بعد السقطات التركية عرف بعض من تغنى بالدولة التركية الصاعدة أهدافها القومية والعثمانية والطامعة، وصرنا نسمع كلاماً يناقض الذاكرة البعيدة والقريبة، لقد أصبحت الأطماع التركية بالنفط الليبي جلية كما أصبحت محاولات نظام أردوغان مد نفوذه في شمال أفريقيا من الخاصرة الليبية أكثر وضوحاً، ولتأكيد المؤكد، فرغم كل الدعوات الدولية والعربية بضرورة إخراج كافة المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، إلا أنّ البرلمان التركي، وبطلب من أردوغان، فقد صادق الثلاثاء 21/06/2022، على مذكرة رئاسية تمدد مهام القوات العاملة في ليبيا لـ18 شهرا إضافيا. ونشر البرلمان التركي عبر حسابه في "تويتر"، نص المذكرة الرئاسية بتمديد التفويض لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا لمدة 18 شهرا اعتبارا من 2 تموز/يوليو 2022، وأشار البرلمان إلى أنّ "القوات التركية موجودة في ليبيا بدعوة من الحكومة الليبية". كل المجريات والوقائع على الأرض الليبية تؤكد أنّ تمديد بقاء القوات العسكرية في ليبيا، يترجم استباحة النظام التركي للأراضي الليبية واستدامة الفوضى في دولة ممزقة، يطمع بها ويحملها ورقة يبتز بها اتحاد أوروبا الذي يلفظه، فرأس النظام التركي ترتعد فرائصه من فكرة تسوية قد تطفو على سطح المشهد الليبي فتحرمه من ثروات ليبيا وهضم المزيد من المكاسب. 


ما نتحدث عنه لم يأت من فراغ، فالمعطيات القادمة من ليبيا تؤكد تباعاً من خلال تواتر الحديث عن النفط وإيراداته وتقسيم الحصص أن دوافع تركيا تمديد بقاء قواتها العسكرية في ليبيا، على الرغم من المطالبات والضغوط الدولية لسحب جميع القوات والمرتزقة الأجانب من البلاد، لا يرتبط بالعلاقات التاريخية بين البلدين أو الحرص على الحقوق الشرعية لليبيين أو ''الحفاظ على الأمن... وتقديم المساعدات الإنسانية التي يحتاج إليها الشعب الليبي، وتوفير الدعم اللازم للحكومة الشرعية في ليبيا". هذه المزاعم التركية حق أريد به باطل، فالنظام التركي لا يقيم وزناً لمثل هذه الحقوق، فليبيا بمساحتها الكبيرة وثرواتها الهائلة تعتبر مدخلاً لأردوغان من أجل اكتساب نفوذ سياسي واقتصادي في الدول المغاربية والعمق الأفريقي وحوض المتوسط عموماً، وبالتالي فإن دولة بمساحة جغرافية كبيرة وذات غنى نفطي كليبيا تعتبر كنزاً لحكومة تعاني اقتصادياً كالحكومة التركية. 


إنّ الأطماع التركية القديمة الجديدة في ليبيا، لم تعد خافية على أحد وهي محاولة لسرقة نفط ليبيا وتوسيع النفوذ والبحث عن مصالح تركية في المتوسط. وبفضل التفويض المطلق بحكم الأمر الواقع، تمكن النظام التركي، في غضون سنوات قليلة فقط، من تعيين مئات من "المستشارين العسكريين" في ليبيا، ومع معاهدة الحدود البحرية وتعيين حدود المناطق الاقتصادية الخالصة، سيطرت تركيا على ساحل طرابلس، بالإضافة إلى نوع من الرعاية لحقول الغاز والنفط في وسط البحر الأبيض المتوسط، كما سمح النزاع بين الأطراف المتحاربة على السلطة لأنقرة بتزويد معسكر غرب ليبيا بالقوات والأسلحة، وإعادة انتشار ميليشياتها المرتزقة التي كانت نشطة سابقاً في سورية، وللحصول على إدارة ميناء ومطار مصراتة لمدة 99 عاماً، بالإضافة إلى السلاح المستخدم على نطاق واسع بالفعل وهو ورقة المهاجرين والسيطرة على تدفقات الهجرة، والتي أصبحت الآن قادرة على تنظيمها ليس فقط على طريق البلقان، ولكن أيضاً في وسط البحر الأبيض المتوسط.


