لم يكن المواطن الليبي قبل 8 سنوات يفكّر للحظة أن يكون مهجرا أو مشردا أو تتقاذفه القوى الإقليمية في إطار صراع النفوذ نحو أمواج كثيرة يتجه أغلبها نحو الغريق. ولم يكن عاقل يتصوّر أن تكون الحالة الليبية على ما هي عليه اليوم، بعد الآمال والشعارات الكبيرة التي زرعها "الفبرايريون" في أذهان جزء من الشباب الليبي. لكن والحالة كما يرى الجميع، كان من الطبيعي أن يكون لمن هندس لحظة التخريب خارجيا سعْيٌ للترقيع ببعض المبادرات في إطار حفظ ماء الوجه نظرا للحالة الصعبة التي عليها ليبيا ولحاجة تلك القوى إلى استقرار جزئي يبعد شبح الإرهاب ويخفف من أزمة الهجرة ويعيد أملا في اقتصادٍ مهمٍّ أعينهم عليه جميعا.

المبادرات التي طرحت أمام الليبيين منذ 2011 كثيرة. أغلبها في ظاهره تشجيع على الحل، وباطنه تدخل لمصالح خاصة. من فرنسا إلى إيطاليا إلى الولايات المتحدة إلى دول الإقليم؛ الجميع يصور نفسه الحزين على الوضع الليبي، والحقيقة أن الأغلبية كانت سببا في ذلك الحزن، مع بعض الاستثناءات في ذلك طبعا. لكن الخطوة الأهم والأكثر جدلا وطرحا للأسئلة أيضا، هي خطوة اتفاق الصخيرات، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس داخل ليبيا وخارجها، على أساس أنه الحل الأخير لليبيين للخروج من حالة الانسداد السياسي التي تسببت في كل الأزمات السياسية والأمنية.

طبعا القول بأنه اتفاق لكل الليبيين هو عملية تسويقية من بعض القوى الدولية في إطار البحث عن أي شرعية لكيان يكون مرضيا عنه منها لتمرير مشاريعها في البلاد. فالصخيرات ورغم عمليات الإشهار التي أحيطت به، كان مجرّد حلقة لأطراف معينة يهيمن عليها التيار الإسلامي، دون أخذ في الاعتبار بقية الحساسيات الليبية ذات القيمة الاعتبارية والرمزية في البلاد، بالإضافة إلى كونه اختار أن يكون معاديا لمعسكر الجيش الذي اختار العمل الأرض في إطار الحرب على الإرهاب أكثر من تركيزه على الأقل في تلك الفترة على الجابن السياسي.

موقف مجموعات الصخيرات من الجيش وقياداته في تلك الفترة يفهم في إطار سحب البساط. فالمجتمعون في المغرب كان يدركون جيدا الشعبية التي اكتسبها الجيش الليبي وقياداته في المنطقة الشرقية في إطار الحرب على الإرهاب، ويعرفون جيدا أن في ذلك كسب سياسي ينضاف إلى الكسب العسكري، لأن المنطق يقول أن النهاية سياسية بالأساس، والعسكر في تلك الفترة كان الرابح فيها بشكل كبير.

لكن العائد بالذاكرة إلى ما قبل العام 2015، يكتشف أن واقع البلاد كان أمام حتمية تدخلات خارجية، بين ضغط وإغراءات من أجل إيجاد رجّة ولو نفسية في الليبيين. فالبلد ما كان ليتحمل كل ذلك الجمود أكثر من تلك الفترة. الحقيقة أنه حتى الرافضين لمسار الصخيرات متفهمون لهذا الأمر، ولم يكونوا رافضين قطعيا لمشاورات تتم برضى كل الأطراف، كان شرطهم فقط أن تكون لليبيين الكلمة الفصل في المسائل المصيرية، المتصلة بالجيش والمصالحة والإرهاب التي يسعى الخارج بكل أطرافه إلى التدخل في مشاوراتها.

هل كان اتفاق الصخيرات نوعا من الضرورة؟ ربما نعم، بغض النظر عما أحيط به قبل التوقيع وخلاله وبعده. فليبيا في تلك اللحظة الصعبة كانت مهددة في وحدتها الجغرافية، وفي مستقبلها ككيان موحد. كما كانت مهددة في أهم ركيزة لها وهو اقتصادها بعد الانتشار الكبير للمليشيات ومافيات النفط والمال التي كانت منتفعة من حالة الفوضى وعدم الاستقرار، بالإضافة أيضا إلى الخطر الأكبر وهو الإرهاب الذي سيطر على جزء من جغرافية البلاد، أين أعلن عن نفسه قوة بطش لا رادع ولا رادّ لها، حيث احتل مناطق بالكامل وأعلن عن إمارته فيها كجزء من دولة الخلافة التي بدأ مشروعها في العراق والشام.

من ذلك المنطلق، ومن تلك الأسباب كان من الضروري البحث عن مخرج ولو وقتي يخلق حالة حوار بين المختلفين، ويرسل رسالة طمأنة لشعب أصبح يعيش يوميا على صورة الدم والرصاص وكان باحثا وراضيا بأي مشروع سياسي يبعد عنه ذلك الشبح المفزع. وفي كل ذلك كانت دول الجوار بدورها تنتظر أي مشروع فيه نوايا التغيير باعتبارها تتخوف من أخطار الداخل عليها، فكانت النتيجة في اتفاق الصخيرات الذي مازال إلى اليوم مثار جدل بين الفرقاء السياسيين لأنه كان اتفاقا بين الأطراف الإسلامية والمحيطين بها والراضين عنه دون أخذ في الاعتبار بقية الكيانات الليبية التي تريد أن يكون لها رأي في مستقبل البلاد.

المؤكد في الواقع الليبي أن لا شيء دائما، بالنظر إلى مناخ عدم الثقة الذي أصاب الجميع، لكن المؤكّد أيضا أن بعض الظروف تستوجب حركة ما في التاريخ لتغيّر ما يمكن تغييره، وعلى ذلك الأساس تم التعامل مع الأزمة الليبية. فالقوى الغربية أدركت بشكل متأخر، أو ربما أرادت هي التأخير لغاية في نفس أصحابها، أنه عليها التحرك وفرض ضغوط على الفاعلين السياسيين لخلق كيان سياسي يتم الاعتراف به ويكون ممثلا لليبيين ويحضى بالشرعية الخارجية، فكان اتفاق الصخيرات الذي مازالت مخرجاته سارية رغم المحاولات المستمرة لتغييرها في إطار بوادر حسن النية بين شرق البلاد وغربها، وهي بوادر خلقت لأجلها أيضا مبادرات في أكثر مكان بداية من دول الجوار إلى باريس إلى باليرمو.