«27 عاما من الفساد وهيمنة ثلة قليلة من الأشخاص على رقاب 16 مليون نسمة.. لقد أدركنا بعد أن رحل أننا لم نكن أحرارا»؛ بهذه الكلمات حاول شاب ثلاثيني شارك في المسيرات الشعبية التي أسقطت حكم رئيس بوركينا فاسو بليز كومباوري، أن يصف الدوافع التي حركته للخروج في ما يسميه هو «ثورة» ويصفه آخرون بنهاية رجل قوي لن تنساه بوركينا فاسو.

غادر كومباوري قصره الرئاسي منتصف يوم الجمعة 31 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعد أقل من أسبوعين فقط من الذكرى الـ27 لوصوله إلى الحكم (15 أكتوبر/ تشرين الأول، 1987)، ذكرى كان كومباوري يريد أن يحتفل فيها بتعديل المادة 37 من الدستور ليبقى في الحكم خمسة عشر عاما أخرى؛ غير أن شعب بوركينا فاسو المُسالم خرج إلى الشارع وصرخ: «كفى.. عليك أن ترحل».

لطالما وُصف نظام بليز كومباوري بالأقوى والأكثر استقرارا في المنطقة، واستطاع بفضل ذلك أن يلعب دورا محوريا في المعادلة الإقليمية من خلال وساطات ناجحة في عدد من الملفات الشائكة والصراعات الدموية التي شهدتها منطقة غرب أفريقيا خلال السنوات العشر الأخيرة، فحجز مكانة دبلوماسية أكبر من حجم بلده الصغير القابع في خاصرة القارة السمراء وعلى حافة الصحراء الكبرى.

كومباوري كان يرتبط بعلاقات كثيرا ما وُصفت بـ«المشبوهة» مع نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، مما جعل مراقبين يتحدثون عن بداية نهايته مع سقوط نظام العقيد؛ بالإضافة إلى ذلك اشتهر كومباوري بعلاقاته القوية مع أغلب حركات التمرد في غرب القارة السمراء، بداية بأشهر متمردي المنطقة وأكثرهم دموية تشارلز تايلور في ليبيريا، مرورا بالمتمردين في كوت ديفوار وسيراليون، وصولا إلى الطوارق في شمال مالي؛ كل هؤلاء جمعهم كومباوري في بلده الصغير والفقير، قبل أن يلعب دورا محوريا في إنهاء صراعاتهم ليستحق لقب «الوسيط الناجع».

كان كومباوري الحالم بالبقاء في السلطة يعتقد أن المدخل الوحيد إلى ذلك هو تعديل الدستور، وأمامه خياران: إما أن يجري استفتاء شعبيا لا يضمن نتيجته في ظل تعبئة شعبية كبيرة ضد بقائه في الحكم تقوم بها منظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب السياسية؛ وإما أن يعرض تعديل الدستور على ممثلي الشعب في البرلمان حيث يحظى بأغلبية مريحة؛ فاختار المرور عبر البرلمان هربا من مواجهة إرادة الشعب.

أعلنت الحكومة يوم 20 أكتوبر الماضي أنها ستمرر تعديل المادة التي تحدد عدد المأموريات الرئاسية، عبر البرلمان في غضون أسبوعين؛ لتبدأ في اليوم الموالي احتجاجات شعبية رافضة للقرار، واكتفت في يومها الأول بإغلاق بعض الطرق الرئيسية في العاصمة واغادوغو.

مواجهة الشارع

بدأت الاحتجاجات الشعبية تكبر وتزداد تنظيما مع دخول حركة «المكنسة الوطنية» على الخط، وهي حركة شبابية أسسها قبل عام بعض الموسيقيين الذين يحظون بشعبية واسعة في أوساط الشباب، وأغلب مناضليها ولدوا إبان حكم كومباوري ولم يسبق لهم أن عرفوا رئيسا للبلاد غيره.

منذ تأسيسها استطاعت حركة «المكنسة الوطنية» أن تستقطب الشباب الذي لم يجد نفسه في الأحزاب السياسية، وزادت شعبيتها بعيد اعتصام نظمته قبل عدة أشهر أمام أحد المستشفيات العمومية لتجبر إدارته على الاعتذار عن سوء الخدمات والتعهد بتحسينها، كما أحرجت الشركة الوطنية للكهرباء باعتصام للاحتجاج على الانقطاع المتكرر للكهرباء في العاصمة.

