يوما بعد أخر يتعاظم النفوذ الصيني في القارة الافريقية على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. هذا النفوذ كان طيلة العقد السابق مصدر قلق لدى القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة الامريكية التي كانت تريد أن تحل محل قوى الاستعمار القديم في القارة السمراء، فرنسا وبريطانيا، من خلال تعزيز تواجدها الاقتصادي والعسكري. غير أن الحضور الصيني قد وقف في وجه هذا المشروع مستفيدا من توتر علاقات واشنطن مع بعض الحكومات الافريقية.

في ذات السياق، نشر أليكس فيلدينج المحلل الاستخباراتي البارز والمتخصص في الشؤون الأفريقية بشركة "ماكس سيكورتي سلوشنز"، والتي تقدم استشارات بشأن المخاطر الجيوسياسية، ومقرها بالشرق الأوسط. مقالة في مجلية "ناشيونال انتريست" يحذر فيها من تحول الصين من مجرد مستثمر اقتصادي في القارة الافريقية الى متدخل في صناعة القرار السياسي في القارة.

يشير فيلدينج الى أنه:"عندما حققت جنوب السودان استقلالها عن الحكم الوحشي للرئيس السوداني عمر البشير عام 2011، ارتفعت الآمال مع تدفق الاستثمار والمساعدات الخارجية تحت قيادة أمريكا في الدولة الأحدث في العالم. إلا أنه منذ اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر 2013، لقى ما يقدر بـ50,000 شخص مصرعهم، ونزح ما يتجاوز 1,4 مليون شخص، وسيواجه 40 بالمئة من السكان مجاعة شديدة خلال الأشهر القليلة القادمة. فكيف ضلت جنوب السودان سبيلها؟"في يوليو 2013، عزل رئيس جنوب السودان سالفا كير، المنتمي إلى جماعة الدينكا العرقية، نائب الرئيس رياك مشار المنتمي إلى القبيلة الأصغر النوير، زاعما إنه كان يخطط للانقلاب على كير. انقسم الجيش سريعا بين بطول الخط الفاصل بين دينكا ونوير، مع هروب ماشار من العاصمة جوبا مع الجنود المنتمين لقبيلة نوير لبدء ثورة من المناطق الغنية بالنفط في ولايات أعالي النيل والوحدة وجونقلي حيث تتمركز قبيلة النوير.

يرى فيلدينج في المقالة التي ترجمها مشروع "راقب" أن "تلك الانقسامات بين الدينكا والنوبر لها تاريخ طويل يعود إلى ما قبل استقلال جنوب السودان. ففي عام 1991، انشق مشار عن النضال المسلح للحركة الشعبية لتحرير السودان التي تشكلت ضد الدولة السودانية، وقاد في أعقاب ذلك ميليشيا نوير لقتل المئات من أعضاء جماعة الدينكا في مذحبة "بور" سيئة السمعة. وبينما عاد مشار إلى ثنايا الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2002 بعد الاعتذار عن دوره في مذبحة "بور"، استمرت المظالم التاريخية، وغياب الثقة، والانقسامات القبلية.تقدم متمردو جماعة نوير نحو حقول البترول ذات الأهمية الاستراتيجية في ولايتي أعالي النيل والوحدة منذ 15 مايو، بعد الانشقاق عن الصفوف الحكومية في ولاية أعالي النيل التابعة عرقيا للجنرال الشلكي جونسون أولوني. ومع امتداد طبيعة ذلك الصراع وتسليح الجماعات العرقية لنفسها للدفاع عن أراضيها أمام العنف، يزداد خطر "بلقنة" جنوب السودان، لتتحول إلى جيوب عرقية".

و يضيف:"بينما قد تشعل الانقسامات العرقية والشخصية الحرب الأهلية، تساهم المصالح الإقليمية المتشعبة والمتباينة بين الرئيس الأوغندي يوويري موسيفيني والرئيس السوداني عمر البشير في تأجيج القتال. فقبل استقلال جنوب السودان، قدم موسيفيني دعما مكثفا لكير وللحركة الشعبية للتحرير في نضالها المسلح من أجل الاستقلال عن السودان بين عامي 1983 و2005. فاستجاب الرئيس البشير عبر دعم متمردي جيش الرب الأوغندي، مع تنافس الدولتين على النفوذ الإقليمي. أصبحت أوغندا الآن شريكا تجاريا رئيسيا مع جنوب السودان، مع عمل آلاف الأوغنديين وإدارتهم لأعمال في جنوب السودان. وبالتالي يتمتع موسيفيني بعدد من الأسباب التاريخية والسياسية والاقتصادية للإبقاء على الرئيس كير في السلطة، حسبما يثبت الوجود المستمر للقوات الأوغندية والدعم الجوي الحاسم لقوات كير المحاصرة.

