عانت ليبيا طويلا من شح المياه  وخطر الجفاف،  وهو خطر يتهدد مصير سكانها الذين يتمركزون بشكل أساسي في الشريط الساحلي.

ويعتمد الليبيون على مياه الأمطار التي لا تأتي إلا في مواسم محدودة وبمعدلات أقل بكثير من متوسط المعدلات العالمية فضلا عن المياه الجوفية التي يلاحقونها عن طريق الآبار التي كانت المصدر الأساسي للمياه حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي.

هذه الخصائص الطبيعية فاقمت من معاناة الليبيين حيث أثرت بصفة خاصة على الأنشطة الفلاحية إذ تقلصت مساحات الأراضي الزراعية،  فكان الاتجاه طبيعيا للبحث عن بدائل مناسبة لتوفير مياه الشرب والري والسقاية.

حينذاك،  بدأ التفكير فعليا في إيجاد بدائل لشح الموارد المائية حيث طُرحت بداية فكرة توريد المياه من أوروبا عبر ناقلات مماثلة لناقلات النفط،  وتحلية مياه البحر،  إلا أن هذه الاقتراحات التي كانت قيد الدراسة.

لكن تبيّن للمختصين في ليبيا أن المياه الجوفية متوفرة بكميات كبيرة في المناطق الجنوبية من البلاد ما جعلت الخيارات تنحصر بين مسارين إما أن تبنى المدن والمجمعات الحضرية حيث المياه أو أن يتم نقل المياه إلى الشمال حيث التركزات السكانية،  وهو أمر كان محل دراسة، إلا أن التحدي الحقيقي الذي طُرح يتمحور حول كيفية نقل كميات مياه تقدر بملايين الأمتار المكعبة يوميا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في رحلة تقاس مسافاتها بآلاف الكيلومترات.

من هنا تولّدت فكرة إنشاء النهر الصناعي العظيم، ففي 3 أكتوبر 1983 حيث تقرر في جلسة لمؤتمر الشعب العام تمويل المشروع  وفي 28 أغسطس 1984،  وضع الزعيم الراحل معمر القذافي حجر الأساس في منطقة السرير حيث أكبر حقول المياه التي تمثل منبع النهر.

ومع إعلان المشروع،  دُعيت شركات أجنبية من كوريا الجنوبية وتركيا وألمانيا واليابان والفلبين وبريطانيا للإسهام في التنفيذ. وفي أيلول عام 1993،  انتهت المرحلة الأولى بوصول المياه العذبة إلى بنغازي من الآبار الجوفية في الشرق،  ثم الثانية بوصولها إلى طرابلس من الآبار الجوفية في الغرب.

وبفضل النهر الصناعي العظيم،  الذي تكلف نحو 30 مليار دولار،  أصبحت ليبيا الآن من الدول الرائدة في العالم في الهندسة الهيدروليكية

 يتمثل المشروع أساسا في نقل المياه الصالحة للشرب والري والسقاية من باطن الأرض في أقصى الجنوب إلى الشمال عبر شبكة أنابيب ضخمة تصنع لأول مرة في ليبيا عن طريق مصنعين في البريقة والسرير وتمتد شبكة الأنابيب المدفونة تحت الأرض على طول 4000 كيلومتر تغطي معظم مناطق ليبيا.

يبلغ قطر كل أنبوب أربعة أمتار وطولها سبعة أمتار،  لتشكل في مجموعها نهراً صناعياً بطول يتجاوز في مراحله الأولى أربعة آلاف كيلو متر،  تمتد من حقول آبار واحات الكفرة والسرير في الجنوب الشرقي وحقول آبار حوض فزان وجبل الحساونة في الجنوب الغربي حتّى يصل جميع المدن التي يتجمع فيها السكان في الشمال.

تتجمع مياه فرع النهر القادم من واحات الكفرة والسرير عند وصولها إلى الشمال في خمس بحيرات صناعية معلّقة أقلها سعة أربعة ملايين متر مكعب،  وأكبرها سعة أربعة أضعاف هذا الحجم مملوءة بالمياه طوال العام.


** النهر الصناعي.. في دوامة الفوضى


في سياق متصل، لم يكن مشروع النهر الصناعي استثناء في سياق الفوضى و الخراب الذي تعيشه البلاد منذ أحداث 2011 حيث لم تنقطع الأخبار حول الاعتداءات المتكررة التي تستهدف المشرع حتى أمسى ورقة ضغط استعملتها عدّة أجسام تخريبية بالبلاد لتحقيق مآربها.

ففي ديسمبر 2017،  هددت مجموعة مسلحة  بنسف مولدات الكهرباء وتخريب الآبار إذا لم يجرِ وقف إمدادات المياه عن تلك المدن التي تسيطر عليها حكومة الوفاق،  مؤكدة أنّ المياه لن ترجع إلاّ إذا استجابت السلطات لطلب هؤلاء المسلحين بإطلاق سراح أحد قادتهم المعتقل لديها في طرابلس.

في أبريل 2018،  أكدت إدارة جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعي،  الاعتداء على 27 بئرا من آبار منظومة النهر الصناعي وإهدار 100 ألف لتر مكعب من المياه يوميا. 

