منذ اندلاع الثورة الليبية فى فبراير 2011 ظلت تداعيات هذه الثورة تنتج أثارها المدمرة على الداخل والخارج الليبى بشكل متصاعد، حتى اقترب الأمر لتصبح ليبيا إحدى الدول «المنهارة» أو «الفاشلة» فى ظل تزايد عدد الأطراف المتصارعة وإصرار كل طرف على الفوز بالسلطة دون منازع، ودعم فاعلين خارجين لبعض الأطراف دون غيرها، مع دخول حركات الإسلام السياسى على خط الصراع.

وكان لدول الجوار الليبى نصيب من هذه التداعيات، فقد أفرزت هذه الثورة جملة من التهديدات التى لم تكن فى الحسبان، من انتشار للأسلحة التى كانت ضمن ترسانة سلاح الراحل معمر القذافى، وانتشار المقاتلين الذين كانوا يحاربون ضمن الكتائب العسكرية له، هذا إلى جانب التراخى الأمنى على الحدود الليبية مما قدم فرصة ذهبية لكافة جماعات الجريمة المنظمة سواء العاملة بالتهريب وخاصة بتجارة المخدرات.

واستكمل هذا المشهد المروع باندفاع للجماعات الإرهابية التى رأت أن حالة الفوضى التى تعيشها ليبيا بيئة مناسبة لتجنيد العناصر وشراء السلاح بل والأخطر استخدام هذه الفوضى فى الانتقال إلى دول الجوار الليبى لتحقيق طموحات «تاريخية» فشلت فى مجرد التفكير فيها خلال العقود الماضية. ولم تكن الدولة الجزائرية بعيدة عن هذه التطورات، ففضلا عن دورها المحورى الذى اضطلعت به فى إطار القضايا الأفريقية والعربية وخاصة خلال العقدين الأخيرين، والذى يملى عليها التحرك فى اتجاه المشاركة فى تسوية الأزمات وخاصة فى الدول المجاورة لها، فإن التهديدات التى أصبحت تواجهها فى ظل تصاعد الفوضى فى ليبيا، دفعتها نحو البحث عن ترتيبات تحقق التوازن بين محددات سياستها الخارجية والتهديدات غير المألوفة التى بات يواجهها الأمن القومى الجزائرى.

محددات التدخل

فمن ناحية أولى، اعتمدت الجزائر على مجموعة من المحددات التى يمثل بعضها ثوابت فى تحركاتها الخارجية، فإلى جانب تأكيدها المستمر على رفض التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية للدول، حرصت الجزائر على ضرورة تفعيل المبادرات الإقليمية لتسوية الأزمة الليبية وبلورة شراكة لإيجاد السياق المقبول للتعامل مع الأزمة، مع تعدد أبعاد الحلول المطروحة (سياسية واقتصادية وأمنية، ...ألخ)، بعيدا عن التدخلات الدولية التى باتت من عوامل انفجار الأزمات فى القارة الإفريقية والمنطقة العربية، فى ظل عدم إدراك القوى الأجنبية لخصوصيات هذه المجتمعات. وقد برز ذلك جليا مع اجتماع قيادات عسكرية إقليمية (الجزائر ومالى وموريتانيا والنيجر) فى الجزائر، فى 6 يناير الجاري، لمناقشة تداعيات «تدخل عسكري» فى ليبيا، حتى لو كان ذلك محدودا كما تطلب فرنسا.

