لم يعرف المسرح التونسي الهيكلة الرسميّة والإداريةإلاّ مع بداية ستينات القرن الماضي، على إثر خطاب الزعيم الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية، دعا فيه إلىالاهتمام بالمسرح اهتماما خاصا ، كانت أولى لبنات انتظام المسرح التونسي بإلحاق المدارس الابتدائية والثانويةبالحراك الثقافي و المسرحي، إذ أحدثت هذه المبادرة حركيّةواسعة ومثّلتالنواة الأولى الأساسية في الإبداع المسرحي المتطوّر تأسست على إثرها الفرقالجهوية المحترفة في مختلف المدن التونسية، لعلّ أهمها فرقة الكاف بإدارة الفنان المنصف السويسي وفرقةقفصة مع محمد رجاء فرحات والفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري ورؤوف بن عمر وفرحاتيامون و جليلة بكار.

ثم بدأ القطاع الخاص يتبلور بعد التجربة الناجحة للفرق الجهويّة فظهرت سنة 1976 شركة مسرحية باسم "المسرح الجديد" معالفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري، ومحمد إدريس وجليلة بكار قدمت "التحقيق" و "العرس" و "الورثة" وغسالة النوادر" وفي سنة 1980 ظهرت فرقة "مسرح فو" مع توفيقالجبالي ورجاء بن عمار والمنصف الصائم ورؤوف بن عمر التي قدمت "تمثيل كلام" و "أمل" و "عرق" و "برج الحمام"، و "فاوست" وفي سنة 1981 ظهرت فرقة "المسرح العضوي" مع عزالدين فنون وفتحي العكاري وعزالدين العباسي قدمت مثلا "ليلة خريف" و "المصعد" كما ظهرت فرقة "مسرح الأرض" مع نور الدين الورغي.

وفي سنة 1983 تأسس المسرح الوطني وهو مسرح عموميحكومي بإدارة الفنان المنصف السويسي و تمّ تولي إدارته الفنان محمد إدريسوبالتالي فإن المسرح التونسي قد تعدّدت اتجاهاتهوأنواعه وشهد حركية واسعة في نهاية السبعينات وفي كامل الثمانينات طفرة نوعية على مستوى الإنتاج و المضمون لم تتحرّك بعد "مكينة" القمع البورڨيبي لإحكام سيطرته على هذا القطاع الذي شهد انتكاسة في عهد بن علي.

فالمسرح في عهد بن علي بدأ ينحدر بل تراجع خطوات للوراء وهذا راجع لعدم الايمان به كهيكل ولاختيار سياسي قائم الذات اذ لم تكن هناك سياسة ثقافية واضحة وطغت الرقابة وتحول المسرح الى مجموعات من الشارع تبث ثقافة السوق وهذا متواصل لليوم في ظل انفلات اخلاقي ولغوي غير مسبوق.

فمنذ نهاية الثمانينات ومع انقلاب نوفمبر1987 وصعود زين العابدين بن علي إلى سدّة الحكم، حكم المشهد المسرحي في تونس خطين موازين ،مسرح حكومييتمثل في المسرحالوطني وفي الفرق الجهوية التي تحوّلت إلى مراكز للفنون الدرامية و مسرح خاصيتمثل في فرقبدأت صغيرة ثم كبرت مع الأيام مثل فرقة "فاميليا" للمسرح مع الفاضل الجعايبي، وفرقةمسرح "فو" مع المنصف الصايم ورجاء بن عمار وفرقة "مسرح الأرض" مع نور الدين وناجيةالورغي، وفرقة "التياترو" مع توفيق الجبالي. وفرقة "مسرح الحمراء" مع عزالدين قنون.. و غيرها كثير، لكن المشهد المسرحي و على امتداد حقبة بن علي كان محكوما بقبضة من حديد و نار، لجنة للتوجيه المسرحي صلب وزارة الثقافة وهي لجنة رقابة، من مشمولاتها إسناد تراخيص و تأشيرة العروض ،دعم مسرحي لا يمكن أن يصل إلا للذين يثبتون ولائهم "لصانع التغيير" و أخيرا تلفيق تهم و السجن لكل من يحاول أن يغرّد خارج سرب الطاعة.

