تعيش العاصمة الليبية طرابلس حالة من الهدوء الكامل، وذلك بعد أن اتفقت الميليشيات المسلحة في طرابلس، الثلاثاء 25 سبتمبر/أيلول،على وقف إطلاق النار فيما بينها، بعد أسابيع من الاشتباكات الدامية جنوب العاصمة،فيما تحدثت تقارير إعلامية عن بدء عودة الحياة إلى طبيعتها في المدينة.

وقام وزير الداخلية المفوض بحكومة الوفاق عبدالسلام عاشور،الأربعاء 26 سبتمبر/أيلول، بالتصديق على الاتفاق الذي وقع بين ممثلي عن مدينة طرابلس وممثلي عن مدينة ترهونة.وأوضح المكتب الإعلامي للوزارة، أنه تم الاتفاق على تثبيت وقف إطلاق النار حسب اتفاق الزاوية، وأكد الحاضرون جميعاً على ضرورة الالتزام بعدم التعرض للممتلكات العامة والخاصة, والالتزام بنشر خطاب التهدئة والإصلاح ونبذ صفحات التواصل المحرضة على الفتنة.

ومن جهته، أعرب المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، عن ترحيبه وارتياحه لما تحقق من تهدئة وعودة الهدوء إلى مناطق الاشتباكات بضواحي العاصمة طرابلس. وأكد المجلس في بيان له،الأربعاء، أنه ماض في تنفيذ الترتيبات الأمنية وفقا لما اتخذه من قرارات وإجراءات في هذا الشأن، داعيا جميع الأطراف للمشاركة الفعالة في إنجاح هذه الترتيبات بشكل مهني ومنظم.


** نتائج كارثية

وتسببت الإشتباكات بين الميليشيات المسلحة في العاصمة الليبية، في خسائر بشرية كبيرة، حيث كشفت إدارة شؤون الجرحى التابعة لوزارة الصحة بحكومة الوفاق، عن أعداد ضحايا اشتباكات جنوبي طرابلس التي اندلعت بداية من 26 أغسطس، وحتى 25 من الشهر الجاري. وقال مدير المكتب الإعلامي لإدارة شؤون الجرحى مالك مرسيط، في تصريح خاص لـ"بوابة أفريقيا الإخبارية"، أنه تم تسجيل 117 قتيل، و 581 جريح منذ بداية الاشتباكات، مشيرا إلى أنه تم إغاثة 264 عائلة.

يأتي ذلك فيما أكدت الأمم المتحدة أن الإشتباكات أسفرت عن نزوح الآلاف من مناطقهم،وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إن القتال المتجدد بين الفصائل المتنافسة في العاصمة الليبية طرابلس قد أسفر عن نزوح 1700 عائلة خلال اليومين الماضيين.وأضافت المنظمة الأممية في بيان لها،الثلاثاء،أن إجمالي 5 آلاف عائلة قد بحثوا عن الأمان عبر اللجوء إلى أقارب لهم في مناطق أكثر أمانا في طرابلس وضواحيها منذ أن اندلع القتال للمرة الأولى في 26 أغسطس الماضي وفقا لما أوردته شبكة "إيه بي سي نيوز" الأمريكية.

وفي سياق متصل،أعلنت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين،عبر موقعها الرسمي،عن تقديمها بشراكة مع الهيئة الليبية للإغاثة وبالتنسيق مع المجلس البلدي ترهونة الدعم لـ 500 عائلة نازحة في مدينة ترهونة والخارجة من مناطق الاشتباكات في مدينة طرابلس.وأشارت إلى أنه خلال الأيام الأربعة الماضية فقط، كانت الاشتباكات سبباً في نزوح 1500 عائلة إلى عدة مواقع داخل طرابلس وخارجها بحثاً عن الأمن والأمان، من أصل 5000 عائلة اضطروا لمغادرة بيوتهم منذ بداية التوترات في جنوب العاصمة.

من جهة أخرى،ألحقت الاشتباكات التي دارت رحاها في العاصمة الليبية أضراراً بالغة في بعض المنشآت الحيوية.وأعلنت الشركة العامة للكهرباء،أن مهندسيها وفنيها بدؤوا،الأربعاء، في إجراء أعمال الكشف وحصر كافة الإضرار التي لحقت بمكونات الشبكة الكهربائية اثر الاشتباكات الأخيرة التي شهدتها جنوب العاصمة طرابلس.

