تبدو الولايات المتحدة متأخرة في أوضاع المتوسط. الدور الأوروبي في الصراع التركي والأزمة الليبية التي ترتمي فيها أطراف كثيرة اليوم هما خارج الاهتمام الأمريكي. من المؤكد أن لواشنطن اهتمامات أخرى على رأسها الانتخابات الداخلية التي لا تجعل ترامب في وضع مريح لدور ثان، لكن ليس من عادتها أبدا أن تكون خارج سياق ما في أي صراع عالمي، وما التوتر في البحر المتوسط إلا جزءا من هذا الغياب الذي تنذر تطوراته باحتدام الصراع نحو مسارات قد تشعل حربا حتى بشكل غير مباشر داخل الناتو

حالة الصراع الساخنة بين الأطراف المتداخلة في ذلك المجال مفهومة ومتوقعة. الانقلابات في المواقف التركية، الصعود اليوناني إلى الواجهة بعد التخوف من خسارتها حتى لمجالاتها المائية، فرنسا وقبرص وحتى مصر في علاقة بنفوذ المتوسط كلها مؤشرات على أن المستقبل ساخن ونتائجه لا تبشر بهدوء الأوضاع.

هذه الأمور يضاف إليها اكتشاف احتياطيات الطاقة الكبيرة خاصة الغاز الطبيعي تحت البحر تشكل مجتمعة بعضًا من أسباب الصراع المباشر والخفي. الأوروبيون أنفسهم في دفاعهم عن اليونان لا يفكرون بمنطق الإسناد بل بالمصلحة التي تضمن حصة في تلك الاكتشافات.

قبل نهاية العام الماضي وقعت تركيا اتفاقية مجالية مع رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، تُمنح بموجبها أنقرة امتيازات كثيرة في المتوسط، وقد بدأت بالفعل بالتنفيذ عبر البحث عن الغاز، قبل أن ترضخ للضغوط وتعود إلى أراضيها. الاتفاقية بالدرجة التي تعزز نفوذ الأتراك بالدرجة التي تستفز الأوروبيين الذي غيروا لغتهم بهدف إيقاف اندفاع سلطة أردوغان.

الآن الصراع يحتدم في المتوسط، ولإثبات تموقعها الجديد بالمنطقة، أرسلت تركيا سفنًا للتنقيب عن الطاقة إلى جانب النوايا العسكرية والاقتصادية المتزايدة لأنقرة في ليبيا، فقد أدت تلك الاستفزازات إلى إطلاق النار بين السفن البحرية التابعة لتركيا، وفرنسا واليونان. في الأيام والأسابيع الأخيرة، عززت كل من تركيا واليونان وفرنسا وقبرص من وجودهما في المنطقة.

ووسط هذه التطورات حاولت بعض الأطراف الأوروبية التدخل للتهدئة على رأسها بلجيكا وألمانيا البلدين العضوين في الناتو والحليفين القويين لتركيا، لكن دون إخفاء الانحياز إلى اليونان بالنظر إلى التجاوزات التركية الواضحة في ما يخص المياه الإقليمية لأثينا. لكن الغائب الواضح هنا هي واشنطن التي تراقب التوترات من بعيد دون التعبير عن موقف واضح باستثناء ضغطها على تركيا أخيرا من أجل سحب سفينة التنقيب من المتوسط، وهنا يبدو الموقف الأمريكي على ضعفه أقرب إلى أنقرة منه إلى نظرائها الأوروبيين.

وقد لاقى الغياب الأمريكي في المتوسط وفي الأزمة بين تركيا واليونان استغرابا من مراكز البحث السياسية والعسكرية الداخلية التي ترى أن بلادها تفقد تدريجيا موقعها في مناطق هامة وحساسة من العالم.  ولعل التقارير التي خرجت عن المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي (JINSA) في الفترة الأخيرة دليل على التخوف من فقدان ذلك الدور، حيث دعا واشنطن  إلى إعادة تأكيد دورها السابق في تحقيق الاستقرار في المنطقة لمعالجة هذه الأزمات المنتشرة وحماية المصالح الأمريكية.

والحديث عن المعهد اليهودي هنا، يذهب بنا إلى كيان الاحتلال الاسرائيلي المدعوم بقوة من لوبيات الضغط الأمريكية، حيث يعتبر غياب الدور الأمريكي، إضعاف لموقع الاحتلال الذي لا يُنظر إليه بعين الرضى في أوروبا في ظل الخروقات المستمرة بحق الفلسطينيين. وطالب المعهد اليهودي بأن تعمل بلاده مع كل القوى في الشرق الأوسط وأوروبا لخلق ما سماه توازنا يمنع التجاوزات التركية.

الدعوات الأمريكية الداخلية طالبت بتحرك دبلوماسي سريع عبر مبعوث للمنطقة يراقب تطورات الأوضاع ويلعب دورا في الأزمة بين أنقرة وأثينا، وبين بقية الدول التي تشهد علاقتها معها توترا واضحا، كما يلعب دورا أيضا في الملف الداخلي الليبي الذي تشير التطورات الأخيرة إلى تغيرات في المشهد السياسي بعد استقالة حكومة عبد الله الثني وعزم السراج تخليه عن قيادة حكومة الوفاق نهاية أكتوبر.