أما عن جنوب السودان فيقول فيلدينج : "وعلى الجانب الآخر، تم اتهام السودان بتقديم أسلحة إلى متمردي نوير والسماح لهم باستخدام أراضيها لشن هجمات عابرة للحدود. في مايو 2014، وجد محققو مشروع "مسح الأسلحة الصغيرة" خراطيش ذخيرة ذات أصل سوداني حديث تم استخدامها من قبل المتمردين في بانتيو، عاصمة ولاية الوحدة. وفي ضوء عداء البشير الشخصي مع الرئيس كير، بالإضافة إلى مصلحة الخرطوم في إجهاض قيام سودان جنوبية متحدة قوية وغنية بالنفط ومتحالفة مع عدوة الخرطوم الإقليمية أوغندا، ستستفيد السودان من دعمها لقوات المتمردين. وذلك صحيح بشكل خاص في حال سيطر المتمردون على حقول النفط في ولايتي أعالي النيل والوحدة، حيث يتم تصدير النفط عبر خطوط الأنابيب في السودان."

 

ثم تدخل الصين، عبر استثمارات مكثفة في مجالات النفط والبنية التحتية في جنوب السودان، وتاريخ من شحنات التسليح لقوات الرئيس كير، بالإضافة إلى سيطرة سياسية واقتصادية متزايدة على السودان وأوغندا ولاعبين إقليميين آخرين، فقد رسخت الصين نوع التأثير الجيوسياسي الذي سيصعب على الولايات المتحدة مضاهاته. تمثل جنوب السودان 5 بالمئة من واردات الصين من النفط الخام وتحمل شركة البترول الوطنية المملوكة للحكومة الصينية 40 بالمئة من الأسهم في ثلاث من أكبر حقول النفط في جنوب السودان. علاوة على ذلك، عززت الصين بهدوء مساعداتها الإنسانية، متعهدة بتقديم ما تزيد قيمته عن 21 مليون دولار من الإغاثة العاجلة في أكتوبر 2014.كذلك أزالت جنوب السودان العوائق أمام الموقف الصيني العلني بصدد عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ولأول مرة في التاريخ، أرسلت الصين وحدات واسعة النطاق من القوات المقاتلة للانضمام لمهمة الأمم المتحدة في جنوب السودان، بالإضافة إلى تبني دور وسيط رفيع المستوى في النزاع، على نحو غير معهود. وبينما تتمتع الصين بمصلحة خاصة في تحقيق الاستقرار طويل الأمد حتى تستعيد صادراتها النفطية، فإنها تدرك حدودها في التوصل لحل لتلك الحرب الأهلية الراسخة، القائمة على أسس عرقية، خصوصا في ضوء أن نفط جنوب السودان يمثل جزءا صغيرا من واردات الصين."

و يختم فيلدينج  مقالته بالإشارة الى أن :"الصين تلعب لعبة طويلة في جنوب السودان وأفريقيا بشكل عام. فبينما تجاهل الغرب الفرص الاقتصادية المحتملة للقارة على مدى عقود، ملأت الصين ذلك الفراغ، مبادلة استثمارها من رأس المال والخبرة بالسيطرة طويلة الأمد على النفط والأراضي والموارد الطبيعية الأفريقية. فلديها وسائلها الخاصة لتصبح صاحبة النفوذ الأكبر في أفريقيا دون منازع، ويعكس النزاع الممتد في جنوب السودان حدود النفوذ الصيني الهادف لتعزيز الاستقرار. كما أنه في ضوء التوقع بأن القرن الحادي والعشرين سيكون "القرن الأفريقي" من حيث النمو الاقتصادي، وضعت الصين نفسها في وضع استراتيجي لتجني الثمار".