إن المتتبع للسياسة التركية يلاحظ بوضوح أنها تجسّد سياسة السلاطين عبر التحرش بهذه الدولة أو تلك... فلم يلقَ ''أردوغان'' ظرفاً مؤاتياً له أكثر من استغلال إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد الأربعاء 30/03/2022 حلّ مجلس النواب، للتدخل في الشأن التونسي من خلال تصريحات فجة اعتاد الرأي العام التركي والدولي على سماعها من ''أردوغان'' المعروف بمواقفه الشعبوية وتوظيفه الانتهازي للأحداث، حيث صرح أنّ "حل البرلمان ضربة لإرادة الشعب التونسي وإساءة للديمقراطية". وقد استنكرت وزارة الخارجية التونسية، الثلاثاء 05/04/2022، التصريح الذي أدلى به الرئيس التركي. "واعتبرت الوزارة "أن "تصريح أردوغان يعد تدخلًا غير مقبول في الشأن الداخلي، وأكدت أن "تونس دولة حرة مستقلة، والشعب فيها هو صاحب السيادة، وهو المخوّل الوحيد لاختيار مسار تحقيق الحرية الحقيقية التي تحفظ أمنه، وتصون كرامته، وتدعم حقوقه، وتعزز كل مكاسبه، وتقطع مع رواسب الماضي، ومع مسار الديمقراطية الشكلية التي لا علاقة لها بإرادة التونسيين والتونسيات".

في تقديرنا الشخصي، فصوت أردوغان الذي يعلو الآن، مرتبط بوتيرة من الضغط السياسي تعلو وتنخفض، وهي برأي مراقبين اعتراف آخر لقائد حزب العدالة والتنمية أن صوته هو أقوى ما لديه تجاه تونس. ومن المؤكد بأن خسارة رئيس وزراء تركيا ''أردوغان'' لبرلمان يرأسه "راشد الغنوشي"، لا تقل أهمية في أجندته السياسية عما أصابه من انتكاسات سياسية واقتصادية متلاحقة. فأردوغان، اليوم، لا يبدو أنه يعيش أوضاعاً مريحة، مع موجة الغضب التي تتفاقم ضده من الشعب التركي الذي تتضاعف نسب الفقر بين أطيافه مع اتساع مستوى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد بفعل سياساته التدخلية العدوانية، وهذا ما جعل الأحزاب التركية العلمانية تصدر بياناً قبل أيام قليلة تندد وتستنكر أعمال أردوغان في السياسة الخارجية وتوريطه لتركيا في أزمات إقليمية (وحتى دولية) لا تنتهي.

لقد شكل حلّ البرلمان الذي يرأسه ''الغنوشي'' زعيم إخوان تونس، مادة دسمة لادعاء المظلومية وإعادة تأجيج مشاعر الدهماء كما رأينا لدى الرئيس التركي ''رجب طيب أردوغان'' والقنوات الإعلامية الإخوانية. التدخل التركي في الشأن الداخلي التونسي، يعيدنا إلى التذكير بدور (الإخوان المسلمين) في كل ما يجري في المنطقة من دمار، ورسالة راشد الغنوشي- زعيم ''إخوان'' تونس (النهضة) إلى اجتماع اسطنبول 2016 الذي عقد تحت عنوان (شكراً تركيا)، هذه الرسالة تكشف الكثير من الحقائق عن ''الإخوان''، وأهميتها أنها شهادة يقدمها شاهد من ''الإخوان''، بل زعيم من زعمائها. رسالة الغنوشي إلى اجتماع (التنظيم الدولي) هذا، تضمّنت وأوحت بالكثير من الحقائق عن بنية وطبيعة ''الإخوان''، منها حسب الغنوشي، أن ''الإخوان'' لا يعترفون بالوطنية. والثابت عندنا، أنّ حزب ''النهضة'' ومن ورائه ''التنظيم الدولي للإخوان المسلمين'' جزء من توليفة أيديولوجية، يدير بها الأمريكي والتركي لعبتهما في المنطقة، وهذا هو حال ''النهضة'' خلال سنوات طويلة سبقت التغيير في تونس عام 2011 وما اتضح أكثر خلال فترة حكمها بعد ذلك التاريخ. وهنا أستحضر ذاك السؤال المهمّ الذي سأله أحد المفكرين يوماً: مَنْ يحكم تركيا، أردوغان أم الغنوشي؟ في دلالة لا يرقى إليها الشك، في أن الامتداد الإخواني واحد في كلا البلدين، وأن الهدف الغربي واحد، عبر تبنّيه لأجندات داعمي الإخوان وزعمائهم... وبخاصة إذا عرفنا أن الغنوشي وأردوغان هما وجهان لعملة الإخوان المسلمين الواحدة في مشروع التمدد الأخواني، وصناعة الكراهية التي قدمت الأخونة بديلاً عن مشروعات العلمانية والتنوير والأفكار المعتدلة.