ومن ناحية ثانية، وفى ظل الخبرة التاريخية التى تمتلكها الجزائر فى التعامل مع الجماعات الإرهابية والتى كلفتها الكثير خلال عقد التسعينيات من القرن الماضى، يؤكد المسئولون الجزائريون مرارا رفض الحل العسكرى للأزمة فى ليبيا لأن الحل العسكرى قد يفضى إلى نتائج وخيمة لا يمكن استيعابها أو تداركها، وتجارب المواجهات العسكرية للجماعات المتطرفة فى أفغانستان والعراق والصومال خير دليل على ذلك، وقد حرصت الجزائر على طرح هذه الرؤية خلال الأزمة فى مالى إلا أن فرنسا لم تترك للجزائر مجال لفرض رؤيتها فى ظل إصرارها على استعراض قوتها العسكرية فى إطار إستراتيجيتها الجديدة للعودة إلى أفريقيا فى عهد الرئيس هولاند، إلا أن الفشل كان حليف الإستراتيجية الفرنسية فى أفريقيا ولم تفض الضربات العسكرية للجماعات الإرهابية إلا إلى انتشار عناصر هذه الجماعات فى الدول المجاورة لمالى، مع استمرار بعضها فى ظل الدعم الذى باتت تحصل عليه من مثيلاتها فى الدول الأفريقية الأخرى، وتكون مثلث الإرهاب الجديد الواقع بين 4 دول هى تونس، وليبيا، والنيجر والجزائر.

ومن ناحية ثالثة، وعلى المستوى الداخلى، حاولت السلطات الأمنية الجزائرية العمل على اتخاذ مجموعة من الإجراءات لتدعيم دفاعها والحد من التهديدات التى تأتى عبر الحدود مع ليبيا، وخاصة بعد تصاعد موجة العنف خلال الشهور الأخيرة، وورود معلومات تؤكد استيلاء الجماعات الإرهابية فى ليبيا على مجموعة من الطائرات، فقد سحبت الجزائر البعثة الدبلوماسية الجزائرية من العاصمة الليبية طرابلس، كما قامت بإغلاق المعابر الحدودية البرية مع ليبيا وقامت بنقل قوات عسكرية إضافية إليها، وسحب عمال شركة النفط الجزائرية سوناطراك، كما صادق المجلس الأعلى للأمن الجزائرى برئاسة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة فى سبتمبر الماضى على إجراءات أمنية وعسكرية جديدة لمواجهة احتمال تسلل عناصر مسلحة من ليبيا إلى الجزائر، وخلال الأيام القليلة الماضية قام الجيش الجزائرى بحفر الخنادق وتكثيف التواجد الأمنى على طول الحدود الشرقية مع الجارتين تونس وليبيا، وخاصة مع اقتراب ذكرى الحادث الإرهابى فى عين اميناس الذى اضطلعت به الجماعات الإرهابية فى يناير 2013.

كما نشرت السلطات ثلاث آلاف عسكرى بمنطقة القبائل (120 كم شرق العاصمة) فى مهمة لتعقب تحركات عناصر من جماعة «جند الخلافة فى أرض الجزائر»، المنشقة عن تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الاسلامى والتى أعلنت ولائها مؤخرا لتنظيم داعش. حيث تمكنت قوات الجيش الوطنى من قتل أمير هذه الجماعة عبد المالك قورى أو خالد أبو سليمان فى مدينة يسر بالقطاع العملياتى لبومرداس، والذى يقف وراء هجمات انتحارية على قصر الحكومة ومقر الأمم المتحدة فى العاصمة فى 2007، كما يقف أبوسليمان أيضا خلف هجوم قتل فيه 11 جنديا جزائريا فى أبريل الماضى فى قرية بودرارن، وهو احد المتهمين بخطف وقتل الفرنسى ايرفى غوردال فى جبال جرجرة فى سبتمبر الماضى.

