اعتاد العالم سنويا على سماع نغمة أمريكا حول حقوق الإنسان في طول القارات وعرضها، وذلك عبر التقرير السنوي الذي تصدره خارجيتها، وهي نغمة فيها من المفارقات ما فيها وتحتوي من التضليل والخداع ما لم يسمعه العالم من قبل، ففي كل عام يستفيض التقرير الأمريكي بالحديث عن انتهاك حقوق الإنسان في الصين وروسيا والدول العربية والأفريقية والآسيوية واللاتينية، ويتجاهل تماما انتهاكها داخل أمريكا. وفي هذا السياق نشرت وزارة الخارجية الأمريكية، الثلاثاء 12/04/2022، تقريرها السنوي حول حقوق الإنسان في العالم لعام 2021، وخلال تقديمه التقرير، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: "إن علينا "فرض عقوبات على من ينتهكون حقوق الإنسان". وأضاف بلينكن إن "هناك أكثر من مليون معتقل سياسي في العديد من أنحاء العالم مثل روسيا وبيلاروس والصين..."، مضيفا أن "نفس المعايير المتعلقة بحقوق الإنسان تطبق على الجميع وبدون تمييز". وأكد بلينكن في كلمة بمناسبة إطلاق التقرير "إدارتنا والإدارات الأميركية السابقة تعلي قيم حقوق الإنسان"، داعيا إلى "توثيق كل الانتهاكات احتراما لمبادئ حقوق الإنسان والنظام العالمي".

إنّ المفارقة الكبرى، أن واشنطن تصدر كل عام تقريرها عن حقوق الإنسان في العالم، وتكلف عادة وزارة خارجيتها بهذه المهمة، رغم أن إصدار مثل هذه التقارير هو من اختصاص المنظمات الدولية الحقوقية والمؤسسات الدولية المعنية بالأمر كمجلس حقوق الإنسان وسواه وليس من اختصاص أمريكا، ورغم أن الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية المقصودة لم تفوض واشنطن بهكذا مهمة أو مسؤولية، ولم تجعلها وصية على شؤون العالم وحقوق البشرية وحمايتها. في التقرير السنوي، نكاد نقرأ كل المفارقات والتناقضات والمتناقضات، ولعل اللافت أن من أعده ظن نفسه محاضراً على الآخرين ووصياً عليهم، وبدأ يوزع شهادات سوء السلوك عليهم ونسي أن بلاده هي أكبر منتهكي حقوق الإنسان في العالم، فقد تجاهل التقرير بشكل مقصود الأوضاع غير المنسجمة مع حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة... ويكفي أن نشير هنا إلى أن عدد المساجين داخل أمريكا هو الأكبر في العالم إذ يتجاوز المليونين وربع المليون مواطن أمريكي.‏‏ 

إنّ مُحاكمة التقارير الأمريكية والبحثُ في صدقيتها من عدمها ليس خيارنا ولا الموضوع الذي يشغلنا أو يستحق منّا أن نهدر الوقت عليه لتفنيده أو للطعن فيه، فهي التقارير التي لا نُقيم وزناً لها ونعتبر أن لا قيمة لها ولما جاء فيها ولا لمجمل ما تأتي الخارجية على ذكره فيها، لكنّها التقارير التي تشغل الكثيرين على امتداد الجغرافيا، والمُلفت أنّ من بين المُهتمين بها أولئك الذين يحاولون استخراج شهادة حسن سلوك لهم من هذه التقارير.‏ والشاذ في الأمر، أنّ الولايات المتحدة أكثر دول العالم صخباً وضجيجاً بالحديث عن حقوق الإنسان وشعاراته، كما أنها الدولة الأكثر استخداما لورقة حقوق الإنسان في سياستها الخارجية، إلا أنها على صعيد الممارسة الفعلية تعد الدولة الأخطر على مر التاريخ التي انتهكت وتنتهك حقوق الإنسان، أما كل هذا الضجيج والصخب الأمريكي حول حقوق الإنسان لم يكن سوى ستاراً، أخفى خلفه نزعة التوسع والسيطرة التي تملكها.‏ 

