان عن فوز السبسي أحدا ث فوضى وعنف بعدد من مناطق الجنوب، حيث لم يرض مواطنو هذه الجهات من المناصرين للمرزوقي بنتائج صناديق الإقتراع. وهو ما نتج عنه حرق لبعض مقرات نداء تونس و مقرات رسمية والإعتداء على عدد من الأمنيين بتعلة أن النتائج مزورة، الأمر الذي نفته هيئة الإنتخابات . إلا أن خروج المرزوقي أمام أنصاره و إعلانه القبول بالنتائج الإنتخابية و دعوته إلى التهدئة ساهم بشكل أو بآخر في تطييب الخواطر لدى هؤلاء، ليعلن بعد ذلك تأسيس حراك "شعب المواطنين" مثيرا من جديد بعض الجدل حول تسمية و أهداف هذا الحراك الذي اعتبر تقسيميا و خطيرا على الوحدة الوطنية إلى حد أن بعض الأطراف هددت بمقاضاته.

في 31 ديسمبر 2014 أدى الرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي اليمين الدستورية أمام نواب الشعب ليتسلم بعدها الحكم من خلفه منصف المرزوقي. و تعهد السبسي بصون مكاسب الجمهورية والدستورية و المحافظة على الأمن القومي و أن يكون رئيسا لكل التونسيين.

النجاحات السياسية التوافقية التي عاشتها تونس في 2014 و التي إنتهت بتنظيم انتخابات تشريعية و رئاسية غير مسبوقة، لا يجعلنا نتغافل عن الدور المحوري الذي لعبته حكومة جمعة والرباعي الراعي للحوار في إيصال البلاد إلى مرحلة آمنة نسبيا مقارنة بالسنوات الماضية. فقد تمكنت تونس من تحقيق نجاحات أمنية نوعية تمثلت أساسا في تفكيك الخلايا الإرهابية في معظم جهات البلاد ولعل أهمها عمليات رواد و وادي الليل والوردية وجندوبة وغيرها، إضافة إلى تفكيك الجناح الإعلامي لتنظيم أنصار الشريعة المحظور والإطاحة بقيادات وعناصر إرهابية خطيرة و إفشال مخططات إجرامية كانت تستهدف سياسيين و نقابيين و إعلاميين وكذلك مقرات سيادية، عبر توجيه ضربات استباقية إلى أوكار الجماعات الإرهابية في المناطق الساخنة خاصة في محافظات القصرين وجندوبة والكاف وبعض الجهات الحدودية مع ليبيا لأكبر دليل على ذلك، رغم أن هذه النجاحات إقترنت ببعض الأحداث الإرهابية الفاجعة التي عاشتها البلاد و من بينها أحداث رواد وحي النسيم بأريانة و عملية الشعانبي التي سقط فيها عدد من العسكريين في رمضان 2014 و كذلك فاجعة نبر شمال غرب البلاد وحادثة قطع رأس وكيل الحرس الوطني في 30 نوفمبر الفارط و غيرها. و إجمالا لقي 64 أمنيا و عسكريا حتفهم خلال 2014، في حين جرح 183 آخرين. كما قتل 4 مدنيون وجرح 3 آخرين.

من الناحية الإقتصادية و الإجتماعية، شهدت تونس شبه استقرار ملحوظ، حيث تراجع منسوب الإحتجاجات الشعبية. كما تراجعت حدة الأزمة الإقتصادية مقارنة بالسنوات الماضية عبر تكريس سياسة الديبلوماسية الإقتصادية التي انتهجتها حكومة الكنوقراط وكذلك من خلال الزيارات المكوكية التي قام بها رئيس الحكومة مهدي جمعة نحو مختلف دول العالم، مما أسفر عن إمضاء اتفاقيات وقروض تم منحها لتونس لدعمها في إنهاء المسار الإنتقالي.