كان يقف بشكل شبه يومي على ناصية الشارع المحاذية لبيت محبوبته.. لعله يظفر بنظرة إليها.. كان ذلك دأبه وهو يراقبها عند الخروج وعند الإقفال وهي راجعة من المدرسة فهو قد أصر على ألا يترك سانحة من الزمن إلا وقد ظفر بالنظر إليها.. لم يفوت حتى مواسم الشتاء حيث يظل المطر ينهمرعليه وهو ملتصق بجدار ناصية الشارع.. ظل على هذا الحال سنوات ولم يحادثها ببنت شفة فظل يكتفي بالنظر إليها.. حاول في العديد من المرات أن يدس لها خطاباً ولكن لم يقدر على ذلك.. لا يدري تماماً هل هو خوف من أن تصده أو ماذا؟!.. في أحد الأيام حاول خطبتها وذهب إلى والدها كما هي العادة في بلادنا ولكن جهوده باءت بالفشل.. والدها تصدى له.. لا يدري لماذا؟!.. حاول أن يعاود الكرة ولكن كل جهوده ذهبت أدراج الرياح.. كانت فتاته تنبض بالحياة والحيوية عندما شاهدها لأول مرة.. كانت تتمخطر في مشيتها وكأنها تسير فوق الماء.. مرت السنون تلو السنون ولم تفارق صورتها مخيلته.. كان يشعر بأنها التصقت في جدار الذاكرة إلى الأبد.. ذات يوم شاهدها وكان كل شيء قد تغير.. لم تعد تلك الحيوية تنبض منها.. لقد انطفأ ذلك البريق من على سحنتها.. تجعد فيها كل شيء حتى ذلك الوجه الصبوح تحول إلى أخاديد وتلك النظرة المتكسرة وكأن الزمن قد خطى بقلمه مأساة كبرى.. لقد تحقق لديه شعور بأن الزمن مجرد لحظة سرعان ما تنقض لتذهب بكل شيء كان على حاله.. كان يشعر بأن الزمن والزوال سيان.. التغير يكون من سنن الحياة.. فلا شيء يبقى على حاله.. لكن الزمن كان يختلس منا كل شيء ولا نحس إلا بالنهاية وهي تزحف نحونا.. كان يلحظ والده وهو يعاني سكرات الموت.. أحس بجوفه ينقبض وأن الحياة مجرد لحظة.. كان يشعر بأن ذلك الموقف بعيد عنه.. ولكنه كان أقرب إلى حبل الوريد.. لم يخطر بباله أن تأتي عليه تلك الساعة!! فالزمن لحظة وجود وعدم معاً.. كان يذكر وهو صغير بأن الزمن خارج عن الدائرة.. لقد كان ينتظر قدوم عيد المولد النبوي بفارغ الصبر.. كان ذلك اليوم يوماً مميزاً في تاريخ طفولتنا.. لقد كنا نعد له العدة في تصنيع القناديل.. وما أن تأتي تلك الليلة حتى نطوف بتلك القناديل شوارع مدينة (بنغازي).. كنا نصاحب الأطفال وننشد:

        هذا قنديل وقنديل             يشعل في ظلمات الليل

        هذا قنديلك يا حواء           نواره يشعل من توا

      هذا قنديل الرسول            فاطمة جابت رسول

وما أن تنقض تلك الليلة حتى نشعر بالفراغ يتسرع إلى أنفسنا ونحس بالعدم قد غلف أيامنا الباقية حتى نعيد الكرة من جديد بعد عام.. بعد ذلك لم يحس بالمولد إلا عند رؤيته لمحبوبته عندما فارقته هنيهة من الوقت.. لاحظ أن الحياة تشرق من جديد وأن لقاءه بها هو يوم عيد.و أن تلك اللحظة كانت أشراقة وجود من عدم ..   

عند لقائه بها لأول مرة شعر بأن الحياة انبعثت من جديد ، شعر بأنه خرج  من الفراغ إلى الملأ، وشعر أيضاً أنه قد انبعث من العدم إلى الوجود .

 لكن   الزمن  زحف نحوه  ليحمله الأرزاء ، لم يعد يتذوق طعماً للحياة، لقد صعدت المرارة نحو حلقه ، لم يعد يشعر بطعم أي شيء ، حتى أحلامه تحولت إلى كوابيس  تسبح في عالم المجهول.

 في أحد الأيام خطرت له فكرة أن يعيد ذلك التاريخ  بأن يمسك بتلابيب الماضي ليعيد تلك اللحظة من شبابه الذي انضوى، لكن كل جهوده باءت بالفشل الذريع لم يعد شيئاً على إعادة الماضي لقد سبح كل شيء على دائرة العدم، فالوجود شرطه ذات أخرى ، لقد ذهب أصدقاؤه عنه ، لم يعد له رفيق في هذه الحياة سوى تلك المرأة   التي ظلت قابعة في المطبخ لا يحمل لها سوى شؤون البيت وطهو الطعام، أنها تتحرك فى دائرة المطبخ و كأن وجودها تلك الدائرة المغلقة حولها فهى لا تنفك عن الحركة و كأن المكان قدرلها فى ان تكون  لعلها   هي الأخرى تحاول ان تطرد العدم من حولها وهى تشغل أمرها بشئون البيت فى كل لحظة  لا شك أن وجودنا مرهون بالغير، فإذا ما ارتفع الغير ظللنا  في دوامة العدم، تصور بأن  العدم لا يعيد الحياة ثانية، وإن المكان ظل كما هو نتحرك فيه لكن ما تغير هو ذلك الإحساس بالوجود في تلك اللحظة  التي كان يعيشها ، تساءل في نفسه : هل الوجود سابق للعدم أم العدم سابق للوجود؟!!عندما لأول مرة رأى محبوبته تأكد لديه أن العدم سابق للوجود لقد أحس أنه فى دائرة العدم قبل أن يرى ذلك الوجه الذى أشرق الحياة فى روحه ..تلك اللحظة كانت وجود ..و حياة ثانية تشرق عليه ..تلك الأشراقية أحس بوجوده هناك ..أنه المولد الجديد..

شعر بأن وجوده قد سبق العدم، فالعدم يزحف نحونا ونحن أناس واقفون في انتظار العدم حتى يحملنا بعيداً عن دنيانا ، انتابه شعور بأن الحياة هي مجرد مولد سرعان ما ينتقض ، أراد أن يهرب من كل شيء ،غطس رأسه تحت اللحاف وسعى إلى نوم عميق ؟!!.