يحكى أن.. في جزء ليس ببعيد من الشمال الغربي لليبيا، بين خطي طول (15.00 و15.30) شرقاً، وما بين دائرتي عرض (32.00 و32.30) شمالاً، تقع مدينة ليبية تاريخية عـــريقة، تمتد جنوب مدينة مصراتة على بعد 38 كم ويـحدها من الشرق "خليج سرت" ومن الغرب الحدود الإدارية لبني وليد ومن الجنوب الحدود الإدارية لسرت، وتتخذ شكلاً أقرب إلى المثلث، قاعدته في الشمال ورأسه في الجنوب، تسمى بـ "تاورغاء". 

ويقال إن كلمة تاورغاء هي في الأصل كلمة أمازيغية تنطق "طامورط تاءوراغت" وتعني الجزيرة الخضراء أو أرض خضراء (تاورغات) لأنها على شكل جزيرة خضراء بفعل العين الشهيرة والسواقي المتفرعة منها في مختلف الاتجاهات وهذا ما يسمى البلدة القديمة، كما يقال إن "تاورغا" هي لفظة أمازيغية مشتقه من الجدر (أورغ) بمعنى اللون الأصفر الذهبي، ومنها اشتق اسم بني تاوغا أحد بطون هوارة، وتاورغا تعني عشب رعويّ مصفر. 

مرت هذه المدينة -تاورغاء-بالعديد من المحن عبر مر العصور، بداية من الحملات العباسية إلى الاحتلال الايطالي لليبيا مرورا بـ معركة فندق الجمل، ومعركة السوق القديم، وصولا إلى نشوب عداوة بينها وبين مدينة مصراتة سنة 2011، تسببت في تهجير أهالي تاورغاء من المدينة لنحو 7 سنوات، إلى أن تم توقيع ميثاق صداقة بين البلدتين في 3 يونيو 2018 لعودة أهالي تاورغاء لمدينتهم.


تاورغاء والمياه السوداء

واليوم تتجدد المحن، وذلك بعد أن تعرضت مدينة تاورغاء لواحدة من أخطر الكوارث البيئية نتيجة لانتشار مياه الصرف الصحي -المياه السوداء-بها مما تسبب في انتشار الأمراض والأوبئة المختلفة، ولعل ما يزيد من تأثير تلك الكارثة هو تكدس القمامة والنفايات الأمر الذي يعكس صورة قاتمة لكارثة بيئية قد تنفجر في أي لحظة لتقضي على الأخضر واليابس. 

ويخشى مواطنو المدينة من انتشار الأوبئة والأمراض إثر استمرار تفريغ المياه السوداء وتفاقم الوضع البيئي، والذي سيؤثر بشكل كبير في زيادة تدني الجانب الصحي هناك، ومن أكثر الأمراض التي أصابت المواطنين نتيجة لكثافة المياه السوداء، مرض اللشمانيا.


التعريف بالمرض.. اللشمانيا

يعتبر داء الليشمانيات مرضاً شائعاً جدا في العالم، على اختلاف أنواعه، الباطنية والجلدية، ومن أكثر الأنواع انتشاراً هو داء الليشمانيات الجلدي.

يصيب داء الليشمانيات الجلدي، الجلد ويؤدي إلى ظهور جروح متقرحة يصل قطر الواحد منها إلى بضعة سنتيمترات، وتدوم لأشهر طويلة على الرغم من العلاجات المختلفة، وينجم داء الليشمانيات الجلدي عن اختراق طفيليات أحادية الخلية من نوع الليشمانيات إلى الجلد، إثر تعرض المصاب للدغة / لسعة من أنثى ذباب الرمل (من عائلة الفواصد)، لذلك تكون المناطق المعرضة للإصابة هي مناطق الجسم التي تكون غير مغطاة، عادة، مثل منطقة الوجه والأطراف.

ولتسليط الضوء بشكل أكثر تركيز، على مرض اللشمانيا في مدينة تاورغاء تواصلت بوابة إفريقيا الإخبارية مع مدير إعلام المركز الوطني الليبي لمكافحة الأمراض د. محمد الجازوي، والذي أوضح أن الليشمانيا مرض مستوطن في ليبيا منذ عديد السنوات وهو مرض ليس بجديد، حيث بلغت الإحصائية العامة في العقود الثلاثة الأخيرة إلى ١٠٠ ألف حالة. 

وقال الجازوي، "الليشمانيا نوعان الأول، الليشمانيا الجلدية وهي تنتشر في شمال غرب ليبيا مثل تاورغاء نظرا للبيئة المناسبة للقوراض الخازنة لمرض الليشمانيا (الجربوع البري) من جهة والحشرة الناقلة للمرض من ناحية أخرى (ذبابة الرمل)، يظهر هذا المرض على هيئة تقرحات جلدية وتترك ندب وتشوهات في حال عدم علاجها. 

