لم يتوقّف عدّاد إحصاء ضحايا الهجرة غير الشرعية في العالم عن الدوران و إضافة أرقام جديدة لرفع حصيلة قرابين زوارق الموت، الحالمين بالوصول إلى " الجنّة الأوروبية" أو الراغبين في تحقيق " الحلم الأمريكي". أو أولئك الذين أخذتهم روح المغامرة إلى أقاصي العالم بحثا عن لقمة عيش أفضل. لكنّ محاولات صدّ هذا النوع من الهجرة و محاولات التقليص من أعداد الضحايا تبوء كلّها بالفشل لأنّ هناك عوامل عديدة تجعل ظاهرة الهجرة غير الشرعية وضعية مزمنة...

لا يبدي المتابعون لقضايا الهجرة السرّية أي تفاؤل بشأن الحصول على دواء ناجع يقضي على هذه الآفة و بالتالي الحد من مآسيها الاجتماعية الخطيرة. فكلّ الظروف السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية التي تبلغ في كثير من الدول مرحلة اليأس، تجعل أرقام الضحايا في ارتفاع مستمرّ، خاصة في البحر الأبيض المتوسط الذي أصبح يوصف بالمقبرة البحرية الجماعية.

المسؤولون في الدول الطاردة للمهاجرين غير الشرعيين أو المسؤولون في الدول المستقبلة لهذه الفئة من المهاجرين، متفقون على أن السنوات القادمة ستكون أكثر إيلاما، وأكثر قسوة في ما يتعلق الهجرة السرية، فحالة اليأس من تحسن الأوضاع المحلية تدفع بالكثير من الشباب إلى المغامرة بركوب قوارب الموت. كما أن تفاقم الأوضاع الامنية في عدد من الدول وحديث المراقبين عن اشتداد فتيل الأزمات في سنة 2015، سيعزز الهجرة السرية و سينتج أشكالا جديدة من جريمة تهريب البشر، حيث تسعى عصابات الجريمة المنظمة إلى استغلال غياب الدولة وفقدانها السيطرة على الحدود، وتطوير أنشطتها العابرة للحدود. لكن المراقبين يرون أن ازدياد منسوب تدفق المهاجرين غير الشرعيين يرتبط بظاهرة أخرى وهي الأكثر الخطورة على الأمن العالمي ونقصد بها الظاهرة الإرهابية العابرة للقارات. فمن بين المهاجرين غير الشرعيين يقع استقطاب المقاتلين و يقع تجنيدهم للعمليات الإرهابية التي يقع التخطيط لها في الغرف المظلمة. أسئلة تطرح حول خفايا ارتفاع حصيلة المهاجريين غير الشرعيين في السنوات الأخيرة، وعن المفقودين الذين لا يعرف لهم مكان، وعن الدوائر التي تقف خلف هذه التجارة المريبة.

صفارات إنذار

الأمم المتحدة أطلقت صفارات الإنذار بعد أن فاحت روائح الجثث من المتوسط، و أصبح الوضع غير محتمل في ظلّ تلاحق الأمواج البشرية التي تلقي بنفسها في عرض البحر، و استمرار تضييق حركة تنقل المهاجرين عبر أنحاء العالم بتكثيف الحواجز الأمنية و القانونية. المنظمة الدولية للهجرة أصدرت مؤخّرا تقريرا قالت فيه إن 75 في المائة من الضحايا الذين تم إحصاؤهم كان البحر متوسط مقبرتهم الأخيرة. و قالت المنظمة إنها سجلت، منذ مطلع العام الجاري، وفاة 4868 مهاجراً غير شرعي عبر العالم، بينهم 3072 قضوا في عرض البحر الأبيض المتوسط. و أوضحت إحصائيات المنظمة أن هذا العدد المهول من ضحايا الهجرة غير الشرعية، خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2014، حطم كل الأرقام القياسية السابقة. وأضافت أن حوالي 40000 مهاجر غير شرعي في العالم لقوا حتفهم منذ العام 2000، أثناء محاولتهم العبور إلى أوروبا أو الولايات المتحدة أو أستراليا، بينهم 22000 قضوا في عرض البحر الأبيض المتوسط إما غرقاً أو اختناقاً أو جوعاً أو برداً. وغير بعيد عن هذه الأرقام فقد أحصت السلطات الإيطالية أكثر من 110 آلاف، من المهاجرين غير الشرعيين الذين استطاعوا الوصول إلى الأراضي الإيطالية و هو رقم يمثل ثلاثة أضعاف ما وقع تسجيله في العام 2013. المنظمة الدولية للهجرة تقول أيضا إن الأرقام الحقيقية للضحايا تفوق بالنسبة إليها ضعفي الأرقام التي تصدرها، لأنّ على كلّ جثة يمكن التقاطها هناك جثتين قد فقدتا في البحر. المآسي التي تخلّفها رحلات الانتحار الإرادي في عرض المتوسط أو في المحيط الأطلسي أو في المحيط الهندي، تجعل ردود الأفعال تزداد قوة داخل منظمات المجتمع المدني الدولية المهتمة بقضية الهجرة السرّية ويجعل الأصوات ترتفع مطالبة بضرورة إيقاف نزيف الاتجار بالبشر، و الذي ينتعش ويزداد خطورة بسبب تفاقم الأوضاع الأمنية في عدد من دول حوض المتوسط.

