يعكس قانون العزل السياسي المثير للجدل نهجا كلاسيكيا من أجل 'تطهير' الساحة السياسية، وبموجبه تم منع أي مسؤول ليبي له صلة بنظام القذافي من تولي الوظائف العمومية. يبدو الأمر عاديا في ظاهره: إذ لِمَ القيام بثورة على الإطلاق إذا كانت ستسمح لعملاء النظام السابق بالعودة إلى وظائفهم؟ هذا هو المنطق، لكن القانون المذكور لم يخلق سوى المزيد من المشاكل بدلا من الحلول.
صدر هذا القانون 'القاسي' تحت ضغوط الميليشيات الإسلامية والجماعات المسلحة القوية بمدينة مصراتة، أو ما يُعرف بائتلاف فجر ليبيا. حيث يرى الإسلاميون في القانون وسيلة لإقصاء منافسيهم من الساحة السياسية وضمان هيمنتهم على مؤسسات الدولة. وبعزفهم على وتر الحفاظ على الثورة من أزلام النظام البائد، تمكنوا من كسب تأييد الميليشيات القوية المتمركزة في مدينة مصراتة، ما حسم بتمرير القانون لصالحهم.
لقد كشف هذا القانون عن وقائع سياسية هامة. أولا، علينا الأخذ في الاعتبار أن الانتفاضة ضد القذافي نجحت أساسا بفضل انشقاق العديد من المسؤولين أتباع الديكتاتور (أو المسؤولين السابقين) الذين انضموا لقوى الثورة. وقد أضحى الكثير منهم فاعلين مؤثرين يحظون بشعبية كبيرة في مرحلة ما بعد الثورة، مثل رئيس الوزراء المؤقت محمود جبريل (الذي حصل حزبه على أكبر عدد من الأصوات في انتخابات 2012) ومصطفى عبد الجليل، رئيس الحكومة المؤقتة.
ثانيا، وربما الأهم، استهدف القانون جميع المسؤولين في نظام القذافي بدلا من استهداف الشخصيات والمسؤولين المتورطين في قضايا الفساد والقضايا الجنائية. فكل من كان يشغل منصبا في الحكومة السابقة استُبعد بشكل تلقائي من العمل في أي وظيفة عمومية جديدة. وقد اتسع نطاق تطبيق القانون بحيث أصبح يستهدف حتى الوظائف الصغيرة المحلية في قطاعات مثل الصحة والتعليم والأمن، ما حرم هذه المؤسسات من الموارد البشرية الضرورية لاستمرارية العمل فيها. وكثيرة هي التي تقف الآن على حافة الانهيار.
ثالثا، أثار القانون مشاعر من الظلم والإقصاء والتهميش بين المدن والقبائل التي كانت مقربة من نظام القذافي، ما زاد من تأجيج الحرب الأهلية الدامية في البلاد.
لهذه الأسباب، فمعارضة قانون العزل السياسي لم تكن وليدة اللحظة. فقد سبق لأعضاء برلمان طبرق أن طالبوا منذ فترة طويلة بإلغائه، وتسارعت هذه الدعوات في الأسابيع الأخيرة، مع انطلاق محادثات السلام بوساطة من الأمم المتحدة. وكانت معظم الشخصيات والفئات المتضررة من قبل هذا القانون تسعى للتوصل لأي اتفاق من شأنه معالجة مسألة العزل لصالحهم.
في ليبيا اليوم، هناك أيضا من هم غير راضين عن إلغاء هذا القانون، وخاصة داخل الائتلاف الإسلامي فجر ليبيا. إن إلغاء هذا القانون من شأنه تعزيز مكانة المتطرفين في التحالف، أولئك الذين يدعون أن الثورة تواجه تهديدا وجوديا، وأن مسألة حفظها لن يتأتى سوى بانتصار عسكري حاسم. ومن جهة أخرى، فإن المعتدلين في تحالف فجر ليبيا، الذي تم إقناعهم بالمشاركة في محادثات الأمم المتحدة، يشعرون بالحرج، بسبب إضعاف موقفهم. إنه وضع خطير قد يهدد بشكل كبير نجاح مسلسل الحوار.
ومن بين الذين رحبوا بإسقاط القانون، المؤيدون المتشددون لعملية الكرامة، وهي الحملة العسكرية التي يقودها الجنرال خليفة حفتر ضد الإسلاميين. ويسعى الجنرال لتولي قيادة القوات المسلحة الليبية، وهو احتمال بعيد المنال في ظل قانون العزل ما دام قد شارك في انقلاب 1969 الذي جاء بالقذافي إلى السلطة. (أما كونه عارض القذافي في ثمانينيات القرن الماضي وقضى عشرات السنين في المنفى، فذلك لا يشفع له وفقا لأحكام قانون العزل السياسي القاسية). أما رئيس الوزراء جبريل وأنصاره، فسُيسرون بعودته إلى الحياة السياسية.
وهناك آخرون رحبوا بإلغاء قانون العزل السياسي لأنه سيخفف من النقص في الكوادر المؤهلة لتسيير مؤسسات الدولة. حيث وصف وزير الداخلية عمر السنكي، في إحدى المقابلات التي أجراها مؤخرا، القانون بأنه "خطأ كبير". بل وذهب إلى حد الترحيب بعودة المسؤولين المُبعدين، "لا سيما [في] قطاع الأمن"، إلى وظائفهم السابقة.
إن إلغاء قانون العزل السياسي، وإن كان مثيرا للجدل ولن يمر دون مخاطر، إلا أنه خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح. فتكريس مبادئ الشمولية والمصالحة والتعايش السلمي في أي اتفاق سلام محتمل ليس إلا خطوة إيجابية. وإذا كان هذا التحرك سيساعد على مناهضة سياسة الإقصاء التي حلت بالحياة السياسية في ليبيا على مدى السنوات الماضية، المثخنة بالاضطرابات والحروب، فقد تُكتب للثورة الليبية فرصة أخرى.