نظمت الحركة الشبابية بالتنسيق مع بعض الأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني، يوم الثلاثاء 28 أكتوبر الماضي، مسيرة وصفها مراقبون بالأكبر في تاريخ البلاد، فيما وصفها آخرون بـ«المليونية». كانت المسيرة التي طالبت بالتراجع عن تعديل الدستور بمثابة الإنذار الأول لنظام كومباوري الذي تجاهلها وواصل استدعاء البرلمان للتصويت.

خلال مسيرة 28 أكتوبر دعا زعيم المعارضة زيفرين ديابري المواطنين إلى «العصيان المدني»، فيما كان قادة حركة «المكنسة الوطنية» يخططون للاعتصام في «ساحة الأمة» التي أرجع لها الشباب اسمها القديم «ساحة الثورة»، وهو الاسم الذي كانت تحمله في عهد الرئيس توماس سانكارا؛ الذي قُتل رفقة 11 وزيرا من الحكومة إبان انقلاب كومباوري عام 1987.

بعد مفاوضات مع الأمن قررت الحركة الشبابية إخلاء الساحة والتجوال داخل الأحياء الشعبية من أجل تعبئة السكان للمشاركة في مسيرة كبيرة تنوي تنظيمها فجر الخميس 30 أكتوبر، موعد التصويت على تعديل الدستور، وهو اليوم الذي انفجر فيه الوضع.

في هذا الإطار يقول إيمانويل بيث، وهو عسكري فرنسي متقاعد سبق أن عمل سفيرا لفرنسا لدى بوركينا فاسو، إن «قضية مراجعة المادة 37 من الدستور المتعلقة بعدد المأموريات الرئاسية كانت الخيط الناظم لجميع مطالب سكان المدن والمجتمع المدني والمعارضة؛ مطالبُ تتعلق بالفقر والبطالة والتوزيع غير العادل للثروات؛ وهذه المطالب جميعها كان يعبَّر عنها من خلال رفض تغيير الدستور؛ والإجماع حول هذا الموضوع كان هو المحرك الحقيقي الذي فجر الثورة».

استطاعت حركة «المكنسة الوطنية» والأحزاب السياسية أن تجد التجاوب الشعبي الكبير في دعوتها للخروج إلى الشارع يوم 30 أكتوبر، وهو ما يعلق عليه الدبلوماسي الفرنسي بيث بالقول إن «طبيعة وشكل التحرك الشعبي يمكن تفسير جزء كبير منه من خلال بعض المعطيات: تقييم ناقص من طرف الأغلبية الرئاسية لحجم الرفض الشعبي لتغيير الدستور؛ تغاضي السلطات عن الخطر الذي يمثله البقاء طويلا في الحكم؛ البعد عن انشغالات ومطالب المواطنين؛ تأثير المحيط العائلي والسياسي الذي يخفي عن رأس السلطة الحاكمة حقيقة ما يجري خارج دهاليز القصر، ففي أحاديثه الخاصة لم يكن كومباوري يخفي تعبه من الحكم».

ويضيف الدبلوماسي الفرنسي أن «بطالة الشباب الذي يمثل أكثر من 60 في المائة من السكان؛ وانتشار الفقر؛ هذا بالإضافة إلى التفاعل مع الصراعات التي تضرب البلدان المجاورة؛ كل هذا مكّن من توحيد المطالب السياسية للمعارضة مع القدرات الثورية لدى الشباب الذي يحركه عدم الرضا عن الوضع القائم منذ سنوات سبقت ميلاد نسبة كبيرة منهم».

يوم انهار النظام

غير بعيد من «ساحة الأمة» كان رؤساء الأحزاب السياسية المعارضة يفِدون جماعات وأفرادا على مبنى البرلمان، وهم ينوون إقناع بعض نواب الأغلبية الحاكمة بالتصويت ضد مشروع تعديل الدستور، لكنهم واجهوا صعوبة كبيرة في ظل حرص الحكومة على تمرير خططها من دون أي مفاجآت.