بن علي اشترى ذمم رجال المسرح ، استخدمهم  كقناع لإظهار الحرية والديمقراطية ، ليصير المسرح في تونس بوق دعاية للسلطة فعلى امتداد 23 سنة ارتبط المسرح التونسي بمختلف اشكال الرقابة، سياسية، دينية، فكرية واجتماعية وظلت العلاقة بين المبدع المسرحي والرقيب تتراوح بين المدّ والجزر والشدّ والجذب.

عن ذلك يقول المخرج المسرحي توفيق الجبالي في حوار مع صحيفة القدس العربي " السلطة بالنسبة لي ليست بن علي أو علي العريض، هؤلاء قيم أستقي منها أفكارا. والرقابة أيام الرئيس بورقيبة كانت أصعب من الحقبة اللاحقة لأن نظامه كان مبنيا على فكر، لذلك كان هيكل الرقابة آنذاك يشمل جامعيين ومفكرين لديهم إلمام بالمسرح ولكن كان هناك احترام للفن والفنانين.على العكس أيام بن علي تحولت الرقابة إلى رقابة بوليسية مخبرية، حيث تم تحديد بعض النقاط الكبرى التي لا بد من عدم التطرق إليها مباشرة ".

وعقب ثورة ''الياسمين''، يؤكد البعض، و رغم أن المناخ أضحى مواتيا لإنتاج وإعادة إنتاج أعمال مسرحية كانت ممنوعة سابقًا، فإن المشهد المسرحي اليوم يكتنفه واقع مؤلم مليء بالعديد من المشاكل والمعوقات، التي أثرت سلبا على عموم المشهد الثقافي في تونس، كما يقول بعض أصحاب الاختصاص، الذين أكدوا على وجود العديد من الصعوبات والتحديات التي يعاني منها المسرح ومنها غياب الدعم المادي والمعنوي ، حيث يطالب أهل المسرح في تونس بسنّ "قانون الفنان"، و تشكيل لجان لدراسة ملفات الدعم و النظر في بطاقات الاحتراف و صياغة مقترحات حول مستقبل المهنة والقطاع معًا.

من جانبها تؤكد الممثلة والفنانة المسرحية التونسية نورة العرفاوي، أنّ التيار الإسلامي بزعامة حركة النهضة دمّرالفن والحركية الثقافية في البلاد، فمنذ صعود النهضة عقب انتخابات 23 أكتوبر 2011 إلى سدّة الحكم، تقلّصت ميزانية وزارة الثقافة و بات الدعم موجه لوزارة الشؤون الدينية أكثر من غيره و على حساب الفن و الثقافة، إذ يبقى العائق المطروح حاليا و ما بعد ثورة 14 يناير ،نقص  الدعم المالي للإنتاج المسرحي والفني بصفة عامة.

لكن رغم ذلك يبقى لهذه "اللحظة التاريخية" التي تعيش على وقعها البلاد التونسية ، رجع صدى إيجابي على جميع الميادين الإبداعية وخاصة منها قطاع المسرح الذي ظل لعقود طويلة يعيش حالة من الكبت والإفراغ من محتواه والحياد عن أهدافه، فظهرت بعد سقوط نظام بن علي أعمالا عديدة لمسرحيات ذات مواضيع جريئة كانت في السابق من "المحظورات" وخاصة منها السياسية، غير أن الحركة المسرحية لم تكن فاعلة وتحتاج إلى مزيد من الوقت لتستوعب الحدث الراهن خاصة و أن الثورة التي قامت في تونس لم تكن لا ثقافية ولا فنية بل شعبية وباغتت المسرحيين على حين غفلة ، فهل يستفيق أهل المسرح في تونس و يقودون ثورة "ثقافية" في الأيام القادمة..؟