يعتبر الملف الإجتماعي من أهم الملفات التي تواجه تونس وسلطاتها الجديدة خلال المرحلة القادمة ، وكان إضراب العاملين في قطاع النقل بالعاصمة خلال اليومين الماضيين إنذارا من قبل النقابات التي تدافع عن حقوق منظوريها في ظل تراجع المقدرة الشرائية للمواطنين أمام الغلاء الفاحش للأسعار وإتساع دائرة التضخّم والتراجع الكبير للعملة المحلية مقابل تجميد الأجور ،
وفي بيان له بمناسبة الذكرى الرابعة للثورة قال الإتحاد العام التونسي للشغل ، كبرى المنظمات النقابية في البلاد ، أنه و« رغم النجاحات المسجلة على المستوى السياسى فان معاناة الشغالين وعموم الشعب على المستوى الاجتماعى لا تزال مستمرة بل ان أوضاعهم ازدادت تعقيدا بسبب استمرار نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية ونفس سياسات الاجور والاسعار التى أفضت الى مزيد تفقير الفقراء وتدهور مقدرتهم الشرائية واهتراء ظروفهم المعيشية » مشيرا الى « الفترة السابقة لم تعرف أى اجراءات ذات قيمة لعلاج هذه المشاكل الاجتماعية وتجاوزها وتحسين معيشة عموم التونسيين وهو ما يستدعى أن تتحمل الحكومة المنتخبة مسؤوليتها فى ايجاد برنامج اجتماعى جدى يقضى على الفقر والتمييز والاقصاء وينصف الشغالين بناة الوطن»
وكان الإتحاد العام التونسي للشغل الذي ينضوي تحت رايته ما لا يقلّ عن 800 الف منخرط من عمال وموظفي القطاعين العام والخاص ، قد رفض ترحيل ملف الترفيع في الأجور الى الحكومة المقبلة والتي من المنتظر ان تتولى مهامها نهاية شهر فبراير 2015، في حين تؤكد المؤشرات الأولية أن على الحكومة توفير نحو 500 مليون دينار ( حوالي 220 مليون دولار أمريكي ) للترفيع في أجور موظفي القطاع العام خلال العام الجاري ، ومن المنتظر ان تكون الزيادات في حدود 6 بالمائة وهي زيادات تعتبر حسب اتحاد الشغل مجرد ترميم للأجور المتأثرة بالارتفاع الجنوني للأسعار. وستشمل هذه الزيادات نحو 650 ألف موظف.
إنطلاق المفاوضات الإجتماعية
وسبق لقيادات الاتحاد العام التونسي للشغل ان هدّدت بالتصعيد والدخول في اضراب عام في حال رفضت حكومة مهدي جمعة فتح المفاوضات وترحيل الملف الى الحكومة المقبلة، و تمسك الاتحاد بضرورة تمكين الموظفين من زيادة الاجور والرواتب بداية من العام المنقضي 2014 لتعويض التدهور الحاصل في المقدرة الشرائية واستمرار ارتفاع الاسعار وتواصل ارتفاع نسبة التضخم المالي
إلا أن حكومة جمعة رفضت بشدة الدخول في المفاوضات ودعت الى تأجيلها الى حين تسليم السلطة الى الحكومة المنتخبة قبل أن يعلن عبد الكريم جراد الأمين العام المساعد بالاتحاد العام التونسي للشغل أنّ الحكومة وافقت مبدئيا على فتح ملف المفاوضات الاجتماعية وتمكين موظفي القطاع العمومي من زيادات في الأجور بعنوان سنة 2014، مضيفا أنه من المنتظر ان يتم الشروع في المفاوضات الاجتماعية للوظيفة العمومية والقطاع العام في يناير الجاري 2015.
ويرى المراقبون أن بوادر حلحلة جاءت بعد إجتماع ثلاثي إنعقد يوم 29 ديسمبر الماضي بين كل من رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر، ورئيس الحكومة المهدي جمعة، والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي، تناول مضمونه آفاق المفاوضات الاجتماعية و زيادة الأجور في قطاع الوظيفة العمومية.
و أوضح رئيس البرلمان محمد الناصر ( المعروف بعلاقاته الجيدة مع النقابات منذ كان وزيرا للشؤون اإجتماعية في سبعينيات القرن الماضي إضافة الى وظائفه في منظمة العمل الدولية ) أنّ الظرف الحالي يقتضي ضرورة التهدئة، والأخذ بعين الاعتبار لظروف المعيشة، مشيرا إلى أنّ جميع الأطراف لها رغبة مشتركة في إعادة الأمل للتونسيين ومواصلة الحوار، وطمأنة الناشطين في الوظيفة العمومية على رواتبهم، لافتا إلى أنّ الزيادة في الأجور قد أصبحت أمرا بديهيا لا بدّ منه.
من جهته، شدّد مهدي جمعة على أنّ ''التحديات'' بجميع أشكالها تحتاج للتوافق السياسي مع الأخذ بعين الاعتبار للتوازن الاجتماعي في حين أكد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباّسي أنّه وقع الاتفاق على انطلاق جولة جديدة من المفاوضات الاجتماعية بين الاتحاد العام التونسي للشغل ورئاسة الحكومة، موضحا في الشأن ذاته ضرورة إنهاء الحكومة الحالية للملف الاجتماعي في إطار صلاحياتها، مشدّدا على أنّه من غير المعقول الشروع في التفاوض حول المسألة مع حكومة جديدة في طور تركيزها كما كانت تدعو إلى ذلك الحكومة الحالية..