في الخارج كان المشهد مختلفا بشكل كامل، حيث يجوب الشباب وبعض الناشطين السياسيين الأحياء الشعبية لحشد المواطنين للمشاركة في مسيرة توجهت إلى مبنى البرلمان من أجل منع التصويت على تعديل الدستور، في المقابل كانت وحدات الأمن تمنع الوصول إلى وسط المدينة؛ غير أنها لم تصمد أمام الشباب الغاضب.

بعد ساعات من المواجهات وصل المتظاهرون إلى مبنى البرلمان وأضرموا النار فيه، بالإضافة إلى مبنى التلفزيون ومنازل بعض قيادات نظام كومباوري، وسقط أول قتيل أمام منزل شقيق الرئيس فرنسوا كومباوري؛ قبل أن يتوجه المتظاهرون نحو القصر الرئاسي بحي «واغا 2000» الراقي.

المفارقة التي أذهلت أغلب المراقبين هي أن كومباوري لم يغادر قصره ذلك اليوم، حيث استقبل ممثلين عن الحشود التي تعتصم أمام القصر، ودخل معهم في مفاوضات لإقناعهم بأنه سحب مشروع تعديل الدستور من البرلمان، وأنه لم يعد ينوي البقاء في السلطة، كما أبدى استعداده لفتح حوار مع المعارضة، قبل أن يطلب من الوفد إقناع الجماهير الغاضبة بالعودة إلى منازلها والحفاظ على أمن واستقرار البلاد؛ وكان كومباوري يراهن على خبرته في التفاوض، وتاريخه المليء بالتفاوض والعمل الدبلوماسي الشاق، غير أنه فشل في إقناع مواطنيه بالهدوء.

في الجانب الآخر من المشهد أقدمت بعض قيادات حركة «المكنسة الوطنية» على خطوة غير متوقعة، حين توجهوا إلى قيادة أركان الجيش وطلبوا من الزعامات العسكرية تحمل مسؤولياتها لمنع «حمام دم» أمام القصر الرئاسي، ووقف عمليات نهب واسعة في العاصمة واغادوغو ومدن كبيرة أخرى.

الموقف الذي اتخذته القيادات الشبابية برره الصحافي الفرنسي برينو جافريه، المختص في شؤون بوركينا فاسو ومؤلف كتاب عن حياة توماس سانكارا، بالقول إن «الجيش هو المؤسسة الوحيدة المنظمة والمتماسكة في البلاد، خاصة كتيبة الحرس الرئاسي التي استطاعت أن تظهر بقوة وتجبر بقية الجيش على الالتحاق بها وقيادة البلاد بعد الفراغ الذي خلفه سقوط كومباوري»، قبل أن يضيف أن «القيادات الشبابية واجهت اتهامات ببيع كفاح الشعب، ولكن اتضح أنها كانت مصيبة في موقفها حيث بدأت الفوضى وكان لا بد من عودة الهدوء من أجل التقدم نحو الأمام».

وفي السياق نفسه، يؤكد الصحافي الفرنسي جافريه أن «قيادات المكنسة الوطنية كانوا يعتقدون أنهم من أطلق شرارة الفوضى ويجب عليهم لعب دور في عودة الهدوء، لذا جلسوا لعدة ساعات مع المقدم إسحاق زيدا، المسؤول الثاني في الحرس الرئاسي، قبل أن يرافقوه إلى ساحة الثورة حيث قرأ بيانه الشهير الذي أسهموا في كتابته، أمام عشرات آلاف المتظاهرين المتحمسين».

المعارضة الهشة

منذ تلك اللحظة بدأ المقدم زيدا يمسك خيوط اللعبة ويتضح أنه الرجل القوي الجديد لبوركينا فاسو، خاصة بعد اختياره من طرف المؤسسة العسكرية ليدير المرحلة الانتقالية، فبدأت مخاوف الشباب من طموحات العسكريين للبقاء في السلطة رغم تعهدهم بتسليمها للمدنيين أمام ضغط المجموعة الدولية؛ لكن المراقبين يرجحون أن العسكر سيسلمون السلطة للمدنيين ولو شكليا، فالطبقة السياسية لا تزال هشة وغير متماسكة، ويشكك الكثيرون في قدرتها على إدارة مرحلة انتقالية ناجحة.