حقائق بينتها الخارجية الروسية والصينية بوصفهما تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول وضع حقوق الإنسان في العالم بأنه مملوء بالقوالب الجاهزة ومبني على أساس المعايير المزدوجة.‏ وفي هذا السياق اعتبر السفير الروسي لدى الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف أن واشنطن تستغل قضية حقوق الإنسان لـ''تشويه سمعة النظم السياسية للدول التي لا تعجبها''. وكتب انطونوف عبر "تليغرام" مساء الثلاثاء 12/04/2022 أنه من الأجدى بواشنطن، قبل إدانة الدول الأخرى بانتهاك حقوق الإنسان والحريات، أن تحرص على حل مشكلاتها الخاصة، مشيراً إلى أن العنصرية ومعاداة السامية والإسلاموفوبيا وغيرها من مظاهر التعصّب آخذة في النمو في الولايات المتحدة، كما أن مظاهر كراهية الروس لا تزال موجودة على نطاق غير مسبوق. وتابع أنطونوف: "من الواضح أن المنشورات الدعائية للخارجية الأمريكية تهدف إلى تشويه سمعة النظام السياسي للدول التي لا تعجبها والحصول على ذريعة للتدخل في شؤونها الداخلية". وأضاف السفير: أستغرب حقيقة أن الولايات المتحدة لا تدعم القرار السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة ضد تمجيد النازية، مشيراً أيضاً إلى السياسات اللاإنسانية للسلطات الأمريكية بحق المهاجرين، وتكتّم واشنطن على حالات التعذيب والمعاملة اللاإنسانية للسجناء في معتقل غوانتانامو.

أما الصين فقد أكدت أنّ الولايات المتحدة تواصل استخدام حقوق الإنسان ومسألة العقوبات، كذريعة ووسيلة للضغط على الدول الأخرى وتهديدها، لافتة إلى أن ذلك يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، ويهدد الانتعاش الاقتصادي العالمي لهذه الدول، وفي هذا السياق قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان، في مؤتمر صحفي الأربعاء 13/04/2022، رداً على تقرير للخارجية الأمريكية يتهم الصين بانتهاكات حقوق الإنسان وقمع الحريات" إن الصين تعارض بشدة الاتهامات والتصريحات الكاذبة إضافة إلى محتوى التقرير المتعلق بالصين"، مؤكداً أن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ومحتوى التقرير تتجاهل الحقائق وتخلط بين الصواب والخطأ ومليئة بالأكاذيب السياسية والتحيز الأيديولوجي". وأوضح المتحدث، أن الحكومة الأمريكية تستخدم ما يسمى "تقارير حقوق الإنسان"، لتشويه سمعة الصين ومهاجمة العديد من البلدان والأماكن في العالم، في محاولة لتصوير نفسها على أنها قاضي حقوق الإنسان ومعيار حقوقه، وهذا يفضح فقط النفاق وازدواجية المعايير من الجانب الأمريكي. وشدد لي جيان، على أن الولايات المتحدة مليئة بالديون والجرائم في الداخل والخارج، وتعد حقوق الإنسان وعداً فارغاً لم تف به الحكومة الأمريكية إطلاقا، ولم تخطط لمحاربة فيروس كورونا بل شاركت في التلاعب السياسي وطالبت بتسريب الوباء في المختبرات، وسمحت لـ "فيروس العنصرية" في الولايات المتحدة بالانتشار مع الفيروس التاجي الجديد، ما أدى إلى تكرار حدوث جرائم الكراهية ضد الآسيويين. 

ولفت لي جيان، إلى أن الولايات المتحدة اتبعت على الدوام سياسات هجرة تمييزية، وانتهجت سياسة المعاملة اللا إنسانية، مثل الاحتجاز الطويل والتعذيب والعمل القسري، التي تهدد بشكل خطير حياة وكرامة وحرية المهاجرين، مشيراً إلى العديد من مشاكل عنف السلاح في الولايات المتحدة، وإنفاذ القانون غير العادل، وإساءة استخدام السجون وظواهر أخرى متكررة. وعلى الصعيد الخارجي، اعتبر المتحدث، أن الأعمال التخريبية والحروب، التي شنتها الولايات المتحدة، تسببت بموجة من اللاجئين والمهاجرين تجاوزت 20 مليون لاجئ ومهاجر، ولقي أكثر من 900 ألف شخص مصرعهم في ما يسمى حرب ''مكافحة الإرهاب''، مشيراً في هذا الصدد إلى أن العملية العسكرية الأمريكية في أفغانستان تسببت بمقتل أكثر من 100 ألف شخص، وخسارة 7 مليارات دولار أمريكي من الأموال التي خصصت للشعب الأفغاني.