وبين المكتب الإعلامي لشركة الكهرباء أن حجم الأضرار كبير ويكلف الشركة مبالغ مالية كبيرة فقيمة التعاقد والتوريد لهذه المحطة تصل إلى اربعة مليون وعشرة الآلاف دينار ليبي ناهيك على صعوبة التعاقد عليها وتوريدها في الوقت الحالي كما ان انجاز هذا العمل يحتاج لوقت ليس بالقصير.

بدورها قالت سلطة الطيران المدني إن حركة الملاحة ستستأنف الأربعاء في مطار معيتيقة، المطار الوحيد العامل في طرابلس.وكانت حركة الملاحة توقفت مرارًا في المطار بعد إسهدافه. وجرى تحويل رحلات الطيران إلى مطار مصراتة على بعد نحو 190 كيلومترا شرقي العاصمة طرابلس.

وبالتوازي مع تحدث مديرية أمن طرابلس، عن بدء فتح الطرقات وإزالة مخلفات الحرب، وإعادة الحياة إلى طبيعتها في المدينة،تناقلت صفحات التواصل الاجتماعي صورا توضح حجم الدمار جراء الإشتباكات،فيما ناشدت وزارة الداخلية فى حكومة الوفاق سكان الأحياء المتضرّرة من المعارك إلى توخّى الحذر عند عودتهم الى ديارهم والإبلاغ عن أى جسم مشبوه قد يجدونه.

وحذرت منظمة "حقول حرة" المختصة بالألغام ومخلفات الحروب، والمكلفة من المركز الليبي للأعمال كافة الأهالي القاطنين في مناطق الاشتباكات جنوب وجنوب شرق العاصمة من الاقتراب أو التعامل مع مخلفات الحرب أو أي أجسام غريبة حفاظاً على سلامتهم.


** محاسبة الميليشيات

وبعد أن وضعت الاشتباكات بين الميليشيات المتناحرة في العاصمة أوزارها، وعاد الهدوء نسبياً إلى شوارعها،طفت على السطح تساؤلات تتعلق بمدى محاسبة المتورطين عن تلك الخسائر، وما واكبها من سفك للدماء. 

ودعا المبعوث الاممي إلى ليبيا غسان سلامة، أمام مجلس حقوق الإنسان، إلى التصدي لمسألة إفلات المجموعات المسلحة من العقاب،قائلا "يجب معاقبة جميع مرتكبي الانتهاكات الجسيمة وفرض العقوبات وتقديم الجناة للمحاكم الوطنية أو المحكمة الجنائية الدولية" وزاد "لعل فرض عقوبات على 6 من المتاجرين بالبشر باكورة الخطوات المستحسنة لضعضعة ثقة مرتكبي الجرائم على ما تقترفه أيديهم".

وبحث غسان سلامة، مع عدد من أعضاء مجلس النواب،الثلاثاء تبعات أعمال العنف على سكان العاصمة طرابلس. وقالت البعثة الأممية في تغريدة عبر حسابها الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي تويتر إن اللقاء الذي عقد في مقرها بالعاصمة طرابلس، أكد خلاله الجميع ضرورة تعزيز وقف إطلاق النار، وضمان أن يتمكن الأطفال من بدء العام الدراسي، وأهمية استبدال الجماعات المسلحة بقوات نظامية من كل أنحاء ليبيا.

وأضاف رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا "نحن نجمع الأدلة ونعد قوائم لتقديمها إلى مجلس الأمن لفرض عقوبات على مقوضي السلم والأمن في العاصمة الليبية".

وسبق أن توعد غسان سلامة قادة الميليشيات في عدة مناسبات،ولمح المبعوث الأممي في تصريحات له إلى تعرّض كل من يثبت تورطه في خرق الاتفاق إلى "المحاسبة"، قائلا: "لقد تجاوزنا زمن الإفلات من العقاب ولن نسمح بتكرار ما حدث في 2014"، مضيفاً: "لدينا كل المعلومات حول من قام بخرق وقف إطلاق النار ويهدد حياة المدنيين في طرابلس، وأن صدور العقوبات لن يتأخر، فمن طلب عقوبات على تجار البشر تحصل عليها بعد ستة أشهر، ومن طلب عقوبات ضد الحضران تحصل عليها بعد ثلاثة أشهر".