وتابع قائلا "النوع الثاني، هو الليشمانيا الحشوية، وينتشر عادة بين الأطفال في شمال شرق ليبيا والجنوب، ويسبب تضخم في الطحال والكبد، وهو النوع الأخطر لأنه يسبب في الوفاة إذا لم يتوفر العلاج، ولله الحمد نسبة انتشاره بحسب الاحصائيات قليلة جدا مقارنة بالليشمانيا الجلدية".

وبسؤاله عن أسباب ارتفاع أعداد المصابين بالمرض، أجاب الجازوي "سبب تزايد حالات الإصابة يرجع إلى توقف برنامج المكافحة الذي كان ينفذه المركز الوطني لمكافحة الأمراض والذي يعتبر من أقوى البرامج على مستوى العالم، لعدم دعم هذا البرنامج بعد ٢٠١١، مما أدى إلى توقف البرنامج فأصبح دور المركز الوطني فني بحت ويقدم الاستشارات الفنية للبلديات التي يستوطن فيها المرض،،، وأضاف لا يوجد علاج للمرض إلا علاج البينتوستام، ولا صحة للذين يروجون أن لليشمانيا علاج بالأعشاب، ويرجع سبب نقص الدواء إلى تعقيد الدائرة المستندية من الدولة الليبية وعدم ترتيب الأولويات في شراء الأدوية حسب احتياجات الدولة، ما جعل المركز الوطني لمكافحة الأمراض يتعامل مع منظمة الصحة العالمية عن طريق إدارة الصيدلة وتمكن من جلب أولى شحنات علاج المرض، وستكون هناك شحنات أخرى ستصل إلى البلاد قريبا، والشحنة الأولى تم توزيعها بالكامل على البلديات الموبوءة بالمرض ومنها بلدية تاورغاء حسب الإحصائية التي قدمها مندوب تاورغاء، وسيكون هناك شحنات أخرى للبلدية وباقي البلديات".

وفي السياق، كشفت مستشفى تاورغاء العام، أن عدد الحالات المصابة بمرض اللشمانيا خلال الموسم الماضي عام 2018 بلغ 410حالة، وأن عدد الحالات التي أصيبت بالمرض خلال الموسم الحالي 2019 تجاوز الـ 700حالة، حيث سجلت المستشفى خلال الأسبوع الماضي نحو 200 حالة.

وأكدت المستشفى، أن من ضمن أسباب ارتفاع أعداد حالات الإصابة بالمدينة هي فقدان المناعة لدى سكان تاورغاء بعد نزوحهم لنحو ثماني سنوات.


اللشمانيا في تاورغاء والسلطات

وعقب تفاقم أزمة اللشمانيا في تاورغاء، التقى رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج، مع رئيس المجلس المحلي تاورغاء عبدالرحمن الشكشاك، لبحث ملف انتشار لمرض اللشمانيا ونقص الاحتياجات التي تدعم الاستقرار بالمدينة وسبل توفير العلاج لمرضى اللشمانيا المنتشر بالمدينة والعمل على مكافحة القوارض وأسبابها، وعلى الفور أصدر السراج تعليماته إلى وزراء الصحة، والحكم المحلي، بالوقوف على احتياجات مدينة تاورغاء وأهمها إنهاء ملف المفقودين ونقل المخلفات، وإيقاف صب مياه الصرف الصحي بالمدينة.

وعلى الجانب الأخر، التقى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، مع عضو مجلس النواب عن مدينة تاورغاء جاب الله الشيباني رئيس لجنة النازحين والمهجرين بمجلس النواب، والنائب صالح افحيمه مقرر اللجنة، وعميد بلدية تاورغاء عبدالمولى اعظومه، لمناقشة احتياجات بلدية تاورغاء لإعادة اعمارها واستقرارها بتنفيذ عديد المشروعات الحيوية من صيانة مقارات ادارية ومساكن وتوفير مياه وكهرباء وصيانة وتعبيد طرق. 


اتهامات ومناشدات 

وقال عضو مجلس النواب جاب الله الشيباني، في حديثه لـ "بوابة إفريقيا الإخبارية" حول انتشار مرض اللشمانيا في المدينة، "إن قيام سيارات الصرف الصحي ومخلفات المصانع من مصراتة بالقدوم إلى مدينة تاورغاء لتصب سمومها وأحقادها فيها، هو بمثابة شهادة وفاة للمنظومة الأخلاقية بما تمثله من قيم عليا ومثل سامية وأخلاق نبيلة، خلل واضح في الفطرة السليمة، انهيار مروع وفظيع ومخيف لقيم "الحق والخير والجمال" التي نادت بها الديانات السماوية والفلاسفة والمصلحين... نعم هم في غفلة عن الله والرسول وتعاليم الإسلام، هم في ظلام دامس، ختم الله على قلوبهم، أعمى الحقد البصر والبصيرة، هم في حاجة ماسة لعلاج نفسي ورفع مستوى الإيمان بالله في نفوسهم. هذا المشهد القبيح الذي تشهد عليه المنظمات الدولية وسفارات الدول الفاعلة التي خاطبناها ووثقنا ذلك بالصور عما يجري من فساد وخراب وعبث في بلدتنا الطيبة، هذه المنظمات والدول التي يدين أغلب أهلها بالمسيحية لابد أنهم يتسألون عن ديانة الفاعلين والصامتين والمتفرجين ويمكن أن يتعدى ذلك إلى الشك في انتماءهم إلى الإنسانية ... تأتي هذه السيارات من مدينة يرتفع التكبير والاذان في المساجد والقرآن يتلى في كل بيت ويوم الجمعة تكتظ المساجد بالمصلين الراكعين الساجدين، وينطلق من مطارها الالاف من حجاج بيت الله الحرام، يا لها من مصيبة. والذي نفسي بيده لو أن أحد العقلاء في مصراتة كان مسلما حقا وصرخ بأعلى صوته وذكر العابثين بحساب الله وغضبه على المفسدين لكان خير له من صلاة وصيام وحج وزكاة"، وذلك بحسب تعبيره.

