في 17 فبراير من العام 2011، دخلت ليبيا في مرحلة جديدة أخرجتها من طور الأمن والإستقرار لتلقى بها في غياهب الفوضى.وتدخلت قوات الناتو مدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا لإسقاط نظام العقيد الراحل معمر القذافي واغتيال الاستقرار والأمن في هذا البلد العربي الغني بموارد الطاقة النفط والغاز. وعقب رحيل الزعيم الليبي، تخلى الغرب عن ليبيا تاركاً فراغاً أمنياً، سمح بانتشار الجماعات المتطرفة التي تمكنت من السطو على مخازن السلاح التابعة للجيش الليبي، كما سيطرت على مدن بأكملها وفرضت على السكان قوانينها ورؤيتها المتطرفة.

وطيلة السنوات التي أعقبت اندلاع الأزمة في البلاد، أصرت الميليشيات المختلفة على التمترس فى العاصمة الليبية طرابلس، حيث دخلت في صراعات متواصلة على النفوذ والسيطرة في غياب جيش أو شرطة نظاميين وفي ظل عجز حكومي متواصل عن وضع حد لسيطرة المسلحين وفرض سلطة القانون.ورغم وصول حكومة الوفاق الوطني، برئاسة فايز السراج، الى العاصمة الليبية في 30 مارس 2016، وفي جعبتها تأييد دولي واسع، لم تستطع حل أزمات البلاد الأمنية حيث فشلت في احتواء المليشيات المسلحة المنتشرة خاصة في العاصمة بل سارعت الى شرعنتها والاعتماد عليها لطرد مناوئيها.

وكان السبب الرئيسي لتمترس المليشيات في العاصمة طرابلس كونها مركز القرار، لا السياسي والدبلوماسي فحسب، وإنما المالي والاقتصادي بالأساس، حيث أن الحرب كانت في جانب أكبر منها منذ العام 2011 حرب غنائم في بلد غني بأرصدته واستثماراته وثرواته النفطية.وهذه الغنائم التي تثير أطماع الداخل والخارج، صنعت طبقة من أمراء الحرب المحتكمين على مليارات الدولارات، والمسيطرين على مفاصل السلطة في طرابلس، يتدخلون في التوظيفات والتعيينات، ويتحكمون في مآلات ومسارات الصفقات الكبرى، يهيمنون على الاعتمادات، ويحددون أسعار الصرف في السوق الموازية، ويديرون استثمارات ضخمة في دول عدة.

سطوة المليشيات ونفوذها الكبير بدت واضحة أكثر حين قامت في 10 أكتوبر 2013 بخطف علي زيدان رئيس الوزراء من مقر إقامته ليلا وبملابس النوم. وخطفوا بعد ذلك نوري بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني في 25 مارس 2014. وكان هذان الحدثان يمثلان أكبر دليل على أن الدولة كانت مجرد كيان ورقي لا حول له ولا قوة أمام تغول المليشيات التي كانت تمارس أنشطتها الاجرامية دون رادع.

اذا يمكن القول بأن الحكومات التي تعاقبت على العاصمة طرابلس كانت تدار عبر المليشيات التي كانت تستعملها لاستنزاف الأموال.ومؤخرا، كشف رئيس الحكومة السابق علي زيدان، في تصريحات اعلامية ملف تمويل مليشيات الدروع المتطرفة التي تحولت لاحقاً إلى أنصار شريعة وداعش وغيرها من التنظيمات، حيث أكد زيدان بأنه وجدها أمامه وقد شكلتها حكومة عبدالرحيم الكيب وشرعنتها رئاسة أركان يوسف المنقوش وبأنه تعامل معها كواقع موجود أمامه عند توليه الحكومة. 