تحديات عدة أمام الحكومة القادمة
وينتظر أن تواجه الحكومة القادمة رهانات وتحديات عدة في ما يخص المفاوضات الإجتماعية خصوصا وأن الملفّ سيكون في إنتظارها حال تسلمها مقاليد السلطة متضمنا مطاب الزيادات في الأجور وإعداد قانون المالية التكميلي والعمل على إنقاذ صناديق الخدمة الإجتماعية والضغط على الأسعار وإعادة النظر في القوانين الضريبية
رفي هذا الإطار طالب الاتحاد العام التونسي للشغل نواب مجلس نواب الشعب ( البرلمان ) بفتح نقاش جدي مع المنظمة الشغيلة حول اعداد مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2015، وتقدم لهم قسم الدراسات والتوثيق في الإتحاد بمذكرة تتضمن جملة من التوصيات والملاحظات تتصل بمشروع قانون المالية للعام 2015 من أهمها برمجة زيادة فى الاجور لامتصاص تدهور القدرة الشرائية. والنظر فى الفرضيات التى تأسست عليها موارد ونفقات الدولة وتعميم الاعفاء الضريبى على المداخيل فى حدود 5 الاف دينار لكل المطالبين بالضريبة على الدخل مهما كان مستوى مداخليهم.
ودعا الاتحاد الى تجنب الاختلالات المسجلة باحتساب الضريبة على الاشخاص الذى يقترب دخلهم من 5 الاف دينار سنويا مع تحديد الحد الاقصى للاعفاءات بعنوان الاعباء المهنية فى حدود 5 الاف دينار وعدم ربطه بنسبة معينة من رقم المعاملات المصرح به ،مؤكدا على ضرورة مراجعة شرائح الضريبة على الدخل وتحيين نسب الضريبة حفاظا على مبدأي المساواة والانصاف خصوصا بالنسبة للمطالبين بالضريبة على الدخل والذين يصعب عليهم التهرب وهم الاجراء أساسا.
كما أعلن تمسكه بوجوب ايقاف العمل بخصم نسبة 1 بالمائة على الاجور التى تفوق 20 الف دينار بعنوان المساهمة فى صندوق الدعم حاثا الحكومة القادمة على الحرص على استخلاص المتخلدات الجمركية والجبائية المقدرة بحوالى 9 مليارات دينار لدى عديد المؤسسات والافراد بعنوان خطايا وتهرب جبائي.و أوصى بالعمل على الحد من الامتيازات الجبائية واعادة النظر فى المنظومة الجبائية بما يتماشى وأهداف اصلاح جبائى حقيقى ومكافحة الاقتصاد الموازى واقتصاد التهريب.
وتتمثل أبرز الملاحظات التى أدرجها قسم الدراسات ضمن محورين أساسيين فى هذه المذكرة حول مشروع قانون المالية لسنة 2015 فى غياب رسائل الطمأنة للمستثمرين والمجتمع وفى ميزانية تقشف فاقدة لنظرة تنموية اضافة الى التأثر المفرط بمفهوم التوازن التقليدى للمالية العمومية
دور سياسي بارز
يعتبرالاتحاد العام التونسي للشغل القوة الإجتماعية الأبرز في تونس منذ تأسيسه على يد الزعيم الراحل فرحات حشاد في 20 يناير 1946، والى جانب حضوره الإجتماعي المؤثر تبقى له قوته السياسية الفاعلة في المشهد التونسي ، حيث كان له دور منهم في تحرير البلاد من الإستعمار الفرنسي ، وقاد مواجهات شعبية مع نظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ، وساهم بدور حاسم في الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي ، وعرف عن الإتحاد أنه على الدوام مغرّدا خارج سرب الأنظمة الحاكمة في البلاد وحاضنا للتيارات المعارضة وخاصة اليسارية منها ،
وخلال حكم الترويكا تعرّض الإتحاد العام التونسي للشغل الى محاولات إختراق من قبل الإسلاميين الذين عملوا على بعث نقابة موازية ، كما تعرّض لهجومات على مقرّه الرئيسي وبعض مقراته الجهوية والمحلية من قبل روابط حماية الثورة وأنصار حركة النهضة في أوائل ديسمبر 2012 تلتها تهديدات مباشرة تلقاها أمينة العام وعدد من القيادات
وكان واضحا أن الإسلاميين أدركوا أنهم لن ينجحوا في وضع اليد على الدولة والمجتمع طالما أن الإتحاد قوي وقادر على تجنيد مئات الالاف من أنصاره ومنخرطيه ، وقد تأكد ذلك عندما نظمت النقابات إضرابين عامين شلّا الحركة في البلاد الأول بعد إغتيال شكري بلعيد في 6 فبراير 2013 والثاني في 25 يوليو من العام ذاته
وكان للأتحاد العام التونسي للشغل دور واضح في الإطاحة بحكم الترويكا من خلال قيادته للحوار الوطني الذي قاد المسارات الثلاثة : الدستتوري والحكومي والإنتخابي ، ونجح في حل حكومة علي العريض وتشكيل حكومة الكفاءات المستقلة وتحديد مواعيد الإنتخابات وتحقيق التوافق على الفصول الخلافية في الدستور
ويرفض الإتحد العام التونسي للشغل المشاركة في أي تشكيل حكومي ،وهو ما أكده أمينه العام حسين العباسي الذي قال أن الإتحاد يرفض أن يكون جزءا من الحكومة ، غير أن الرئيس الباجي قائد السبسي دعا الرباعي الراعي للحوار الى مواصلة عمله كإطار إستشاري يساهم في تجاوز الخلافات وحلحلة القضايا العالقة .