اليوم وبعد حلّ البرلمان، فالرئيس التونسي قيس سعيد، قد دشن لسقوط جماعة إخوان تونس، ونهاية ما يسمى ''النموذج التركي'' في المنطقة المغاربية، والذي شكل ملهماً لبعض النخب السياسية الحاكمة في دول ما ''يسمى الربيع العربي''... وخروج تونس من حالة اقتباس النموذج، يجعل هذا النموذج مجرد فكرة نظرية غير متحققة، جدير بالذكر أن تركيا استفادت مما سمته النموذج التركي لترتقي في عيون الغرب باعتبارها الأقدر على ترويض الأخوان المسلمين من خلاله، وبالمقابل استخدمت الجماعة النموذج التركي لتبني جسوراً مع الغرب... ومن خلال استقراءات بعض المحللين المحايدين نجد أن قلق ''أردوغان'' ومخاوفه من حل البرلمان وإحالة زعيمه "الغنوشي" إلى التقاعد السياسي وربما إلى المحاكمة...، مخاوف أردوغان، مبررة لأن حتمية انتشار حالة السقوط بسرعة مذهلة لن تتأخر كثيراً عن الساحات التركية لإسقاط حزب العدالة والتنمية التركي كحامل ومروج لمشروع الإسلام السياسي في المنطقة. وحتى لا نكون كالذي يحرث في الماء، نستشهد بما قاله مستشار رئيس النظام التركي، ''ياسين أكطاي''، قال علنا:ً ''إن إسقاط الخلافة تسبب في فراغ سياسي في المنطقة، وقد سعى تنظيم الإخوان لأن يكون ممثلاً سياسياً في العالم نيابة عن الأمة، البعض منا يستخف بقوة الإخوان ويقول إنهم عبارة عن جماعة صغيرة، لكن جميع الحركات الإسلامية اليوم ولدت من رحم جماعة الإخوان...''وأضاف ''أكطاي'' إن لجماعة الإخوان ''فروعها الخاصة وفقهها الخاص، وهي تمثل اليوم ذراع للقوة الناعمة لتركيا في العالم العربي، فهذه الجماعة ترحب بالدور التركي في المنطقة... وهم بالتالي ينظرون إلى الدور التركي على أنه النائب للخلافة الإسلامية التي تم إسقاطها سابقاً''. 