ونوه إلى أن مبلغ 900 مليون أو ما يعرف بقضية تمويل الدروع يتحمل مسؤوليتها رئيس المؤتمر السابق نوري أبوسهمين لكونه هو من أصدر رسالة تخولهم بالحصول على المبلغ، مؤكداً بأنه رفض تسييلها مالم يكن بإجراء صحيح لأنه كان خارج بند الميزانية وعندها تعرض مدير المصرف للتهديد بالقتل، فيما توجه عناصر الدروع إلى وكيل وزارة المالية امراجع غيث ووضعوا قاذف آر بي جي فوق رأسه وخيروه بين الصرف والقتل، وبعد تهديد وترهيب وإجراءات قانونية (صورياً) تحصلت الدروع على هذا المبلغ الذي ناهز مليار دينار وقال :"في ذلك الوقت من يستطيع تحدي هؤلاء؟"

كما دافع زيدان عن نفسه من تهمة الفساد والهدر بتأكيده على أن كل ما صرفه لم يتجاوز 33 مليار دينار منها 25 مليار دينار على بند المرتبات ومن بينها مرتبات المليشيات، التي قال بأنها كانت تتقاضى الأموال على أنها ( جيش وشرطة ) بعد أن شرعنتها الحكومات السابقة والمجلس الوطني الإنتقالي.وأكد أنه حاول قدر المستطاع التعامل مع هذه المليشيات مالياً وفق القانون وختم قائلاً في هذا الصدد :"كنّا نعمل مابوسعنا لتجنب سفك الدماء والحروب ونتحرك وفق القانون ، لا أحد يستطيع التصدي لهؤلاء، المجلس الرئاسي اليوم لديه سلطة مطلقة ، فهل يستطيع التصدي لهم ؟ طبعاً لا".

تصريحات زيدان تلقي الضوء على بداية تغول المليشيات بالاعتماد على الحكومات الضعيفة التي كانت تشرعنها وتفتح لها خزائن اأموال الليبية فيما الشعب الليبي كان يعاني من أزمات معيشية كبيرة حيث غلاء الأسعار والتضخم وانحدار العملة المحلية بشكل غير مسبوق، وغياب السيولة وانهيار الخدمات كالغاز والكهرباء والتموين والصحة والتعليم ونظافة المحيط، إضافة إلى اتساع دائرة الجريمة وارتفاع منسوب النهب والسلب والاختطاف والحرابة والإفلات من العقاب.

تشير أغلب التقارير أن أرقام الفساد المالي في البلاد منذ أزمة 2011 وصلت درجة قياسية فبعض الإحصائيات تشير إلى أن مئات المليارات بين 2012 و2016 صرفت دون معرفة المسالك التي مرت عليها ولا الجهات التي وصلتها لكن الكثيرين يؤكدون أنها كانت تتجه للمليشيات، واعتبر مراقبون اقتصاديون أن ميزانية العام 2012 التي كانت في حدود 71 مليار دولار، باطلة لعدم اعتمادها على أي أساس فني أو مالي.

المليشيات المسلحة التي كانت تتقاضى عشرات المليارات بحجة حاجتها للمال لتأمين البلاد كانت تقوم بعمليات السطو على المصارف الليبية، حيث تعرض أكثر من مصرف لعملية اقتحام وسرقة أمواله، مثل تعرّض شاحنة نقل الأموال التابعة للبنك المركزي في سرت سنة 2013 إلى عملية سطو من طرف مجموعة مسلحة وسرقة مبلغ يناهز 55 مليون دولار وهي حادثة اعتبرها مسؤولون ليبيون كارثة حقيقية.

كما تعرّض مصرف شمال إفريقيا في سرت أيضا سنة 2014 إلى عملية اقتحام وسرقة مبالغ قدّرت بحوالي مليوني دينار ليبي. وفي نفس الفترة تعرض مصرف وادي الشاطئ غرب البلاد إلى عملية سطو أفرغت خلالها خزانته بالكامل بعد طرد موظفيه وزبائنه من طرف مسلحي.

