ثمانية أشهر بعد "صفعة نويي"، يتواصل حوار الطرشان بين الرباط وباريس ومرة أخرى أزمة الثقة المتواصلة... إلى أجل غير مسمى.

"نحن بحاجة لبعضنا البعض، المغرب بحاجة إلى فرنسا وفرنسا بحاجة إلى المغرب. آمل أن يستمر بلدانا، ليس فقط، كشريكين استثنائيين، بل أن يرتقيا إلى مزيد من التعاون في جميع المجالات". كانت تلك كلمات هولاند بمناسبة افتتاح معرض حول المغرب المعاصر في 14 أكتوبر بمعهد العالم العربي في باريس، أمام الأميرة للا مريم، شقيقة الملك محمد السادس، التي كانت تتابع باهتمام خطاب الرئيس الفرنسي. "يا له من إعلان حب!" يندهش أحد الحاضرين ويبدأ بالتصفيق. "نعم، لكن، هل سيسمع المغاربة هذا الغزل؟"، يرد عليه آخر.

منذ "حادثة نويي"، في كل اللقاءات بين أعلى المسؤولين في البلدين، كانت الآمال في المصالحة تتغذى في كل مرة، لكن حتى الآن، قابل المغاربة الخطب الفرنسية التي تتغزل بالعلاقات التاريخية بين البلدين بلباقة وحذر شديدين. فمنذ 20 فبراير الأخير، تكسر عنصر أساسي في العلاقات الفرنسية-المغربية، إنه عنصر الثقة.

في ذلك اليوم، اقتحمت الشرطة الفرنسية مقر إقامة سفير المملكة إلى باريس لتسليم استدعاء موجه لرئيس المخابرات المغربية، عبد اللطيف الحموشي، الذي اتُهم بـ"التواطؤ في التعذيب". وهي خطوة اعتبرها المغاربة بمثابة خيانة من قبل بلد صديق يحظى بمكانة رفيعة لديهم. "لم يرجعوا إلينا بسرعة لتوضيح المشكلة. فبالنسبة إليهم، كان ذلك حادثا مؤسفا، بينما شعرنا من خلاله بالإهانة"، يقول مصدر دبلوماسي مغربي.

بعد ستة أيام، وبالضبط في 26 فبراير، وقع حادث اعتبرته باريس عاديا، لكنه حرك أزمة دبلوماسية بين البلدين: حين قرر المغرب تعليق التعاون القضائي مع فرنسا، بما في ذلك اتفاقية 10 أغسطس 1981 الخاصة بالتعاون القضائي. ما اعتُبر تحولا سلبيا في ظل تراكم الكثير من الملفات والقضايا في هذا الجانب بين البلدين. منذ ذلك الوقت والحوادث تتعاقب وسوء الفهم يتفاقم في الوقت الذي كان من السهل تجاوز مثل هذه العثرات دون تشنج. في ظل هذا الاستياء، لم يفوت المغرب أية فرصة لمعاتبة شريكه الفرنسي على السلوك الذي اعتبره المغرب غير ودي، بل استفزازيا.

 

لقاء عبد الإله بنكيران ومانويل فالس في مناسبتين

 

وقد بدأت محادثات حول مراجعة الاتفاقية القضائية، من أجل "تجنب وقوع مثل هذه الحوادث مرة أخرى"، في الرباط تحت قيادة الأمينين العامين لخارجية البلدين، ناصر بوريطة، من الجانب المغربي وبيير سلال، من الجانب الفرنسي. وتم التأكيد على أن  المحادثات جرت على مختلف المستويات، حتى على مستوى رؤساء الحكومتين، حيث التقى عبد الإله بنكيران ومانويل فالس في مناسبتين، الأولى في 8 سبتمبر بتونس، على هامش مؤتمر "الاستثمار في تونس"، والثانية في 15 أغسطس بتولون بمناسبة الذكرى السبعين لعملية دراغون.

