خلال سنوات سابقة، اختارت حركة النهضة التونسية عدة تكتيكات هجومية في مواجهة خصومها، كانت تصارع عناوين سياسية تلقي عليها فشلها في كل كارثة تحل بالبلاد، كل مرة تهاجم بطريقة، وأغلب أنصارها مسايرون لذلك في إطار ما يعتبرونه، حرب الوجود "المعششة" في أذهانهم على أساس أن البقية يريدون استئصالهم وإخراجهم من المشهد، دون أن يقدموا لذلك أي دلائل ملموسة، لكن النهضة تجد نفسها اليوم أمام خصم مختلف. مجموعات شبابية لا عنوان سياسيا لها، خرجت في درجات حرارة قياسية وفي وضع وبائي خطير لتقول للنهضة كما لبقية المشهد السياسي أن الخط الأحمر في الفشل تم تجاوزها ولم يعد هناك أي مجال للصمت.

أن يختار ألاف المتظاهرين في ولايات عدة في تونس، مقرات حركة النهضة بالذات للتظاهر أمامها والتعبير عن الغضب الشديد، فهي رسالة واضحة أن اللعب في الوقت الضائع لم يعد يجدي نفعا، وأن الحزب الإسلامي اليوم هو رأس حربة الأزمات في البلاد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وهو الذي يتحمل وزر السنوات العشر التي جلس فيها على كرسي الحكم، بكل ما في تلك السنوات من دماء وعجز اقتصادي وإرهاب وتوتر سياسي، رغم أن النهضة في كل أزمة تقفز إلى جملة "لسنا ولم نكن في الحكم"، فيما يعتبره كثيرون استبلاها خاصة لمريديها الذي لا أحد ينكر أنهم كثيرون رغم تراجعهم المستمر.

الحزب الذي كان يراهن على صبر الفقراء والصامتين والمغلوبين على أمرهم وعلى عقولهم، والمحاججة دائما بأنه حزب شعبي أمام بقية "صفريين" يريدون التشويش عليه، معتبرا أن الهجومات السابقة كانت من "أعداء الثورة" الموالين لأطراف خارجية، وهذه قاعدة أصبحت ثابتة للنهضاويين كلما ما اشتد عليهم الخناق وخاطبهم الشارع بالكثير من الاحتجاج، رغم أن النهضة قد تكون الأكثر ارتباطا بالخارج من كل بقية المشهد السياسي، بل بأكثر القوى الإقليمية والدولية تبنيا لعدم الاستقرار والفوضى في المنطقة العربية والعالم، لكن الذي فات الحزب الإسلامي أن من في واجهته اليوم هو الشعب، الشعب الذي نفذ صبره على السياسيين واختار أن يوجه سهامه مباشرة نحو المتسبب في كل ما يحصل.

222683260_566900311359381_4036682957010937486_n.jpg

اختار المتظاهرون يوم الـ25 من يوليو للخروج إلى الشوارع. في هذا التاريخ التونسي أكثر من رمزية، واحدة تاريخية احتفالية في علاقة بعيد الجمهورية الذي تقابل ذكراه الـ64، بكل ما يحمله من معان تتعلق ببناء الدولة والتحرر من الاستعمار وغيرها من المفاهيم الحديثة. والأخرى حزينة تعيد تونس إلى سبع سنوات خلت عندما تم اغتيال الناشط القومي محمد البراهمي من أمام منزله من طرف عناصر موالية لتنظيم "أنصار الشريعة" الإرهابي ولتفتح تونس بعدها على تونس على أزمات لا نهاية لها، سواء في علاقة بالإرهاب في حد ذاته، أو في التبعات السياسية لتلك الجريمة وغيرها على واقع البلاد.

اختيار التاريخ إذن ليس عفويا، ويبدو أن المشرفين على الاحتجاجات أو الداعين إليها لديهم الحدود الدنيا في الوعي السياسي والوعي أيضا بالمتسبب الرئيسي في أزمات البلاد، فكان توجههم أولا للبرلمان الذي أصبح اليوم مشهدا كاريكاتوريا وصورة للعنف السياسي، في ظل وجود أطراف شعبوية متشنجة العمل السياسي بالنسبة إليها أداة لتفريخ عقد داخلية وليس أداة للبناء وتحرير البلاد من الفوضى والتخلف والقبولة بسيرورة التاريخ.

بعدها تحولت الاحتجاجات إلى مقرات حزب النهضة في ولايات توزر والقيروان وسوسة وغيرها من المناطق، وعرض نشطاء على التواصل الاجتماعي مقاطع لحالة الغضب والتشنج التي عليها الشباب المحتج، الأمر الذي بلغ حد حق شعارات الحزب الإسلامي ومحتويات بعض المكاتب، واستهدف الغضب بعض منتسبي الحزب بحسب ما يقول أنصاره.

 وفي أول ردود الأفعال، أصدرت النهضة مساء اليوم الأحد بيانا يستنكر الهجمة على مقراتها من قبل المتظاهرين، متهمة مقتحمي مقراتها "بالمجرمين"داعية من سمتها "كل الأطراف السياسية والمنظمات وأنصار الديمقراطية ودولة القانون الى ادانة هذه الاعتداءات والتشديد على المتابعة القضائية لكل المتورطين".

وفي تعليق على المظاهرات يبدو أن بعض القيادات "النهضوية" فهمت أن الإشكال فيها وفي طريقة تسييرها للحكم وليس في خصومها الذين تشن حروبا إعلامية عليهم، وأن من يحتج اليوم هم مواطنون عاديون ليس شرطا أن تكون لهم ولاءات سياسية فقط الغضب على أوضاعهم وأوضاع البلاد جعلهم يخرجون إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم، حيث خرجت القيادية والنائب في البرلمان يمينة الزغلامي بتصريح وصف بالغريب حاولت تحميل المسؤولية للشعب الغاضب عندما قالت في تصريح إذاعي "رضينا بالهم والهم ما رضي بنا" وكأنها تعترف ضمنيا بضرورة أن يسيارهم المواطنون في أخطائهم المتكررة.


وتأتي احتجاجات التونسيين واستهداف مقرات حركة النهضة وسط أزمات اقتصادية وصحية واقتصادية كبيرة، ووسط اتهامات للحكومة التونسية بالفشل على كل المستويات وبخلق مشاكل جانبية مع رئاسة الجمهورية التي اختارت أن تتعامل بشكل منفرد مع تلك الأزمات سواء عبر الزيارات الميدانية المتكررة لبعض المناطق سواء عبر الاتصالات الخارجية لتوفير المعدات الطبية لمجابهة فيروس كورونا.