الثروة النفطية بدورها تعرضت ومنذ 2011، إلى شتى أنواع الإستنزاف وذلك في ظل وقوعها بين براثن الميليشيات، التي إستغلت الأزمة الدائرة في البلاد وغياب السلطة لتحكم سيطرتها على الموانئ النفطية وتعمل فيها الفساد.ومثلت حقول النفط الكبرى في ليبيا الهدف الأساسيّ للمسلّحين الساعين إلى السيطرة على القرار السياسيّ والاقتصاديّ، واحتكار عائدات الثروة بمعزل عن المؤسّسات الرسميّة للدولة.وأدى سقوط الموانئ النفطية الليبية فى أيدى الميليشيات إلى خسائر كبيرة ساهمت فى تردى الأوضاع الإقتصادية في بلد تمثل العائدات النفطية العماد الرئيسي للاقتصاد.

ومن أبرز المليشيات التي استنزفت النفط الليبي مليشيات ابراهيم الجضران التي وصف رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله في حوار مع فضائية "الان"، في أغسطس 2017، فترة سيطرتها على الموانئ النفطية بانها فترة اختطاف ارهابي وان ما قامت به تلك المليشيات لا يقل عما قامت به اي مليشيا ارهابية مشيرا إلى ان طرد هذه المليشيات من الموانئ النفطية كان تحريرا لها.

ورغم وصول حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج وبداية عملها، إلا أنها لم تستطع كبح جماح الميليشيات، بل سارعت إلى شرعنة بعضها والإعتماد عليها.وظل كل شيئ يدار عبر أمراء الحرب كالعادة، ففي ما يخص الاعتمادات، تعرضت لجنة خبراء منظمة الأمم المتحدة في شهر مارس 2018، لتهديدات ميليشياوية مباشرة بعد أن تم تسريب تقرير، من 160 صفحة، يكشف عن عمليات فساد ونهب واسعة لأموال عامة، عبر عمليات مصرفية وهمية لصالح بعض قادة ميليشيات تسيطر على مصارف في طرابلس.

حيث كشف التقرير عن عمليات مصرفية غير قانونية تخص 10 شركات تعمل لصالح جماعات مسلحة موجودة في منطقة تاجوراء في العاصمة حصلت على اعتمادات مستندية من مصرف الجمهورية والمصرف الليبي الخارجي بقيمة مليار دوﻻر لكل منهما حتى فبراير من العام 2016، وفي مايو 2018 كشفت تسريبات عن قائمة تضم شركات مملوكة لأمراء الميليشيات في العاصمة طرابلس جرى منحها اعتمادات مالية بقيمة 65 مليون دولار.

وأكدت هذه التسريبات ما ورد في بحث لمركز "سمال آرمز سيرفي" للدراسات، أكد أن الوضع السياسي والاقتصادي في ليبيا، بات في قبضة تحالف لميليشيات العاصمة أطلق علىه البحث اسم "كارتل طرابلس"، بدعم من حكومة الوفاق ومجلسها الرئاسي.وحسب المركز، فإن "كارتل طرابلس" أصبحت شبكة إجرامية تضم ميليشيات أهمها ما يعرف باسم "قوة الردع الخاصة" بقيادة عبد الرؤوف كارة، و"كتيبة ثوار طرابلس" بقيادة هيثم التاجوري، و"كتيبة أبوسليم" التي يتزعمها "اغنيوة"، بالإضافة إلى "كتيبة النواصي" بزعامة على قدور.

وأشار التقرير إلى أن المليشيات في العاصمة طرابلس تطورت إلى شبكات إجرامية مرتبطة ببعض القادة السياسيين ورجال الأعمال وشاغلي الوظائف الإدارية الرئيسية، مبينا أنها تمثل عقبة أمام المسار السياسي وتشكيل حكومة في البلاد. وأكد مراقبون أن سيطرة المليشيات على العاصمة تسبب في حدوث خلل في عمل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق غير المعتمدة بقيادة فايز السراج، حيث أنها (العاصمة) تحت سيطرة سلاح غير شرعي.