وقالت الإدارة،  إن الاعتداءات المتكررة التي تتعرض لها حقول المياه وخطوط منظومة النهر الصناعي ومساراته بمختلف المواقع والاتجاهات،  تهدد بتوقف الإمداد المائي عن أكثر من مدينة،  إلى جانب الخسائر المادية الجسيمة التي تقدر بالملايين.

وفي مايو 2018،  أكدت إدارة المنطقة الجنوبية بمنظومة الحساونة سهل الجفارة بجهاز النهر الصناعي،  ارتفاع عدد الآبار التي تم تخريبها إلى 37 بئرا بالمنظومة. وأوضحت الإدارة أن هذه الآبار كانت من ضمن المستهدف لتركيب مضخات لها الفترة القادمة لتعاود الضخ مرة أخرى. وقالت الإدارة "إن هذه الاعتداءات تعد اعتداء صارخاً على مقدرات الشعب الليبي وتدميراً لمعادلة الحياة الطبيعية في ليبيا ووقف للإمداد المائي إلى أكثر من مدينة يتم إمدادها بالمياه عن طريق هذه الآبار التي تتعرض للانتهاك من قبل الخارجين عن القانون".

وفي يوليو 2018،  أعلن جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعي عن وقوع أكثر من 20 اعتداء على مواقع تابعة للمشروع على يد مخربين وإرهابيين. وأرجع رئيس لجنة الأزمة ببلدية طرابلس،  ناصر الكريو،  أسباب الاعتداءات الواقعة على جهاز النهر الصناعي على مختلف المسارات إلى غياب هيبة الدولة على مختلف المناطق الليبية. وبلغ مستوى العجز أكثر من 300 ألف متر مكعب يوميًا نتيجة السرقات عن طريق الوصلات غير الشرعية،  ما تسبب في انخفاض تدفق المياه،  وفق لجنة الأزمة.

أما في 7 يوليو من نفس السنة ، فقد لقي شخصان مصرعهما،  واختطف آخرون في هجوم شنه تنظيم داعش على حقل آبار المياه بموقع تازربو بجهاز النهر الصناعي الليبي. وسَطَت المجموعة الإرهابية على محتويات الموقع من سيارات وآليات،  قبل أن تقتل المهندس هشام محمود هاشم،  وحسين إبراهيم الزوي،  أحد أفراد كتيبة حماية الموقع.

فضلا عن اختطاف ثلاثة مهندسين فلبينيين وآخر كوري جنوبي من قبل مجموعة مسلحة اقتحمت موقع منظومة الحساونة بسهل الجفارة التابع للجهاز في 6 تموز/يوليو،  بحسب جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعي. والمخطوفون هم عناصر أساسية في حسن سير العمل في منشأة النهر حسب الجهاز. وقالت تقارير إعلامية إن المجموعة المسلحة اختطفت أيضا عدة عمال ليبيين في الهجوم الذي شنته،  لكنها أفرجت عنهم فيما بعد.

هذه الاعتداءات المتكررة خلقت أزمة عطش خانقة زادت في مأساة الليبيين مما اضطرهم للبحث عن بدائل، حيث بدأ سكان في أنحاء العاصمة الليبية طرابلس الحفر في الشوارع للوصول إلى الآبار في بحث يائس عن المياه بعد انقطاعها عبر الصنابير في تدن جديد لأحوالهم المعيشية.

في هذا الإطار،  فإن حوالي 80 في المائة من الليبيين يعتمدون على المياه العذبة التي تضخ عبر الأنابيب من خزانات جوفية في جنوب البلاد حيث تقع أيضا الحقول الغنية بالنفط في ليبيا. ويقول مسؤولون في هيئة المياه ودبلوماسيون إن المياه الجوفية في المناطق الساحلية مالحة وملوثة بمياه الصرف الصحي وإن نحو 80 في المائة من محطات التحلية تعطلت عن العمل.

وتؤكّد منظمة الأمم المتحدة للطفولة إن الأنابيب تزود ليبيا بأكثر من 70 في المائة من احتياجاتها من المياه العذبة ولا تزال شديدة الأهمية لأن من الصعب إصلاح محطات التحلية كما أنها عرضة للهجوم عليها. ويقوم البعض بفك رؤوس الآبار لبيع القطع النحاسية كما أن رجال قبائل يعيشون في الجنوب ويعانون من الإهمال يغلقون الأنابيب دعما لمطالبهم من المسؤولين في العاصمة أو يدمرونها.

 وقال عبد الله السني رئيس الهيئة العامة للمياه،  التي يوجد مقرها في طرابلس،  لرويترز في مقابلة إن 101 بئر من بين 479 بئرا في شبكة الأنابيب الغربية تعرضت للتفكيك. وسئل السني عما إذا كان من الممكن أن يصل الأمر إلى أزمة مياه فقال إن انقطاعات الكهرباء تهدد بالفعل الإمدادات.

وحسب المتحدث باسم اليونيسف،  مصطفى عمر،  فإن نحو أربعة ملايين شخص لن يصبح بإمكانهم الوصول للماء الصالح للشرب في حال عدم إيجاد حلول للمشاكل. ويحذر عمر من أن التهاب الكبد والكوليرا وأمراض الإسهال الأخرى قد تكون هي العاقبة.

يرى مراقبون أن  أزمة المياه تعتبر مثالًا قوياً على فشل الدولة في بلد كانت يوماً واحدة من أغنى بلدان الشرق الأوسط لكنها تعاني من اضطرابات منذ أحداث عام 2011.