الصحافي الفرنسي المختص في الشأن البوركيني يؤكد أن «تأخر أحزاب المعارضة في مواكبتها لسير الأحداث المتسارعة كشف عجزها عن تقدير الموقف وتوقع سير الأمور، لقد كان الشباب والنقابات أكثر حركيّة وديناميكية منها»؛ ويضيف «المعارضة تعاني نقصا كبيرا في الشعبية، خاصة أنها منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة وهي تقاد من طرف شخصيات من اليمين كان أغلبها من المقربين من نظام كومباوري في مراحل عديدة من حكمه، وبالتالي لم تتمكن هذه الشخصيات من كسب ثقة الشباب؛ أما الأحزاب اليسارية المتشبعة بفكر توماس سانكارا فتمزقها الصراعات الداخلية، وتحاول هذه الأحزاب منذ فترة أن تتوحد لتعيد جزءا من قوتها الجماهيرية المفقودة».

وضعية أحزاب المعارضة الهشة جعلت المراقبين يتساءلون عن مدى جاهزيتها لتسلم الحكم وتسيير البلاد؛ سؤال يجيب عنه الباحث الموريتاني المختص في الشؤون الأفريقية إسماعيل ولد يعقوب بالقول إن «بوركينا فاسو ستواجه صعوبات في الفترة الانتقالية لأنه حتى الآن لا توجد شخصية محل إجماع، حتى المعارضة شخصياتها ليست محل إجماع، فهي في أغلبها من أصدقاء الأمس القريب للرئيس المخلوع كومباوري، بالإضافة إلى بعض العسكريين المتقاعدين؛ المعارضة متهالكة ومتآكلة بسبب 27 عاما من الديكتاتورية».

في غضون ذلك، يؤكد إيمانويل بيث، السفير الفرنسي السابق لدى بوركينا فاسو، أنه «لا شك في أن قادة الأحزاب السياسية المعارضة لم يتمكنوا من تقييم الوضع والتفاعل معه بسرعة، وذلك ما يؤكد شكوكي في أن هذه المعارضة تملك مشروعا سياسيا حقيقيا».

نفس الرأي يدعمه الباحث الموريتاني المقيم في بوركينا فاسو إسماعيل ولد يعقوب حين يقول إن «العسكر قد يكون صمام أمان لهذه المعارضة حتى ترتب أوراقها ويتضح ميزان القوى داخلها، لكن الصورة قاتمة وستبقى كذلك إلى نهاية الفترة الانتقالية». ويضيف ولد يعقوب في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط»، أن «التركيبة الإثنية والدينية لبوركينا فاسو مختلفة عنها في الكثير من البلدان الأفريقية، فهي تركيبة غير قابلة للانفجار لأن هنالك تناغما وتمازجا بين المكونات الاجتماعية، فتجد رجلا مسيحيا اسمه محمد، وآخر مسلما اسمه أوغستين؛ حتى الرجل القوي الجديد في بوركينا فاسو المقدم إسحاق زيدا ينحدر من قبيلة الموسى وهو مسلم، وابن عمه الرئيس المخلوع بليز كومباوري مسيحي كاثوليكي؛ هكذا تبدو الحالة البوركينية توحي بشيء من العافية والجنوح نحو السلم».

وفي ظل الهدوء الشعبي الذي أعقب الإطاحة بحكم بليز كومباوري، بدأت المجموعة الإقليمية والدولية تتحرك ضد العسكريين في بوركينا فاسو، وفي هذا السياق يعلق الصحافي الفرنسي برينو جافريه ويقول «منذ سقط كومباوري والمجموعة الدولية تصدر البيانات شديدة اللهجة تطالب بعودة الحكم للمدنيين، مما يجعلنا نتساءل عن سبب هذه اليقظة المتأخرة. ألم يكن كومباوري بالنسبة لهم (رجل السلام) مع أنهم كانوا يعرفون ماضيه غير المشرف في الحروب البشعة بسيراليون وكوت ديفوار، ودعمه الواضح والصريح للمتمردين في مالي؟ لكن الأكثر بشاعة هو دوره القوي في الحرب الأهلية في ليبيريا، وقد ذُكر اسم كومباوري عدة مرات خلال محاكمة تشارلز تايلور، فهل يمكننا أن نتساءل عن محاكمة كومباوري لكشف ماضيه الغامض؟

*نقلا عن الشرق الأوسط