الثابت اليوم، أنّ النظام التركي يعي أن وجود الصف الوطني على الساحة الليبية، لا يخدم أطماعه، ولهذا يسعى النظام لإقصاء هذا الصف سياسياً وعسكرياً عبر دعم من يتحالفون مع نظامه وزيادة ضخ المرتزقة والعتاد الحربي في الشريان الليبي. فالنظام التركي يحاول التسويق لرسم قواته على الصورة الليبية، فحسب زعمه (تعد تركيا نفسها عنصراً مهما للأمن في ليبيا)... والليبيون يقولون إن أحذية الجنود الأتراك تدنس بلادهم، وهذا القول فيه الكثير من المعاني والدلالات على رغبة الشعب الليبي بالتخلص من شبح الوجود التركي على أرضهم، والخروج من لعبة الصراعات الداخلية والتجاذبات الدولية. وبكل أمانة، نقول لكل الواهمين: في ليبيا، لن تدوم لـ"حكومة طرابلس"... والأسباب لا علاقة لها بالقوة أو الضعف، بتقدم طرف وانحسار طرف، أو بالمساحة المُسيطر عليها، بل لأن المعادلة /المؤامرة/ المُرادة لليبيا لا تستقيم مع تقدم أو انتصار طرف، بل على معادلة "لا منتصر... لا مهزوم" بهدف أن تبقى نهباً لاقتتال لا ينتهي يستنزف طاقاتها البشرية والاقتصادية عاماً بعد عام حتى تغدو بلا حول ولا قوة. وهذا أمر وإن كان لا بد من الاعتراف به فهو بالمقابل غير حاسم في تحديد من هو المنتصر النهائي... لماذا؟


أولا: لأن الكثير من الأطراف الدولية، لن تسمح لتركيا أردوغان أن تكسب دوراً إستراتيجياً في ليبيا، حتى وإن كان ما تظهره لا يعكس ذلك. بالنسبة لهذه الأطراف فإن تركيا ليست سوى "مرحلة مؤقتة" في ظل الانشغال الدولي بالحرب الدائرة في أوكرانيا (ولا يهم هنا أن تركيا تدعم الطرف الذي تعترف الأمم المتحدة به، أي حكومة الوحدة الوطنية، هذا الاعتراف قيمته صفر في ميزان الصراع الدولي على ليبيا، وعلى تركيا ألا تُمني نفسها بالكثير، ففي لحظة يمكن لهذه الأطراف أن تسلبها كل ما كسبته في ليبيا). ثانياً: لأن العديد من دول الجوار والدول الإقليمية لن تسلم بمسألة النفوذ التركي في ليبيا، وليس من المرجح أنها ستقف عند حدود إطلاق التصريحات والتحذيرات فقط. 


خلاصة الكلام: لتركيا أن تحلم وأن تتوهم وتتورم...  في المقابل، ليبيا دولة ومن حقها بسط السيادة على أراضيها وإخراج المحتلين، ولن تستكين وتطمئن إلا بعد القضاء على حلم النظام التركي في استدامة الفوضى وإخراجه من القواعد العسكرية الاستراتيجية التي يحتلها. فالشعب الليبي يقبل التحدّي، كرامته وسيادته فوق كل اعتبار... وإن مرتسمات خرائط المواجهة على الأرض وموائد السياسة تُقدم الدليل بعد الآخر على صوابية الخيار وحتمية المآل، وعلى الآخرين أن يستعدوا لهضم النهايات، فالعبرة في الخواتيم.‏