وقالت مؤسسة "سمال آرمز سيرفي" إن هذه المليشيات استطاعت "خرق بيروقراطية الدولة ومؤسساتها"، مضيفة أن "حكومة السراج شرعنت هذه المليشيات ودفعت لها الرواتب من أجل شراء الولاءات".وكشفت الدراسة عن وجود مسؤولين في الحكومات المتعاقبة بعد أحداث 2011 دفعوا رواتب لهذه المليشيات، وعلى رأسهم وزير الدفاع الاسبق أسامة الجويلي، وعضو الجماعة الاسلامية الليبية المقاتلة الصديق الغيثي، ووزير الداخلية الاسبق فوزي عبد العال، وعضو جماعة الإخوان عمر الخضراوي.

وأضافت الدراسة أن المليشيات التي سيطرت على العاصمة الليبية حظيت بدعم بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا وبعض الحكومات الغربية، مشيرة إلى أن هناك غيابا واضحا لدور الأمم المتحدة في وضع خطة فعلىة لتأمين طرابلس.وتابعت: "البنوك في طرابلس تدفع الأموال للمليشيات لتأمينها، كما أن أفرادها يتستخدمون القوة المفرطة وخطفوا مدراء البنوك ليتحصلوا على الاعتمادات المالية".

وفي أبريل 2018، كشفت دراسة للمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن الدولي عن سيطرة الميليشيات على قرارات المجلس الرئاسي.وتقول الدراسة، إن الميليشيات تحولت من جماعات مسلحة إلى "مافيا منظمة" تمتلك شبكات تؤثر في الاقتصاد والأعمال والسياسة والإدارة في العاصمة وهذا ما جعل الاقتصاد الليبي والأموال الليبية تصب في مصلحة فئة صغيرة جدًا ودائرة أصغر من أي فترة مضت منذ أحداث فبراير 2011.

وقالت الدراسة، "إن الميليشيات التي تتحكم في العاصمة طرابلس اتجهت إلى الاعتمادات المستندية الصادرة عن المصرف المركزي؛ لكي تسيطر على سوق العملة في طرابلس، فقامت وما زالت بالاستحواذ على الاعتمادات المصرفية بسعر الدولار الرسمي بحجة استيراد البضائع لتقوم بتوريد بضائع أقل مما اتفق علىه أو عدم توريد أي بضائع ومن ثم تحتفظ بالعملة الأجنبية لتضخها في السوق السوداء لتكون سببًا في انهيار الدينار أمام العملات الأجنبية وبالتإلى تجني ملايين الدولارات لصالحها.

والميليشيات الأربعة الأهم هم كتيبة ثوار طرابلس بقيادة هيثم التاجوري وكتيبة النواصي بقيادة عائلة قدور وقوة الردع الخاصة بقيادة عبد الرؤوف كارة ووحدة أبو سليم التابعة لجهاز الأمن المركزي بقيادة عبدالغني الككلي".وبحسب الدراسة، أصبحت حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي مجرد واجهة لتلك الميليشيات التي تحكم العاصمة بالفعل.

يد المليشيات طالت أيضا المؤسسة الليبية للاستثمار، وهي عبارة عن صندوق الثروة السيادية المودعة أمواله بالخارج، وذلك من خلال التعيينات التي تفرض بالقوّة، وفقا لما كشفه تقرير أممي حول ليبيا، شهر سبتمبر 2018.وأوضح فريق الخبراء المعني بليبيا في الأمم المتحدة، وجود انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان واختلاسات مالية ضخمة، وذلك بسبب تزايد تأثير المجموعات المسلحة على مؤسسات الدولة الليبية في إطار سعيها إلى تعزيز مصالحها المالية ونفوذها.

وكشف التقرير، عن تدخل "كتيبة النواصي" في أنشطة المؤسسة الليبية للاستثمار، التي أجبرت على تعيين أحد مرشحي الكتيبة في المؤسسة، بينما فرضت كتيبة "ثوار طرابلس" نقل مقر المؤسسة إلى مناطق نفوذها وبالتحديد بالمدينة السياحية بالعاصمة طرابلس، بعدما كانت تسيّر من مقرها ببرج طرابلس الواقع تحت سيطرة "كتيبة النواصي".

