عندما كانت وسائل الإعلام الأجنبية تنقل تطوّرات الأحداث في ليبيا عام 2011، كانت أصوات الإسلام السياسي وأذرعها الإعلامية تسوّق بأن "ثورة" تحصل سيرا على ما وقع في الجارتين تونس ومصر. الكثيرون وقتها أخذهم الحماس بسبب التجييش الكبير الذي قامت به بعض القوى الإقليمية والدّولية الرافضة لخيارات العقيد معمّر القذّافي، وقد استعملت في ذلك كل الوسائل لجعل الأمور تتجه نحو مسارات خطيرة كان أخطرها دخول التيارات الجهادية على خط المعركة في مشهد كان ينبئ منذ تلك اللحظة أن ليبيا قادمة على فترة صعبة سيكون الإرهاب والفوضى شعارها الأساسي.

خلال الأيام الأولى للحرب في ليبيا، ذكرت مصادر إعلامية إن مجموعات إرهابية استولت على مستودعات الأسلحة الليبية الموجودة في مختلف مدن البلاد. كانت تلك المصادر تشير إلى تحركات تنظيم القاعدة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. سمحت الأوضاع بعد هجمات الناتو في فتح البلد على مصراعيه أمام الفوضى وهي الفرصة التي تبحث عنها المجموعات الجهادية باعتبارها تعيش على تلك الظروف.

الجماعة الليبية المقاتلة تعتبر التعبيرة الواضحة للعناوين الجهادية الليبية منذ ثلاثة عقود. الجماعة التي أعلنت ولاءها للقاعدة في 2007، كانت مشاركة بشكل مبكّر في معارك العام 2011 من خلال مشاركة المئات من عناصرها فيها كقيادات عليا تسيّر المعارك وتتواصل مع قوى الدعم الإقليمية في توفير المال والسلاح. وقد أثبتت "المقاتلة" في أحداث "فبراير" أنها مازالت وفيّة لأفكارها الجهاديّة وما كذبة المراجعات التي قامت بها إلا عمليّة تمويه سرعان ما كشفت في أول امتحان.

يعتبر عبد الحكيم بلحاج زعيم تاريخي للجماعة الليبية المقاتلة. القيادي الملتحق بشكل مبكّر بمجموعات الجهاد الأفغاني في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، كان من أوّل المشاركين في معارك 2011، من خلال قيادته للمجلس العسكري في طرابلس. واعتبارا لأن المعارك في فترته الأولى كانت شرق البلاد، فإن بلحاج بقي خارج دائرة الضوء إلى أن ظهر أياما قليلة قبل إسقاط النظام، معلنا وهو محاط بعشرات المسلحين ما سماها في ذلك الوقت "عملية تحرير طرابلس".

من بين قيادات الجماعة المقاتلة التي رفعت السلاح في وجه الدولة الليبية في 2011 برز اسم عبد المنعم الحسناوي، الذي يعتبره كثيرون من أخطر العناصر الجهادية في ليبيا. الفرق بين الحسناوي وبلحاج أن الأول بقي متصالحا مع فكره العنيف ورفض فكرة التراجع عنها ما أبقاه في السجن إلى أن انفلتت الأوضاع ونجاحه في الخروج من السجن. تقول عدّة مصادر أن كان دخل مباشرة في محاربة الجيش الليبي أيام "الثورة" وبقي متبنيا لفكره الجهادي إلى أن اتجه إلى سوريا للقتال إلى جانب تنظيم جبهة النصرة الإرهابي.

في معارك العام 2011، ظهر اسم الجهادي اسماعيل الصلابي من بين المقاتلين أصحاب التاريخ الكبير في الارتباط بتنظيم القاعدة. قالت بعض المصادر إنه ظهر في بعض الفيديوهات وهو يرفع السلاح في وجه الجيش الليبي في مدينة بنغازي وتلحقه في تلك الفترة تهم الاغتيال لبعض المسؤولين السياسيين والأمنيين في فترة نظام القذافي. أسس الصلابي بعد 2011 ما يعرف بكتيبة "راف الله السحاتي"، التي تلقت تمويلات كبيرة من قطر.

الإخوان المسلمون الذي سوقوا في العشريات الأخيرة أنهم دعاة سلم وحاملي فكري معتدل بدورهم كشفتهم أزمة "فبراير"، بعد أن كشف قياديوهم عن وجوههم الحقيقية من خلال دعواتهم للقتال ضد الدولة الليبية، حيث كانت منابرهم دعوات مستمرة للتكفير وخطابات العنف في صورة تشكف تقيّة السنوات الطويلة. ويكفي أن يستعيد المتابع ما قام به قياديو الإخوان الليبيون من الصلابي والغرياني وغيرهما لاكتشاف الأفكار الحقيقية للتنظيم التي تختلف عن بقية التنظيمات إلا في جزئيات صغيرة في إطار البحث عن التموقع في المواقع المريحة داخليا وخاصة خارجيا.


بين تلك التنظيمات والشخصيات الجهادية كانت ليبيا تعيش مرحلة جديدة من الفوضى، تعيش فيها إلا الأفكار المتطرفة. أفكار كان ضحيتها جنود ليبيون لا ذنب لهم إلا الدفاع عن وطنهم ضد خيارات خارجية وجدت في أوضاع المنطقة فرصة للانقضاض على نظام العقيد معمّر القذافي.

الإشكال في صعود المجموعات المتطرفة في ليبيا، أنه كان سببا في اندلاع حرب بلا عناوين مازالت تعاني تبعاتها إلى اليوم، حيث اكتشف من شاركوا في "الثورة" ورطة التغرير بهم في معارك لا رابح فيها إلا الإرهاب وداعميه، وتفاجأوا بمجرّد الإطاحة بالنظام أن عناوين جديدة خرجت رافعة شعارات القاعدة وتنظيمات التطرّف التي تمارس أبشع الجرائم ضد مخالفيها.

كانت لحظة 2011، مفصليّة في التاريخ السياسي الليبي. الحالة لم تكن مجرّد إسقاط نظام سياسي وتغييره، بل كانت فتحا للبلاد أمام كل عناوين الإرهاب التي لم تكن تحلم أن تقترب من الخريطة الليبية مجرّد الاقتراب. في فبراير 2011، أصبحت ليبيا بسبب تكالب الأعداء وتواطؤ الأشقاء فضاء مريحا للإرهاب والإرهابيين الذي وجدوا في حالة الفوضى فرصة تاريخية للاستقطاب والتغرير بالشباب الليبي الذي ذهب العشرات منه ضحايا لذلك الفكر إما قتلا أو سجنا.