هذا علاوة على تحرك قنوات أخرى موازية من قبيل المشاركة النشيطة لإيليزابيث جيجو، وزيرة العدل السابقة ورئيسة لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية، وجاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي، وكلاهما تربطه بالمغرب علاقات قوية. وذلك بالرغم من أن فرسان الصداقة الفرنسية-المغربية، واللوبي التابع لهم، لم يجرؤوا على التدخل في هذا الملف خوفا من اتهامهم بالتدخل في عمل القضاء.

في بداية المفاوضات، اقترح الجانب الفرنسي منح الحصانة الدبلوماسية لكل المسؤولين المغاربة الكبار الراغبين في السفر إلى فرنسا لتفادي أية مفاجآت غير سارة على أراضيها. "إنها آلية موجودة ويمكن استخدامها في حالة الضرورة"،  يقول مصدر مقرب من الدوائر الدبلوماسية الفرنسية. لكن، منذ حادثة الحموشي، تعلم المغاربة توخي الحذر في كل خطوة، فكان جوابهم بالرفض. "إنهم يريدون أن يكون للعدالة المغربية الحق في النظر في جميع الشكاوى التي تهم كبار المسؤولين في المملكة"، يقول مصدرنا الفرنسي.

لكن هذا الطلب يطرح مشكلة دستورية. "حتى لو تم إقراره من قبل البرلمان، فإن هناك احتمالا كبيرا جدا أن يتم رفضه من قبل المجلس الدستوري لأنه ينتهك مبدأ الاختصاص العالمي"، يوضح لنا الجانب الفرنسي. يدخل الاختصاص العالمي أو الخارجي في إطار القانون الدولي الذي يسمح للدولة باستدعاء وملاحقة جرائم التعذيب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية بغض النظر عن جنسية مرتكبيها في الوقت الذي يتواجدون فيه على أراضيها. وبناءً على هذا المبدأ المنصوص عليه في قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي عام 1995، أمرت القاضية سابين كيريس باستدعاء رئيس المخابرات المغربية.

 

الفرنسيون لا يثقون في العدالة المغربية

 

بالتأكيد، المبدأ واضح، لكن هناك سبل أخرى. إن الضامن لإنفاذ القانون والوسيط بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، هو المدعي العام الفرنسي الذي بإمكانه أن يُعلم وزارة العدل - في هذه الحالة كريستيان توبيرا –وبموافقة هذه الأخيرة يقرر تنحية القاضي في حالة ثبوت انحرافه. هذا هو ما كان سيصبح عليه مصير سابين كيريس، التي اتهمت من قبل "بالموالاة للجزائر" وميلها لطروحات "اللوبيات المناهضة للمغرب". إذا تأكد تغييرها الذي أعلنه قاض آخر، ديفيد دي با، فإن ذلك يعني أن المدعي العام، الذي يمثل الهيئة الوحيدة القادرة على مساعدة الحكومة الفرنسية على تقديم حل بديل للمغاربة بشأن طلب الحق في النظر الذي شددوا عليه، قد بالفعل بدأ يتحرك في الاتجاه الصحيح.

إلا أنه، في العمق، وعلى الرغم من أن الفرنسيين رحبوا بالمبادرات الأخيرة للمملكة بخصوص مكافحة جرائم التعذيب، فإنهم لا يعتقدون حقا، دون التجرؤ على البوح بذلك، باستقلال القضاء المغربي. وهو ما يهيج الرباط أكثر فأكثر. "إذا كانوا يعتقدون أن القضاء المغربي ليس مستقلا، لماذا يحاولون إذن إقامة تعاون قضائي معنا؟ لنوقف كل هذا!" يعبر بقوة مصدر دبلوماسي مغربي.