حكومة الوفاق الليبية في طرابلس بقيادة فايز السراج، لم تتوانى في اغداق الأموال على المليشيات والمحاسيب والمقربين، دفاعاً عن المناصب التي حازها أعضاء الحكومة المزعومة، متجاهلين كم الفساد الذي استشرى في مؤسساتهم لدرجة لم يعد من الممكن السيطرة عليها.تكشفت هذه الحقائق بشكل سافر منذ إطلاق الجيش الوطني الليبي عملية "طوفان الكرامة" لتطهير العاصمة من المليشيات الإجرامية والجماعات الإرهابية في 4 أبريل/نيسان الماضي.

ففي أواخر أبريل الماضي، أكد رئيس لجنة السيولة في مصرف ليبيا المركزي/ البيضاء، رمزي آغا، أن معلومات من مصادر مطلعة أفادت بوجود نقص حاد في رصيد السيولة النقدية لدى المصرف المركزي في طرابلس؛وأرجع آغا في منشور له على صفحته بموقع فيسبوك السبب في نقص السيولة إلى أعطيات المجلس الرئاسي لمسؤولي الميليشيات وتسخير جل السيولة لهم.وبين أن اتصالات جرت مع شركة "ديلا رو" الإنجليزية بخصوص إرسال شحنات سريعة تقدر بمليار دينار من فئة 10 دنانير قبل حلول شهر رمضان، والشركة اعتذرت لعدم قدرتها على تنفيذ طلب المركزي.

وكشف آغا عن اتصالات جرت بين رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج، ومحافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، مع سفير المملكة المتحدة لدى ليبيا، فرانك بيكر، طالبًا منه التدخل السريع والضغط علي الشركة لتحقيق ذلك الطلب.وأفاد بأن مجموعة مسلحة، جميع أفرادها ملثمون يستقلون سيارات لا تحمل إشعارات، حضرت إلى إدارة الإصدار بمقر مصرف ليبيا المركزي بطريق الشط واستلموا 45 مليون دينار نقدًا.

وقبل ذلك أعلن رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج تخصيص مبلغ ملياري دينار ليبي (1.4 مليار دولار أمريكي) لدعم المليشيات لقتال الجيش الوطني الليبي في العاصمة طرابلس.ووجه مدير مكتب السراج، يوسف المبروك، خطابين إلى كل من مدير مكتب رئيس ديوان المحاسبة ومدير مكتب محافظ مصرف ليبيا المركزي ومدير مكتب شؤون الوزارة بوزارة المالية، بتخصيص 484 مليون دينار "لتغطية الاحتياجات الضرورية بسبب الاحتياجات الاستثنائية نتيجة الأحداث الجارية.

ويتهم السراج بالسيطرة على المؤسسات المالية الليبية وتوظيف مقدراتها لخدمة الميليشيات.حيث قام (السراج)، في فبراير الماضي، بصفته رئيس مجلس أمناء المؤسسة الليبية للإستثمار بتعيين القياديين في جماعة الإخوان المسلمين، مصطفى المانع، عضوًا بمجلس إدارة مؤسسة الاستثمار (الصندوق السيادي لثروة ليبيا)، ويوسف المبروك، نائبًا لرئيس مجلس إدارة المؤسسة، بصلاحيات مدير عام وهو ما أثار جدلا واسعا في ليبيا حيث نددت به أطراف ليبية كثيرة.

وجاء هذا التعيين ضمن ما اعتبر تمكين السراج لجماعة الإخوان في مفاصل الدولة الليبية ، عبر تعيينهم في المناصب العليا. فالجهاز المالي الليبي، يعاني من وقوعه تحت سيطرة أفراد من جماعة الإخوان. ويعتبر المصرف المركزي بطرابلس، على رأس هذه المؤسسات الخاضعة للإخوان، إذ ينتمي كل أعضاء ما يعرف بالهيئة المركزية للرقابة الشرعية بالمصرف للجماعة، فيما يترأس اللجنة المعنية بمراجعة العمليات المصرفية والتأكد من مطابقتها للشريعة، حمزة أبوفارس، الذي أٌدرج على قوائم الإرهاب الموضوعة بمعرفة دول الرباعي العربي ، على خلفية علاقته بقطر والتنظيمات الإرهابية.