وتحت شعار (اوقفوا قوافل الموت القادمة من مصراتة)، قال رئيس مؤسسة تجمع شباب تاورغاء يوسف عكش، "إنه وفي الوقت الذي هبت علينا رياح المصالحة بين تاورغاء ومصراتة والتي فرح بها كل الليبيين، والتي انتهت بتوقيع اتفاق في 31أغسطس 2016 وتبعه ميثاق وقع بين تاورغاء ومصراتة يوم 3 يونيو 2018، والذي اعترضت عليه منظمات حقوق الإنسان في الداخل والخارج لأنه لا يرتقي لأبسط مبادئ حقوق الإنسان، حتى انقلب الفرح إلى حزن، حيث وبمجرد التوقيع بدأت العشرات من قوافل الموت (سيارات الصرف الصحي والقمامة ومخلفات المستشفيات) لتفرغ حمولتها في مدينة تاورغاء، وبشكل يومي مما أدى إلى تكون بحيرات من المستنقعات السوداء والتي بدورها أصبحت مصدرا رئيسيا للأمراض.

وتابع في حديثه الخاص لـ "بوابة إفريقيا الإخبارية" قائلا "ومع ذلك... وبدلا من أن ترسل مدينة مصراتة الشركات والمهندسين ورجال الأعمال لإعادة بناء تاورغاء، كبادرة أخوية، أصبحت سيارات الصرف الصحي والقمامة تذهب إلى تاورغاء بشكل علني وبعلم كل الجهات الحكومية في مصراتة، متجاوزين كل الأعراف والديانات السماوية، ونحن شخصيا حذرنا من هذا العمل الظالم، والآن أصبح شبح الأمراض الجلدية الفتاكة والملاريا والأمراض غير المعروفة يلاحق أبناء المدينة يوما بعد يوم، وللأسف استقبل مستشفى تاورغاء يوم الجمعة الموافق 11 أكتوبر 2019 أكثر من 150 حالة إصابة بمرض اللشمانيا.. ناهيك عمن عالج في أماكن أخرى". 

وأضاف عكش، "اليوم نجدد تحذيرنا من مغبة استمرار قوافل الموت، ونكرر الدعوة إلى أهلنا ومسؤولينا في مصراتة بإيقاف قوافل الموت إلى تاورغاء، وندعو المنظمات الدولية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية بضرورة زيارة مدينة تاورغاء المنكوبة...للوقوف على هذه الكارثة الغير طبيعية واتخاد ما يلزم حيالها، وندعو كل المسؤولين في ليبيا للوقوف بجدية اتجاه كارثة ستقضي على تاورغاء ومجاورها وربما كل ليبيا". 

كما وجه مقرر لجنة الأزمة تاورغاء أحمد شرتيل، مناشدة - عبر بوابة إفريقيا الإخبارية- إلى كل الحكومات والمنظمة الدولية المنطوية تحت بعثة الأمم المتحدة لدعم في ليبيا، قائلا لهم "المسؤولية القانونية والأخلاقية تقع على عاتقكم وأنتم من اتخذتم قرار 1970 لحماية المدنيين، وتاورغاء بعدما كانت منكوبة، تحولت الآن إلى كارثة بسبب تقاعسكم وعدم مد يد العون لها والتزامكم الحياد بل الصمت باسم التوافق الذي لم ينفذ بعد أن تحولت تاورغاء لمكب للنفايات العضوية منها وكيميائية والآبار السوداء ومخلفات المصانع وركام المباني وجيف الحيوانات".

المنظمة الليبية لحقوق الإنسان، من جانبها قالت إنها تتابع بقلق بالغ ما تتعرض له البيئة الطبيعية في مدينة تاورغاء، من خلال إفراغ حمولة سيارات الصرف الصحي القادمة من مدينة مصراتة في تاورغاء، لافتة إلى أن هذه الأفعال تعد انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وتعرض حياة المدنيين للخطر، مؤكدة تعرض الكثيرين من الأطفال لأمراض جلدية خطيرة.

هذا وناشدت المنظمة الجهات المسؤولة في مصراتة، والمجلس الرئاسي، وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والمركز الوطني لمكافحة الأمراض، أن تتخذ الإجراءات العملية لإنهاء هذه المأساة، والتي تمس الحياة والصحة العامة.