ومع اقتناع المسئولين الجزائريين بضرورة الحل السياسى وأن الحوار الشامل بين الفرقاء فى الوطن الليبى هو الطريق للقضاء على دوامة العنف، واستعادة الدولة، بدأت الجزائر فى جمع القوى السياسية الليبية الراغبة فى الحوار. وقد كشف رئيس اللجنة الجزائرية الأفريقية للسلم والمصالحة، أحمد ميزاب، فى حوار أجراه فى شهر ديسمبر الماضى مع جريدة «الوسط» الليبية عن الاتصالات التى بدأتها السلطات الجزائرية منذ أكثر من ثلاثة أشهر مع أسماء بارزة من القوى السياسية الليبية، تمهيدا لإطلاق مبادرة الحوار، واستعانت الجزائر فى إطارها ببعض «الدول الصديقة» لترتيب لقاءات مع بعض الوجوه المتحفظة، أملا فى إنجاح مبادرتها، وهو ما دفعها للحفاظ على سرية مساعيها مثلما فعلت سابقا مع فرقاء الأزمة المالية.

وعن مضمون المبادرة الجزائرية، أكد أحمد ميزاب أنها تقوم على «جمع الفرقاء أولا، ثم إيجاد آلية لجمع السلاح الذى يشكل خطرا على الإخوة فى ليبيا من جهة وعلى حدود دول الجوار من جهة أخرى، والتحضير للمرحلة الانتقالية التى ستؤسس لآلية بعث مؤسسات دولة وتفعيلها، كما تضمنت المسودة تحديد المسئوليات والأولويات ومحاربة الإرهاب، والسعى نحو البناء فى شتى المجالات، أما بقية المطالب الأخرى فتتحدد مع ما يمكن أن تنتج عنه اللقاءات».

تحديات التدخل

إلا أن الجزائر فى سعيها لتسوية الأزمة الليبية بعيدا عن الحل العسكرى تواجه بالعديد من التحديات. فالأطراف الإقليمية بعضها غير مبالى بما يحدث فى ليبيا أو مكبل بالضغوط الغربية، فقد دعت مؤخر خمس دول من منطقة الساحل (تشاد ومالى والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو)، فى اجتماع عقد فى موريتانيا، الأمم المتحدة لتشكيل قوة دولية للتدخل عسكرياً فى ليبيا للقضاء على الجماعات المسلحة. فى الوقت الذى تفتقد فيه الدول المجاورة للجزائر للقدرات الأمنية والعسكرية، سواء فى مالى أو موريتانيا أو تونس، وهذا يفسر الإنفاق العسكرى الواسع النطاق الذى تشهده الجزائر.

هذا إلى جانب حالة التوتر الاجتماعى التى تشهدها مؤخرا بعض المناطق فى الجنوب الجزائرى، وهى احتجاجات شعبية مطالبة بتأمين المسكن والعمل والخدمات والتى يمكن استغلالها لإثارة الفوضى وشغل قوات الأمن بتهدئة الأوضاع فى هذه المدن. مع استمرار الضغوط التى تمارسها القوى الدولية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، للدفع بالجزائر للتدخل عسكريا فى ليبيا، ولو من خلال القيام بعمليات محدودة، فعلى الرغم من خبرة الدولتين فى مواجهة الجماعات الإرهابية والتى تؤكد على أن الاعتماد على الضربات العسكرية دون غيرها من آليات المواجهة تزيد من تعقيدات الصراع لأنها تؤدى إلى انتشار الجماعات الإرهابية فى رقعة جغرافية أوسع، كما تزيد من المتعاطفين والمنضمين تحت لواء هذه الجماعات فى ظل استمرار تردى الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وتزايد أعداد الرافضين للسياسات الغربية.

تصر هذه القوى على الزج بدول بعينها فى حربها ضد الإرهاب، فمع تصاعد التطورات فى ليبيا عقب عملية الكرامة التى قادها العقيد حفتر فى مايو الماضى، زادت التكهنات حول إمكانية تدخل الجيش الجزائرى وكذلك الجيش المصرى لاستعادة الاستقرار فى ليبيا، إلا أن المسئولين الجزائريين أصروا على إنكار هذه الاحتمالات ورفضها لأنها لا تصب فى مصلحة الدولة الجزائرية ولا حتى الدولة الليبية، واعتبر البعض أن المحاولات الخارجية للزج بالجيش الجزائرى أو «توريط الجزائر» فى الحرب فى ليبيا ما هى إلا محاولات لاستنزاف القدرات المالية والعسكرية للجزائر، فالقوى الغربية هدفها استغلال النفط الليبى واحتياطى الصرف الجزائرى الذى تجاوز فى مجموعه 300 مليار دولار.