ويتهم الكثيرون المصرف المركزي في طرابلس، بإهدار أموال الليبيين وتسليمها للمليشيات الإرهابية، مستشهدين بتقرير ديوان المحاسبة في مايو 2018 الذي فضح جميع المتلاعبين بقوت الليبيين.كما سبق أن اتهم السفير البريطاني السابق في ليبيا بيتر مليت، في وقت سابق محافظ المصرف المركزي في طرابلس الصديق الكبير، بدعم الإرهاب وإذكاء الحرب الأهلية عن طريق تخصيص الأموال الضخمة لأفراد المليشيات المسلحة. وقال مليت: "في ليبيا يكفي أن يشعر الشاب بالملل ليترك كل شيء ويحمل السلاح، بعد أن ينضم لإحدى المجموعات المسلحة ليتحصل على راتب جيد موقّع من الصديق الكبير محافظ مصرف ليبيا المركزي دون أن يقدّم أي عمل مفيد".

ففي 2016 سرب عدد من النشطاء الليبيين الاعلاميين في العاصمة الليبية طرابلس وثيقة مرتب لإحد أشهر قادة المليشيات التي تحتل المدينة ,وتؤكد الوثيقة أن المدعو "عبدالغني بلقاسم خليفة الككلي" الشهير بالشيخ "غنيوة" يحمل رتبة مدير أول بمديرية أمن طرابلس.وتؤكد الوثيقة وهي لحساب شخصي بمصرف الجمهورية حي دمشق أن المدعو "غنيوة" يتقاضى صافي مرتب شهري يصل الى 31.877.806 دينار.

وفي الوقت الذي يشكو فيه حكّام المدينة من قلة الدعم الخارجي، يقومون بدفع راتب 44 ألف دولار لمسؤول أكثر الميليشيات دموية في المدينة، بدلًا من دفع تلك الأموال لإصلاح محطات الكهرباء، مما يثبت أن حكومة الوفاق التي يرأسها السراج ما هي إلّا واجهة لتلك الميليشيات المسلحة، التي تفرض سطوتها على المدنيين بقوة السلاح، وتختطفهم.

وفي الوقت الذي يعيش فيه المواطن الليبي منذ العام 2011 أوضاعا معيشية صعبة في ظل نقص السيولة وغلاء الأسعار، ينتشر قادة المليشيات في الشوارع الرئيسية في طرابلس بسيارات فاخرة وأموال كثيرة تحصلوا عليها عن طريق إجبار السلطات على توظيفهم ومنحهم أموالاً رخيصة يمكنهم تغييرها في السوق السوداء للحصول على علاوة أو عن طريق نهب البنوك أو التهريب أو عمليات الاختطاف.وبات أمراء الحرب في ليبيا في ظرف وجيز من الأغنياء ولعل أبرز هؤلاء:

عبدالحكيم بلحاج، أمير الجماعة الليبية المقاتلة التابعة لتنظيم "القاعدة"، الذي تحول في ظرف وجيز بعد خروجه من السجن الى واحد من أكبر أثرياء ليبيا، وأصبح يمتلك عدة شركات أهمّها شركة طيران، إضافة إلى قناة النبأ التي توصف في ليبيا بأنها "قناة الفتنة"، لتخصصها في تلميع صورة الجماعات الإرهابية والميليشيات المسلحة المتطرفة، مقابل تشويه عمليات الجيش الليبي لمكافحة الإرهاب.