مستقبل مرعب

هناك عدّة عوامل تتفاعل على أرض الواقع، تجعل ظاهرة الهجرة السرية تتفاقم مستقبلا رغم كل الظروف التي تحدثنا عنها سابقا. صحيفة الغارديان البريطانية تحّدثت عن هذا الموضوع بالقول " الإضرابات وعدم المساوة في الوطن العربي تحوّل البحر الأبيض المتوسط لبحر الموت، إثر إقبال الشباب العربي على الهجرة غير الشرعية كحل للهروب من معاناتهم في بلادهم. قول صائب لأن الأوضاع الأمنية المتمثلة في الاحتراب الداخلي و تزايد وتيرة العنف السياسي و انسداد الآفاق السياسية في كثير من الدول العربية تجعل الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية تزداد سوءا من سنة إلى أخرى. وهذا يدفع بفئات واسعة من سكان دول جنوب المتوسط إلى البحث عن سبل حياة أفضل في أماكن أخرى من العالم لا سيما في شمال المتوسط. المثال الحي الذي رصدناه على الأقل في سنة 2014 هو ارتفاع عدد ضحايا الهجرة السرّية من السوريين الذين يقصدون دول المغرب العربي مثل تونس و ليبيا و الجزائر من أجل الاقتراب أكثر من الدول الأوروبية. خفر السواحل التونسي استخرج في الأشهر الماضية أكثر من 40 جثة لنساء و أطفال و رجال يحملون جوازات سفر سورية قضوا في رحلة يائسة انطلقت بهم من السواحل الليبية. كما أحبطت السلطات الأمنية في تونس عشرات الرحلات السرية و كانت أعداد السوريين الذين وقع إلقاء القبض عليهم ملفتة للانتباه في الآونة الأخيرة. ما يثير الانتباه أيضا هي توسع شرائح الفئات التي تغامر بركوب قوارب الموت، فلم يعد الأمر حكرا على الشباب اليائس، بل إنّ النساء و الأطفال و الكهول باتوا يغمرون هم أيضا. وكم تمّ في الآونة الأخيرة إنقاذ نساء و أطفال من الهلاك المحتوم. المتغيّر الجديد في هذا المشهد هو أن عصابات تهريب البشر تحاول أن تجد منافذ جديدة نحو أوروبا، فلم تعد جزيرة صقلية هي المقصد الوحيد للشباب القادم من دول جنوب المتوسط، فجزيرة كريت في شرق المتوسط باتت لامبيدوزا ثانية يقصدها الفارّون من بؤر الصراع في الشرق الأوسط. ومادامت الأوضاع الأمنية و السياسية في بلدان مثل سويا و العراق تتجه إلى مزيد من التعقيد فإنّ ذلك ستكون نتيجته المزيد من المآسي الإنسانية التي سيشهدها المتوسط في الفترة القادمة. ثمة عامل آخر يجعل ملف الهجرة السرّية قابل للتضخم مستقبلا وهو يكمن في الانهيار الأمني و الانهيار شبه الكلي للدولة التقليدية وعجزها عن ضبط حدودها، وهو ما يمنح تجّار البشر أو المنتفعين من تنظيم حملات الهجرة غير الشرعية فرصا أكبر للانفلات من العقاب و يمنحهم الفرصة لترويج تجارتهم و جني الأرباح الضخمة.وتشير جمعيات مراقبة للهجرة إلى وجود عصابات منظمة يشترك فيها مهربون و عناصر أمنية توفر لهم الغطاء و الحصانة من التتبع القضائي، وهو ما يشجّع على استفحال ظاهرة الهجرة غير الشرعية. ففي مصر مثلا، أشار تقرير صادر عن المجلس القومي لحقوق الإنسان إلى زيادة عدد ضحايا الهجرة غير المنظمة من البلدان العربية خلال السنوات العشر الأخيرة بنسبة 300%، مما يمثل استنزافاً مستمراً للموارد البشرية لدول الجنوب. وفي ضوء تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ، يشير التقرير إلى وقوع الشباب في دائرة المحظور من خلال اللجوء إلى سماسرة السوق ومكاتب السفريات غير القانونية ووسطاء الهجرة الذين يتقاضون من كل شاب ما يقرب من 30 ألف جنيه للسفر. وتنتشر على الحدود مع ليبيا أو في بعض محافظات الصعيد عصابات للنصب على الشباب، وتتقاضى منهم مبالغ طائلة بدعوى توفير فرص عمل لهم فى إيطاليا أو أوروبا ثم يهربون بهذه الأموال دون أن يحاسبهم أحد، وتنتهي رحلة الشباب إما بالموت أو بالسجن والترحيل. في تونس احتجّت منظمات المجتمع المدني على عدم التعامل بجدية مع ملفات المفقودين في رحلات الهجرة غير الشرعية، و على الأحكام القضائية التي لا تبدو ردعية ضدّ المورطين في قضايا تهريب البشر. المحصّلة هي أن المراقبين يتوقّعون ارتفاعا قياسيا في أعداد المهاجرين غير الشرعيين في كلّ أنحاء العالم وخاصة في البحر المتوسط لأن عوامل الطّرد تزداد قوة، فلا شيء يجعل هؤلاء الشباب يتمسّك بأرضه.

