يقف أحد الساهرين على تنظيم «المقهى السياسي»، في بهو المقهى وهو يلقي نظرة أخيرة على طريقة تنظيم الطاولات، الذي اعتمده لجلب متابعين لبرنامج حزبه الانتخابي، فيما كان يسترق النظر يمنة ويسرة للوقوف على مدى اهتمام الوافدين على المقهى بالخطوة الدعائية التي أقدم عليها للاقتراب من الناخبين وإطلاعهم على برنامجه الانتخابي الذي يقول عنه إنه «طموح وواقعي». وأسر في أذن أحد الفضوليين ممن قدموا على المقهى السياسي على وجه الخطأ، أن بإمكانه احتساء قهوة وشرب قارورة ماء معدني وأي مشروبات أخرى على حساب منظمي «المقهى السياسي».
واتخذ أحد المصورين ركنا من أركان المقهى وعدل آلة التصوير في مكانها وبقي ينتظر توافد الحاضرين، إلا أن الأمر طال بعض الشيء، فاتصل برئيس الحملة الانتخابية للاستفسار، فأمره بإخلاء المقهى في الحال والتوجه إلى مقهى آخر مجاور يقع في منطقة شعبية، فاتضح أنه أخطأ المكان. وفي لحظات زمنية محدودة كانت كل الأجهزة قد فككت وتوجه الجميع محملين بوعودهم الانتخابية نحو المكان الجديد، ورجعت الحالة إلى ما كانت عليه قبل دخولهم هذا «المقهى» الذي لم تعرفه تونس من قبل.
هذا المثال للمقاهي السياسية التي انتشرت في تونس خلال الحملة الانتخابية الحالية، أصبح بمثابة الظاهرة التي تتكرر في أكثر من منطقة وحي سكني في كامل الجمهورية التونسية، وعدها خبراء في علم الاجتماع «محاولة ذكية للاقتراب من كل الطبقات الاجتماعية»، فالمقاهي التونسية تجمع داخلها كل الفئات من العاطلين عن العمل وصغار الموظفين والطلبة المهتمين بالسياسة والسياسيين.. ولذلك قد تكون بديلا منطقيا لحالة العزوف عن الشأن السياسي التي طبعت تونس بعد جولات الجدل السياسي الذي بلغ حد التصادم بين الفرقاء السياسيين.
ولكن عامة التونسيين يرونها محاولات يائسة لاستمالة الناخبين أياما قلائل قبل موعد الانتخابات المقررة ليوم الأحد المقبل، ومن ثم الاختفاء من جديد في معامع السياسة وتناسي الوعود الانتخابية التي قطعها السياسيون على أنفسهم. وتبدي الطبقات الاجتماعية الفقيرة تبرما من السياسيين وتنكر عليهم نِعم الثورة التي أوصلتهم إلى مواقع القرار، وتطالبهم بتحقيق الأهداف التي وعدوا بها الفقراء منهم، خاصة على مستوى التنمية والتشغيل، وتشكك في نوايا السياسيين وقدرتهم على تقديم حلول للوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، وتربط بين تلك المقاهي السياسية وظاهرة «البروباغندا» المكشوفة والدعاية الانتخابية الزائفة والتخفي وراء الإشهار السياسي للون سياسي دون غيره لحصد أكبر نصيب من مقاعد البرلمان لا غير.
وبالنظر إلى الكم الهائل من الوعود الانتخابية التي رفعت من سقف الأحلام، فإن فئات كثيرة تعتقد أنها «برامج بيضاء» سيكون مصيرها بعد الانتهاء من الانتخابات والإعلان عن نتائجها النهائية، رفوف النسيان وخزائن التجاهل.
وفي هذا الشأن، انتقد المولدي الحزامي (سائق سيارة أجرة) مظاهر «السفسطة اللغوية»، وقال إن الناخب لا يثق كثيرا في تلك الوعود، وإن معظم المرشحين للانتخابات البرلمانية يعيدون على المسامع الأسطوانات نفسها، في حين أن التونسي العادي، ومن خلال عشرات التونسيين الذين يرافقونه في رحلاته اليومية داخل سيارة التاكسي، يشعر بألم حاد في حياته اليومية نتيجة غلاء المعيشة وتدني قدرته الشرائية، ووقوفه اليومي على تواصل بطالة أحد أبنائه الحاصلين على شهادات جامعية منذ سنوات.
ويرى الحزامي أن نظرة الناخبين التونسيين لن تتغير تجاه الطبقة السياسية الحالية لمجرد تنظيم مقهى سياسي، على حد تعبيره، بل إن دعائم الثقة في علاقة السياسي بالمواطن العادي هي المطالبة بالتغير وهذا يتطلب وقتا طويلا.
وتلقي المصاعب الاقتصادية التي تعيشها تونس بظلالها على علاقات القيادات السياسية الحالية مع الناخبين، ولا تهتم عدة فئات اجتماعية بالوعود السياسية، ولكنها تنتظر برامج واقعية تفك شفرات البطالة وتعيد الابتسامة إلى وجوه العاطلين عن العمل.. لذلك يقول مكرم (شاب تونسي عمره 33 سنة) إن الديمقراطية التونسية الناشئة في حاجة إلى عنصر المصداقية في التعامل مع مختلف الفئات الاجتماعية.
ويضيف أن المقاهي السياسية تمكنت من التعرف على وجهات نظر مختلفة في تشخيص الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ولكن هذا لا يكفي لأن السنوات الثلاث الماضية كشفت عن قصور في تعامل الطبقة السياسية مع التونسيين، «فهي إما مشكلة من سياسيين جدد تنقصهم الخبرة والحنكة السياسية وقلة التجربة، وهم بذلك لا يمتلكون حلولا جذرية لعدد من المشكلات المزمنة، وإما مكونة من سياسيين متمرسين وهم من رموز النظام السابق المطاح بهم ولا يحظون بالتالي بثقة التونسيين. وفي كلتا الحالتين، فإن الناخب التونسي يجد مشقة في الوثوق بهما خوفا من وهن فقدان الخبرة السياسية من ناحية، أو الخوف من عودة أساليب الحكم المطاح به من ناحية ثانية».
ويفسر لجوء السياسيين إلى المقاهي السياسية بدل عقد الاجتماعات الشعبية الصاخبة أو الالتزام بالدعاية السياسية في الأماكن والفضاءات المخصصة للحملة الانتخابية، بتراجع منسوب الثقة في السياسيين، وهذا الأمر انطبع على الحملة الانتخابية الحالية التي شهدت برودا غير مسبوق في شوارع المدن التونسية وتحولت إلى منابر أخرى غير الشارع.
وتشهد على هذا الأمر مئات معلقات البرامج واللوائح الانتخابية التي نزعها غاضبون من أماكنها بعد فترة قليلة من إلصاقها. كما أن فئات شابة لا تعلن عن أنفسها أعادت طلاء الأماكن المخصصة للحملة الانتخابية بعد نزع اللافتات الدعائية.
ويسود شبه يقين بين عدة فئات اجتماعية تونسية، خاصة من الشباب، أن الثورة التونسية قد سرقت منهم، وأن شعارات «الخبز والعدالة والكرامة» التي رفعت إبان أيام لثورة لم يتحقق منها إلا النزر القليل، وأنها ما زالت بعيدة كل البعد عن التحقيق، ويتهمون الطبقة السياسية بفتح أبواب السلطة والثروة لفائدتها وتناسي الفئات الفقيرة والمهمشة.

 

 

*نقلا عن الشرق الاوسط