ويواجه بلحاج اتهامات مباشرة من الجيش الليبي، بسرقة كميات كبيرة من الذهب والاستيلاء على أموال طائلة من المصارف الليبية عقب سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي. وقد أكد الجيش الليبي أنه "يملك أدلة تثبت إيداعه مليارات الدولارات في المصارف التركية".ويقيم عبدالحكيم بلحاج منذ مدة في تركيا ويدير إمبراطورية مالية بدعم تركي قطري.وفي يناير 2019، أصدر مكتب النائب العام الليبي، مذكرة اعتقال لعشرات المشتبه في شنهم هجمات مسلحة، من بينهم 6 من قادة الميليشيات، أبرزهم عبد الحكيم بلحاج.

هيثم التاجوري، أحد أبرز قادة المليشيات المسلحة التي اقتتلت خلال السنوات الماضية مع مليشيات أخرى حول النفوذ.وهو متعدد الولاءات لا يملك أيدولوجية فكرية محددة.كان يعمل سائق سيارة أجرة قبل اندلاع الأزمة في العام 2011، وسرعان ما تحصل على ثروة مهمة عن طريق إبتزازه لقيادات ورجال أعمال محسوبين على النظام السابق مقابل تهريبهم ثم بدأ شيئاً فشيئاً يغري أفراد المسلحين بالمال والسيارات إلى أن أصبح آمر "كتيبة ثوار طرابلس".

يمتلك التاجوري حاليا ثروة طائلة من بينها فندقان سياحيان في إيطاليا وإستثمارات عقارية في إسبانيا وتشير مصادر غربية الى أن ثروته تتجاوز 600 مليون دولار أمريكي.وتداول نشطاء التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للتاجوري، في أبريل الماضي خلال مشاركته في المعارك الدائرة بضواحي العاصمة طرابلس ضد الجيش الوطنى الليبى.وأثارت الملابس التي ظهر بها جدلا واسعا حيث أشار كثيرون الى ثمنها الباهض فيما الشعب الليبي يعيش في أتون أزمة اقتصادية خانقة.

ابراهيم الجضران تحوّل لمدة خمس سنوات الى أحد أثرياء ليبيا، من خلال تجارة النّفط في السّوق السوداء (قضية الباخرة مورنينج جلوري الشهيرة)، ومظاهر البذخ الظاهرة في نمط حياته من خلال قصوره التي اكتشفها الليبيون بعد خسارته لمواقعه العسكرية في الهلال النفطي ومن خلال صوره الشخصية المسربة وكذلك من خلال الوثائق والأرشيف ومن خلال الامكانيات العسكرية واللوجستية الكبيرة التي كانت تحت سيطرته، حيث قدّر هو نفسه عدد قواته ب11 ألف مجنّد.

في شهر ديسمبر من العام الماضي نشرت صحيفة الغاردين البريطانية من العاصمة طرابلس عن حال المدينة وسلوك المليشيات. كان التقرير يكفي لكشف ما ترتكبه من جرائم بحق الدولة.حيث أكد التقرير أن حالة من الفوضى والفساد تهيمن على العاصمة الليبية طرابلس، حيث تحكم الشوارع عصابات من الجماعات المتطرفة، وأمراء الحرب الذين تحولوا إلى طغاة يروعون الشعب.

وكشف التقرير أن أمراء الحرب في طرابلس مدرجون في كشوف مرتبات الدولة، بذريعة بسيطة وهي أن المسلحين يهددون المصرفيين بالخطف أو ما هو أسوأ، كما أسفرت ضغوط مماثلة عن قيام الحكومة بتسليم حافظة الاستخبارات والمراقبة بالغة الأهمية إلى مليشيا متطرفة.وأوضح أن الليبيين، يعانون من نقص البنزين والكهرباء ومياه الشرب والأوراق النقدية في بلادهم الغنية، باحتياطيات أجنبية تبلغ 63.81 مليار دولار، وإنتاج مزدهر للنفط، حيث لا يسمح سوى لعدد قليل من البنوك -التي تسيطر عليها المليشيات- بتوزيع النقود، والليبيون يصطفون في طوابير طويلة تمتد كيلومترات من أجل جمعها.

