عندما بدأت حملة الناتو على ليبيا في 2011 بهدف إسقاط العقيد معمر القذافي، كانت أروقة الأمم المتحدة خلايا للتنسيق والقرارات والضغوطات. المنظمة الأممية في ذلك الوقت كانت واجهة كل القوى التي "تهاوشت" على ليبيا على حد عبارة الأمير القطري الذي كان رأس حربة في مشروع إسقاط النظام ومن بعده إسقاط الدولة الليبية. "التهاوش" الذي كان على ليبيا في تلك الفترة صورته المباشرة هي الأمم المتحدة، ومنذ ذلك الوقت وخلال السنوات التي تقارب عن العشر بقيت محركة كل التطورات عبر بعثتها التي تغيرت كتغيّر قطع "الدومينو" بهدف إيجاد حل يخرج البلاد من فوضى كانت هي والضاغطين عليها سببا فيها.

بعد عشر سنوات من"تحمل المسؤولية" أصبح صوتها خافتا. منذ غادر غسان سلامة مستقيلا أو مقالا أو هاربا، اختفى دور المنظمة. مجرّد بلاغات وزيارات قليلة تقوم بها المبعوثة بالنيابة، ويبدو أنها المعوضة لسلامة إلى أجل غير مسمى، لكن دون أي تأثير أو أخذ في الاعتبار من الجميع. أصبحت الأمم المتحدة اليوم هي الحلقة الأضعف في صراع القوى على ليبيا، لا أحد يعير لها اهتماما وكل يتعامل مع الأزمة وفق ما يخدم مصالحه أمنيا واقتصاديا.

في مارس2020، أعلن اللبناني غسان سلامة استقالته من منصبه مبعوثا للأمم المتحدة في ليبيا. الرجل في نص استقالته أرجع الأمر إلى أسباب صحية، وقد يكون جزء من الكلام صحيحا، لكن هناك إشارة أخرى قد تجعل الاستقالة ضرورة أو اعترافا بالعجز على تقديم حل للأزمة. الإشارة كانت حول الهدنة التي سعى إليها بين الطرفين المتحاربين،(الجيش والوفاق) حيث استبعد أي توجه لإيقاف الحرب وحتى الهدنة التي أعلنت وقتها بعد مؤتمر برلين"انهارت تقريبًا" حسب قوله وعادت الأوضاع للتوتر.

كانت استقالة غسان سلامة، مؤشرا سلبيا، حول مستقبل الأزمة الليبية. الدبلوماسي اللبناني خلال كامل فترته وهي الأطول مقاربة بنظرائه السابقين، حاول الاعتماد على خبرته الطويلة ومعرفته بالواقع العربي أن يحرّك الملفات المعقّدة، ورغم أن البلاد وقتها مازالت تحت أثار تنظيم داعش بعد طرده ووسط أزمة سياسية تسببت في انقسام السلطة بين حكومتين واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، لكنه بدأ في طرح مبادرات للحل، أولها في تونس حيث قاد مفاوضات على مرحلتين وأرسلت عبرها إشارات إيجابية لكن لم تكن النهاية كما أراد الليبيون بسبب الخلافات الكبيرة وتعنت المتحاورين حول عدة نقاط.

السنوات اللتي لحقت بقي سلامة يبحث عن مخارج للأزمة، عبر لقاءات مسترسلة بين الفرقاء، وتنظيم لقاءات حتى خارجية أملا في أن تساهم بعض القوى الكبرى في الضغط، وتقديم إفادات دائمة إلى مجلس الأمن لكن ذلك لم يتقدّم بالعملية السياسية. ورغم محاولاته المتكررة واستبشار البعض بحوار في غدامس يعقبه جدول لانتخابات تشريعية ورئاسية، لكن تلك النقطة الأقرب أنها كانت المفصل في دور سلامة ودور البعثة الأممية، حيث اندلعت بعد ذلك حرب طرابلس(أفريل 2019) التي أنهت أي دور للأمم المتحدة وبعثتها ودخلت البلاد في مرحلة دموية لم تنته إلا قبل فترة قصيرة بعد اتفاق على وقف إطلاق النار غير ثابتة ديمومته، وبدأ دور البعثة يتراجع إلى حين قرار غسان سلامة مغادرة منصبه وتعويضه بوليامز التي تبدو في موقع المخرج الفاشل الذي يجهّز ركحه دون أن يكون له نص أو ممثلون، حيث اكتفت بدور اجتماعي وخدمي دون أي دور واضح في المستوى السياسي.

غادر سلامة منصبه بعد مجهود لا ينكر في أزمة متشابكة. الاستقالة اعتبرها البعض، انتكاسة حقيقية لعملية المصالحة والسلام في ليبيا. في بعض الفترات كان الدبلوماسي اللبناني على بعد خطوات من الحلول (الوقتية على الأقل)، لكن ولأن القرارات ليست دائما ليبية ليبية، فإن المشاكل تعود من حيث تبدأ، فكانت المغادرة وفيها اعتراف ضمني بانتهاء الدور الشخصي وربما حتى بضعف الدور الأممي في حد ذاته خاصة بعد صعود دور جديد لقوى إقليمية ودولية تعتبر أن الأزمة الليبية جزءا من أمنها القومي.

والأسئلة هنا؛ هل تخلت الأمم المتحدة عن دورها في ليبيا، هل تجاوزتها خيارات القوى المتصارعة، هل يمكن أن تستعيد موقعها وتساهم في أي مسار مرتقب خلال المرحلة المقبلة؟ مؤكد أن الإجابة عن كل ذلك نسبية. المنظمة الأممية منذ بداية تدخلها في ليبيا لم تكن طرفا محايدا، وضعت نفسها جزءا من المشكل وعلى ذلك هي اليوم حتى داخليا ليست محل ثقة، خاصة ممن مازالوا يعتبرون طرفا ليبيا رئيسيا، لم يعط حقّه لسنوات بحجة قربه أو ولائه للنظام السابق.

في مستوى التخلي لا يُعتقد أن المنظمة تخلت عن دورها، لكن تطورات الأحداث ودخول الأطراف خارجية بقوة جعلاها على الهامش، وحتى عجزها عن توفير بديل لسلامة يقدّم إشارة على هروب الخيط من يديها، وقد تكون قريبا في الواجهة بعد إعلان طرفي النزاع عن وقف لإطلاق النار وإصدار بيانين حول الاستعداد للذهاب نحو عملية سياسية، حيث من المتوقع أن تُمنح من جديد قيادة المسار في ظل غياب الثقة بين أطراف الصراع سواء داخليا أو خارجيا لكن ذلك بالتأكيد لن يكون على يد ستيفاني وليامز التي يبدو أنها ليست في مستوى قيادة بعثة أممية في دولة عمق الصراع يحتم شخصية أقوى وأقدر ولها من الخبرة ما يجعلها تؤثر في أطراف النزاع.

الأزمة الليبية اليوم تدخل منعرجا حاسما. الملفات العالقة كثيرة، الخلافات عميقة، القلق الاجتماعي الداخلي ملفت أيضا، لكن ما يعطي أملا على التقدّم هو ووقف الاقتتال وهو مفصل يمكن البناء عليه نحو مبادرة سياسية فعلية تنتهي بانتخابات يمنح الحق لكل الليبيين في دخولها دون إقصاء، وهذه المسؤولية لا أحد على الأقل في هذه المرحلة قادرا على تحملها غير الأمم المتحدة، وبعثتها التي تبحث اليوم عن شخصية مؤثرة ومحل ثقة من الجميع تكون قائدة المرحلة القادمة وتعقيداتها.