تسهيلات عملياتية

لذلك لجأت بعض أجهزة المخابرات الأجنبية بإشاعة المخاوف حول تهديد تنظيم «داعش» للجزائر، لدفعها نحو المشاركة فى التحالف الدولى للقضاء على هذا التنظيم، وما كانت عملية اختطاف وإعدام الرهينة الفرنسى غوردال نهاية سبتمبر الماضى التى تبناها تنظيم «جند الخلافة» الموالى لتنظيم «داعش»، إلا محاولة لدفع الجزائر فى هذا الطريق، ثم جاء الطلب الأمريكى بالتعاون فى الحرب على داعش فى ليبيا ليستكمل هذه الخطة، فقط طلبت الولايات المتحدة فى نوفمبر الماضى من الجزائر ومصر وتونس تسهيلات عسكرية أثناء عمليات قصف جوى يتم التخطيط لتنفيذها ضد الجماعات الإرهابية فى ليبيا التى بايعت تنظيم «داعش». وتتضمن التسهيلات المطلوبة من الجزائر ومصر وتونس، السماح بمرور طائرات حربية والهبوط الاضطرارى للطائرات الأمريكية فى قواعد جوية جزائرية، فى إطار عملية عسكرية أمريكية تتضمن توجيه مئات صواريخ «كروز»، لأهداف تابعة لتنظيم أنصار الشريعة وبعض الكتائب السلفية الليبية، وتدمير البنية التحتية للجماعات السلفية الجهادية فى ليبيا. ويبدو أن الولايات المتحدة قدمت عبر دبلوماسيها، طلبا مماثلا للطلب الفرنسى الذى قبلته الجزائر فى نهاية عام 2012 لفتح ممرات جوية أمام الطيران الفرنسى لقصف مواقع الإرهابيين فى شمال مالى.

خطة بديلة

إلا أن الجزائر ووفقا لما ذكرته مصادر دبلوماسية جزائرية قد تحفظت على التسهيلات الأمريكية المطلوبة وقدمت اقتراحا بخطة بديلة لخطة واشنطن ضرب داعش فى ليبيا. وتتضمن أن يتم منح الجزائر مزيدا من الوقت لجمع الفرقاء الليبيين على أراضيها وعقد مفاوضات بينهم للاتفاق على حل سلمي. ولا يمكن فصل ما طلبته الولايات المتحدة من دول الشمال الأفريقى من تسهيلات عما صدر عن اجتماع بروكسل الأخير الذى عقد فى الرابع من ديسمبر الماضى حول الحرب على داعش من بيانات أهمها اتفاق المجتمعين على فتح مرحلة جديدة للحرب على داعش بما تتضمنه من توسيع جغرافى لدائرة الحرب.

فهل ستنجح الجزائر فى مساعيها لتحقيق تسوية سلمية للأزمة فى ليبيا، باعتمادها على قدراتها السياسية وخبراتها فى التعامل مع الحركات الإسلامية، ومساندة بعض الدول الصديقة لها، أما أن تطورات الأحداث المتسارعة فى ليبيا، وتصاعد التهديدات التى تواجهها الدولة الجزائرية وخاصة على حدودها الجنوبية الشرقية القريبة من مناطق صناعة النفط، قد يرجح الطرح الغربى ويفضى فى النهاية إلى إلى تدخل دولى جديد فى ليبيا قد ينهى ما تبقى من آمال لعودة الاستقرار مجددا إلى ليبيا، ويمثل تهديدا لكل دول الجوار الليبى التى لن تصبح بمنأى عن الفوضى أو عن مرمى الضربات العسكرية الدولية ؟.

-الأهرام المصرية