منذ تعليق التعاون القضائي والملفات العالقة في تراكم مستمر، ما أدى إلى اضطرابات غير مسبوقة. وفقا للخارجية الفرنسية، من الصعب وضع تقرير إحصائي مفصل، بسبب وجود العديد من الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف التي تجمع البلدين. لكن، عموما، الشق الجنائي من التعاون القضائي هو أكثر تضررا من الشق المدني (الزواج، الطلاق، النفقة...)

في الشق الجنائي، يُشار إلى حجب الإنابة القضائية التي تمكن القضاة الفرنسيين من تفويض التحقيق في ملفات معينة لنظرائهم المغاربة والعكس صحيح. وعادة ما يتم معالجة ما بين 150 إلى 200 حالة سنويا داخل إطار الإنابة القضائية. مما سيسفر عن عواقب وخيمة، لا سيما في مجال مكافحة تهريب المخدرات، وهو الأمر الذي يتطلب تعاونا دقيقا. ودائما على المستوى الجنائي، فتح المغرب في أغسطس ممرا إنسانيا يسمح بموجبه بترحيل عشرات المعتقلين الفرنسيين إلى سجون بلدهم، علما أن عملية تسليم المعتقلين لازالت غير متاحة حتى الآن.

وبالمقابل تم الحفاظ على التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب. كما أن الموقف الفرنسي بشأن قضية "الصحراء الغربية" لم يتغير (ما يعني، بشكل عام، أنه ما زال مؤيدا للمغرب). وفيما يخص التبادل الاقتصادي، فهو مستمر لكن بوتيرة بطيئة. كما يتفادى المغرب المزيد من التصعيد وعدم تهديد الاستثمارات الفرنسية التي وصلت إلى 8.5 مليار يورو، أي بنسبة 40٪ من مجموع الاستثمارات الأجنبية المباشرة. فحوالي 700 فرع لشركات فرنسية موجودة في المغرب.  وهذا يعني أن لدى فرنسا مكانة متميزة.

"لكن غياب تبادل الزيارات الوزارية الثنائية منذ أبريل نيسان (زيارة وزير الزراعة الفرنسي ستيفان لوفول) يضر كثيرا بعمق هذه العلاقة"، يحذر الجانب الفرنسي. إن لهذه الزيارات أهمية كبيرة كونها تحرك العلاقة بين مسؤولي البلدين. وبدونها وبدون توجيه نادي رؤساء المقاولات الفرنسية المغربية - الذي يبدو أنه دخل في سبات منذ تجمع الدار البيضاء في مارس 2013، يشعر رجال الأعمال الفرنسيين بالتيه وعدم وضوح الرؤيا المستقبلية.

منذ أن سعى المغرب للبحث عن تنويع شركائه وإثبات ذاته أمام القوة الاستعمارية السابقة، أدركت باريس أن مصالحها مهددة. ففي الوقت الذي أكد فيه وزير الصناعة والتجارة، مولاي حفيظ العلمي، وصلاح الدين مزوار، رئيس الدبلوماسية المغربية على قناة فرانس 24 أن المغرب يمكن أن يصبح قطبا بين فرنسا وإفريقيا؛ ومنذ اندلاع الأزمة بين البلدين، يؤكد الخطاب السياسي في المغرب على أن المملكة قادرة تماما على تدبر أمورها من دون أية مساعدة من فرنسا. فإلى أي حد يمكن أن تكون باريس على استعداد لمراجعة التعاون القضائي مع المغرب؟ يبقى الترقب هو سيد الموقف.

لقد توافق الطرفان على المبادئ الأساسية وسيتوصل الطرفان، وفقا لمصادر مغربية، إلى اتفاق خلال الأشهر القادمة. تعليق مقتضب أيضا ذلك الذي صدر عن متحدث باسم الخارجية الفرنسية يقول فيه: "نأمل بالطبع التوصل بسرعة لإيجاد حل يرضي الطرفين". وهذا يفيد بأن حرب المواقع بين البلدين لم تنته بعد.