تجارة جديدة

فضلا عن عوامل الطرد التي تجعل ظاهرة الهجرة غير الشرعية تتزايد في السنوات القادمة، هناك حوادث مستجدة، ستجعل الهجرة غير الشرعية أمر ترتعد منه فرائص الدول لأنه صار يرتبط بالظاهرة الإرهابية في العالم. النوع الجديد من الهجرة غير الشرعية يرتبط بتجارة جديدة تدر أرباحا كبيرة على عصابات الاتجار بالبشر التي تقوم بالدفع بآلاف الشباب إلى مواقع الصراعات و الحروب. هذه التجارة دفعت بأكثر من ثلاثة آلاف شاب تونسي إلى الالتحاق بطرق غير شرعية بمواقع النزاعات في كل من سوريا و العراق و ليبيا، كما دفعت نفس أساليب تهريب البشر أكثر من 150 شاب مغربي إلى الالتحاق بالجماعات المتشددة في كل من سوريا و العراق. المراقبون يتحدثون عن وجود ما لايقل عن 8 آلاف شاب من دول مغاربية و إفريقية استطاعوا الوصول إلى ليبيا و ساهموا في تأسيس جماعات إرهابية، تستعد لتصدير إرهابها نحو دول المنطقة. مجموعة 5+5 التي اجتمع وزراء دفاعها منذ أيام، في مدينة غرناطة الإسبانية، أقرت جملة من الإجراءات المتعلقة بمكافحة الهجرة غير الشرعية و الإرهاب. غازي الجريبي وزير الدفاع التونسي الذي ستترأس بلاده المجموعة في سنة 2015 قال في تصريحات إعلامية إنه يتعين التصدي للتهديدات، من قبيل الإرهاب وتجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية، في إطار "مقاربة شمولية" تتضمن تبادل المعلومات وآليات عملية أخرى.أما وزير الدفاع الإسباني فقال إن التحديات كبرى في مجال ضبط الأمن و السيطرة على الهجرة غير الشرعية في غرب المتوسط، وهو ما يتطلب تنسيقا أكبر في السنوات المقبلة بين ضفتي المتوسط. وزير دفاع إسبانيا، بيدرون مورينيس قال إن العمل سيركز على مجالين للتعاون، هما تكثيف تبادل المعلومات، والأنشطة المناهضة للجريمة السيبيرانية. التخوفات الأوروبية مما يحدث في جنوب المتوسط بات لها ما يبررها فالحديث عن مئات الإرهابيين الذين يخرجون من بريطانيا و فرنسا، تدفع السياسيين هناك إلى مزيد تشديد الإجراءات ضد المهاجرين و خاصة المهاجرين غير الشرعيين.