في التحليل، وحسب خبرتنا، من الغريب أن تحاول الولايات المتحدة صاحبة أكبر سجل في انتهاكات حقوق الإنسان، أن تعطي الدول والشعوب والأمم دروساً في "حقوق الإنسان" وأن توزع شهادات حسن السلوك على من تريد! لقد كانت الولايات المتحدة خلال الـ 245 عاماً الماضية بعد إعلان الاستقلال في 4 تموز 1776، متورطة دائماً في الحروب باستثناء أقل من 20 عاماً، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 2001 وقع 248 صراعاً عسكرياً في 153 منطقة حول العالم، وشنت الولايات المتحدة 201 منها، وهو يمثل 80 بالمائة من جميع الحروب في جميع أنحاء العالم، كما تم استخدام الأسلحة الكيمائية المدمرة إلى أقصى حد. منذ عام 1945 إلى عام 2001 شنت الولايات المتحدة 3.6 حروب أو نزاعات مسلحة في المتوسط سنوياً، مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 5.8 مليون مدني، كما أدى سوء استخدامها للأسلحة الكيميائية إلى إصابة الناس بالسرطان وفقر الدم والتسبب في كوارث بيئية هائلة، فالحروب العدوانية التي شنتها الولايات المتحدة هي أصل الكارثة الإنسانية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية. وقد كلفت الحروب أيضاً الشعب الأمريكي ثمناً باهظاً، فقد قتل ما يقرب من 300 ألف جندي في أراض أجنبية خلال الحروب، وتم تشخيص إصابة ثلث الجنود المتقاعدين نتيجة حروب العراق والحرب الأفغانية بأمراض عقلية أو نفسية. تمت معارضة الحروب العدوانية الأمريكية داخل وخارج الولايات المتحدة، لكن السلطات الأمريكية تجاهلت ذلك في محاولة للحفاظ على مصالح الجماعات العسكرية والمالية.

إن الكوارث التي جلبتها الولايات المتحدة إلى كثير من بلدان العالم تكشف الطبيعة الحقيقية لمفهوم الولايات المتحدة لحقوق الإنسان،  فقد أشعلت الولايات المتحدة نيران التخريب والعنف باسم الديمقراطية باستغلال مفهوم حقوق الإنسان، وبهذا المعنى، فإنّ أمريكا ما زالت تستخدم مفهوم "حقوق الإنسان" كأداة من أدوات التدخل في شؤون الدول المناهضة لسياسات النهب الاستعماري بهدف إضعافها والسيطرة على مواردها، أو احتلال موقع جغرافي، أو لنهب النفط، أو لحرمان السكان الأصليين من حقهم في إدارة البلاد كما يحدث في العديد من دول العالم. فأمريكا هي التي تقرّر أين يُساء إلى حقوق الإنسان، ومن هي الدول التي تلتزم بها، حتى وإن كان هذا القرار يجافي الواقع إلى حدّ بعيد! وإذا ما قررت أمريكا أن تتجاهل انتهاكات وإساءات الدول "الصديقة" أي التابعة لها إلى حقوق الإنسان، فإنه لا يجرؤ أحد من السياسيين والإعلاميين على انتقاد أو ذكر هذه الإساءات والانتهاكات، وإذا تجرّأ أحد على فعل ذلك فسوف ينال نصيبه من العقاب من هذه الدول الغربية... 
 
إن حقوق الإنسان ربما تريح الضمائر حين تكتب في شكل مذكرة سنوية، لكن لا يمكن أن تحل مشكلة لأن المنوط بهم حل المشكلات الدولية يعرفون أنفسهم جيدا، وهم الدول التي تملك صنع القرار في مجلس الأمن الدولي لأن المشكلات في أساسها سياسية وبحاجة إلى قرار سياسي منصف وليس إلى تقرير يصدر روتينيا كل عام، ويحمل في طياته أهدافا غير إنسانية ويرمي إلى تخدير الشعوب تحاشيا من ردود أفعال انتقامية عنيفة تؤثر على مصالح واشنطن التي تعتبر نفسها راعية لحقوق الإنسان في العالم.‏‏ وصدق الرئيس الأمريكي الأسبق "كارتر" الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2002، حينما نشر مقالا في صحيفة ''هيرالد تربيون'' قال فيه:‏ ''إنَّ بلاده تخلت عن دورها التاريخي في الدفاع عن حقوق الإنسان حول العالم'' بل تجاوز ذلك ليقول بملء الفم: ''إن سجل أمريكا مُعيب، وإنها فقدت السلطة المعنوية للتحدث عن حقوق الإنسان وعن صون الحريات الشخصية حتى في الداخل الأمريكي''.‏