ولتحقيق هذه الأجندة، وجدت تركيا في إخوان تونس حليفاً وثيقاً، لاسيما أن حركة "النهضة" ليس ببعيد عن مبادئ تنظيم الإخوان، وعندما بدأ النظام التركي تحركه التوسعي، كانت جماعة الإخوان إحدى الركائز التي اعتمدت عليها، ليرتبط الاثنان بعلاقة مصالح وثيقة، فأردوغان يحتاج إلى ''الإخوانيين'' للتجييش الداخلي في الخطابات الشعبوية والاستمرار بالقبض على مقاليد الحكم، وفي نفس الوقت لاستخدامهم في مشروعه الخارجي. والمؤكد أن "حركة النهضة" كانت قد لعبت دور رأس الحربة في ذلك الفعل، حيث تبنت "المشروع التركي الإخواني" الماضي في تهشيم البنى والركائز التي قامت عليها المجتمعات العربية، وهو ما ظهر جلياً عبر العديد من المواقف والتصريحات التي أطلقها زعيمها "راشد الغنوشي". والمفارقة اللافتة أن ''أردوغان''، ظن أنه قاب قوسين أو أدنى من ربط المغرب العربي بالمشرق العربي ليكون الوطن العربي بكامله ساحة لمشروعه من دون منازع... لكن أحلام ''أردوغان'' الوردية هذه اصطدمت بالمفاجأة الكبرى، حيث جاءت من السقوط المدوي لزعيم إخوان تونس وجماعته، وهذا ما لم يكن متوقعاً أبداً في حسابات السياسة الأردوغانية... 

بعد حلّ البرلمان وسقوط الغنوشي...، فقدت تركيا حليفاً إستراتيجياً في المغرب العربي، ولا تستبعد أطراف سياسية تونسية أن يفضي الأمر إلى حل حركة النهضة التي قادت البلاد منذ العام 2011، وتؤكد هذه الأطراف، أنّ الرئيس قيس سعيد حسم مسألة حل حركة النهضة، بعد ما وقف عليه التونسيون من جرائم وصلت حد التجسس وغسيل الأموال وغيرها، لكنه لا يزال يحترم القانون، ومبدأ التقاضي وحرية واستقلالية القضاء، فما ارتكبته حركة النهضة من خروقات لا يكفي حلها فقط بل يمكن توقع خطوات أخرى. ومن باب الإنصاف، فالرئيس التونسي، اعتبر في عدة تصريحات أن تونس في حالة خطر داهم، وأن الدولة مهدّدة بالفناء والزوال، وأن الفوضى والخراب الداخلي يطرقان الأبواب بعنف، والناس تئنّ وتتألم تحت وطأة الفقر والجوع والحرمان والمرض... في المقابل، تحصّن راشد الغنوشي رئيس البرلمان آنذاك خلف المؤسسة التشريعية لتحقيق مآرب شخصية وفئوية لمصلحة حركة "النهضة"، وشجع المنحرفين  والخارجين عن القانون على ارتكاب الأمور الفاسدة التي أضرتّ بمستقبل تونس. 

اليوم ومن باب تأكيد المؤكد، فالخسارة التركية بحل البرلمان التونسي... لا تقتصر على مجرد سقوط "الغنوشي" كشريك سياسي أو أيديولوجي فحسب، وإنما تمتد لتطول جوانب متعددة في إستراتيجية تركيا التوسعية، وسيكون لهذه الخسارة التركية تأثير سلبي في صورة تركيا وحضورها الإقليمي لفترة مقبلة، ولاسيما أن مكونات التركيبة السياسية الجديدة في تونس تنظر إلى تركيا باعتبارها منافساً إقليمياً لا شريكاً إستراتيجياً، ويعني ذلك أن تركيا التي كانت في مقدمة الرابحين مما يسمى ''الربيع العربي''، قد أصبحت في مقدمة الخاسرين بعد سقوط ''الغنوشي'' وجماعته في تونس. لذلك فإن ما حصل ويحصل في تونس ستكون نتائجه في غاية الأهمية على المستوى الداخلي، وعلى المستوى الخارجي على السواء، وإذا ما تمكّن الرئيس "قيس سعيّد" من إجراء انتخابات تشريعية جديدة مبكرة، ستتبيّن الفروق في مستويات التمثيل السياسي بشكلٍ كبير وواضح، لأنَّ الدعاية التي اعتمدتها حركة "النهضة" أُجهضت بالممارسة العملية، ونصيحتنا لأردوغان ألا يراهن كثيراً على المستحيل، ومن الأجدر للرجل أن يتوقف عن الحديث، ذلك أنه كلما فتح فمه عن تونس، زرع شتلة كراهية لدى التونسيين تجاه تركيا، وهذا لا نرضاه لتركيا الشعب وليس القيادة.