مثل التقرير وغيره من التقارير السابقة شهادات ميدانية على حالة الفوضى والرضوخ للمليشيات الإرهابية، التي استباحت خلال السنوات الماضية البلاد والعباد.صراع المليشيات من أجل المال والنفوذ لم يهدأ طيلة سنوات لكن مع هجوم الجيش الليبي على العاصمة سارعت هذه المليشيات للتحالف فيما بينها، ويبدو هذا مفهوم باعتبار أن مصيرهم ووجودهم مقترنان بحالة الفوضى وفرض الأمر الواقع على المسؤولين في الدولة.

تسعى المليشيات المسلحة لبقاء حالة الفوضى ومنع اعادة مؤسسات الدولة حيث تمثل هذه البيئة مجالا خصبا لأنشطتها التي تبدأ من التجارة غير الشرعية إلى الخطف على الهوية إلى استعباد المهاجرين والمتاجرة بهم، إلى التحكم في عمليات صرف الأموال من البنوك وقرارات المؤسسات السيادية وحتى ساعات وصول التيار الكهربائي وطرح الأحمال بالقوة.وتمثل كل هذه الأنشطة مصدرا لثراء المليشيات ما يجعلها تستميت من أجل الابقاء على حالة الفوضى.

ويخدم استمرار الصراع في ليبيا جماعات مسلحة متهمة بـ"قضايا خطيرة، مثل القتل الجماعي والخطف والتعذيب وتهريب الأموال وأرشيف المخابرات الليبية السابق، وتجارة المخدرات".ناهيك عن التحالفات التي تجمع المليشيات الليبية بالعصابات الأجنبية ومن أبرزها المعارضة التشادية التي هددت دولة تشاد طيلة السنوات الماضية، وحركة المسلحين في دارفور والتي ترتبط معها بمصالح تصب في خانة نهب ثروات ليبيا.

من جهة أخرى، يخدم بقاء الوضع فوضويا في ليبيا أطرافا دولية، دعمت المليشيات المسلحة، أبرزها تركيا التي ترسل باستمرار شحنات أسلحة إلى موانئ غرب ليبيا، وتستفيد تركيا من الأموال الليبية التي يحولها قادة المليشيات الى بنوكها كما تمثل هذه العناصر بوابة أنقرة لنهب ثروات ليبيا خاصة في ظل تعثرها الاقتصادي، وهو ما يجعل أردوغان يستميت لدعم المتطرفين في ليبيا أملا في بقاء الفوضى.

فى أول تحرك حقيقى لسد الفراغ الأمنى وإنهاء حالة عدم الاستقرار فى ليبيا أطلق المشير خليفة حفتر عملية الكرامة لمحاربة الإرهابيين والمتطرفين فى ليبيا وانهاء حالة الفوضى واسترجاع سلطة الدولة.ومنذ العام 2014 تتالت انتصارات الجيش الليبي شرقا وجنوبا ونجح في تحرير العديد من المدن الليبية ليصل مؤخرا الى العاصمة طرابلس التي يشن عليها هجوما منذ الرابع من أبريل/نيسان الماضي لانهاء نفوذ المليشيات المسلحة.

ويبدو أن الفترة المقبلة ستكون مليئة بالتطورات في العاصمة الليبية طرابلس، فالجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر يؤكد ان ساعة الحسم قد دقت وأن نهاية الميليشيات قد حانت، فيما تؤكد التقارير الواردة من ليبيا أن الكتائب المسلحة المتحالفة مع رئيس حكومة الوفاق فائز السراج بدأت بالانهيار، معلنة انشقاقها عنه والتحاقها بالجيش الليبي. وهو ما يؤشر فعلا على اقتراب ساعة الحسم العسكري والانطلاق في مرحلة انتقالية مبنية على المفاوضات السياسية لبناء مؤسسات دستورية تلبي تطلعات الشعب الليبي الذي يعاني الامرين منذ اسقاط الناتو للدولة سنة 2011.