وبدوره، شدَّد الأمين العامُّ للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على ضرورة محاسبةِ المسؤولين عن انتهاكِ القانونِ الإنسانيّ الدوليّ في طرابلس.وحثّ الأمين العام الأطراف المتقاتلةَ في العاصمة على احترام وقف إطلاق النار، مُبدِيا قلقَه من زيادة انتهاكاتِ وقفِ إطلاق النار الذي ترعاه البعثةُ الأمميةُ في ليبيا، مشيراً إلى ضرورة وقفِ أيِّ أعمالٍ قد تزيد من معاناة المدنيين.

وكانت فرنسا قد دعت، الاثنين، الأسرة الدولية، إلى ممارسة ضغوط قصوى وفرض عقوبات على الذين ينشرون الفوضى في ليبيا ويمنعون هذا البلد من التقدم باتجاه انتخابات.وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك:"يجب أن نبدي مزيداً من الحزم حيال الذين يرغبون في فرض الأمر الواقع لمصلحتهم وحدهم.

وقال لودريان أمام وسائل إعلام إن "العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي في الآونة الأخيرة ضد عدد من المهربين يجب أن تليها عقوبات أخرى، وأعتقد بشكل خاص ضد الجماعات المسلحة التي تهدد طرابلس.

وأدرجت لجنة عقوبات معنية بليبيا وتابعة لمجلس الأمن هذا الشهر أحد قادة الجماعات المسلحة ويدعى إبراهيم الجضران على قائمة سوداء مما يعني تجميد الأصول التي يمتلكها في أي مكان بالعالم ومنعه من السفر، وذلك بسبب إشرافه على هجوم استهدف مرافق نفطية.وبالطريقة نفسها، ترى باريس أنه يجب فرض تجميد موجودات في الخارج وحظر سفر على قادة المجموعات المسلحة الذين يعرقلون العملية السياسية لحماية سيطرتهم على بعض موارد البلاد.


** المواطن يدفع الثمن

وفي المقابل،يرى مراقبون أن التهديدات المواصلة بمحاسبة الميليشيات يبقى مجرد بيانات للإستهلاك الإعلامي.،مشيرين إلى تواصل غياب آليات وقواعد "المحاسبة"، وهو ما أكده رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، في بيانه الجمعة الماضي، عندما طالب المجتمع الدولي والبعثة الأممية باتخاذ إجراءات عملية "أكثر حزمًا وفاعلية لوقف الحرب وحماية المدنيين".

ويطالب أغلب الليبيين بوقف فوضى السلاح ونزعه من الميليشيات وإعادة بناء الجيش والشرطة المحترفة،لكن انتشار السلاح يبقى أحد أهم التحديات التي تواجه المساعي الداخلية والدولية لإعادة الاستقرار إلى ليبيا، بعد سنوات من الاضطرابات السياسية والنزاعات العسكرية.ويرى مراقبون، أن المخاوف تظل قائمة في العاصمة طرابلس في ظل تواصل التحشيد المسلح بين الميليشيات،في إطار صراع النفوذ والسيطرة،فيما يواصل المواطن دفع ثمن هذا الصراع المتجدد.

ويعاني سكان العاصمة طرابلس من تردي الأوضاع المعيشية،في ظل تهاوى الخدمات الصحية العامة،وأزمة انقطاع الكهرباء لساعات طويلة،ومأزق السيولة النقدية، وغلاء المعيشة وارتفاع أسعار العملات الصعبة وتوقف المصارف.وخرجت مظاهرات شعبية في الأسابيع الماضية، احتجاجا على انتشار الفساد وتفشي الفقر والحاجة،وللمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية.

وتعيد الإشتباكات الأخيرة من جديد النقاش حول مآل الأوضاع الأمنية في العاصمة طرابلس، التي مازالت تحت سيطرة مجموعة من المليشيات المسلحة يحمّلها السكان مسؤولية جرائم الخطف والقتل والاغتصاب والسرقة والتي تصاعدت بشكل كبير ومخيف لتزيد من وقع الأزمة المتصاعدة في البلاد.

وأمام استمرار تغول الميليشيات،تجد حكومة الوفاق نفسها في موقف محرج نتيجة عجزها عن بسط نفوذها وتصاعد الانتقادات تجاهها.ويرى مراقبون،أن الاحتجاجات التي خرجت في أحياء طرابلس يمكن أن تتحول إلى انتفاضة شعبية شاملة ضد الأوضاع المعيشية الصعبة، وضد وجود الميليشيات المسلحة التي تسيطر على مفاصل الدولة في العاصمة الليبية.